مدن عراقية
تكريت في عصور ماقبل الإسلام
للمؤلف المؤرخ ابراهيم فاضل الناصري
عرض : كوثر جاسم
في
خزائن دار الكتب والوثائق مالذ وطاب من الكتب الجميلة التي
تجذب الباحث والقارئ وطلبة الدكتوراه والماجستير وغيرهم من
طلبة العلم بمختلف المراحل العلمية، اليوم كتابنا يتحدث عن
مدينة تكريت للمؤرخ ابراهيم فاضل الناصري والذي يحمل عنوان
(تكريت في عصور ماقبل الاسلام) والواقع بـ82 صفحة وبالحجم
المتوسط.
الحديث عن مدن العراق يطول كونها تزخر بتاريخ عريق واثار
تراثية جميلة وغيرها من العوامل التي تجذب الانسان للسكن فيها
وعن مدينة تكريت ذكر المؤرخ لمحة طوبغرافية عنها قائلا:
*ان لموقع مدينة تكريت التاريخية اثرا مهما وفاعلا في سفر
تراثها العريق الممتد في الازل سواء كان ذلك في قيامها او في
تبلور مدينتها او في تخصص شأنها وبروز دورها خلال تداول الدول
والعصور عليها باعقاب قيامها.
تقع مدينة تكريت على ضفة نهر دجلة الغربية عند المكان الذي
يتوسط المسافة تقريبا مابين بغداد وبين الموصل اذ تبعد عن
الاولى 180 كم وتبعد عن الثانية 225 كم وبهذا فهي تقوم على خط
طول 43,5 درجة وخط عرض 34,5 درجة مما يجعلها تتمركز في الموضع
الذي يشكل عقدة (اي ملتقى) طرق المواصلات الرئيسة لمدن الجهات
الاربع القديمة، ولهذا الامر اهميته السوقية في النواحي
الاقتصادية للعالم القديم وخاصة نواحي التجارة والنقل.
وتكون حياضها ضمن ارض وسط بين مناطق متغايرة في المناخ وغنية
بشبكات الري الامر الذي يجعل الزراعة فيها تكون متنوعة مستمرة
طوال ايام السنة. اما سطحها فيتكون من الآجر الجيري الصلب
والصخور الصلصالية الطينية، ونهر دجلة الخالد شق مجراه في
موضعها عبر دورات الزمن وتحادد ضفافه عند قصبتها مرتفعات صخرية
مما جعل مجراه في الموضع ثابت وغير قابل للتبدل الامر الذي
ساعد في الاستقرار السكاني الدائم فيه. وكان هذا الموضع احد
الامكنة التي سكنتها احدى الاقوام السامية الاول التي نزحت من
الجزيرة العربية بعد الجفاف الذي حل في الجزيرة في اعقاب
الدورة الجليدية الرابعة في العالم والتي سماها اهل الآثار
والتأريخ باسم (الفراتين الاوائل) او الاقوام الجزرية.
*وعن تفسير الاسم ذكر الناصري:
على الرغم من كون مدينة تكريت التأريخية قد حافظت على اسمها
الاول الذي اقترن فيها منذ فجر نشأتها وتفتق مدينتها البكر
كذلك قد حافظت على حركات تلفظ هذا الاسم منذ فجره التكويني،
غير ان معناه الحقيقي الذي ينطوي عليه بقي غير محدد الدلالة او
التفسير والتاويل برغم ورود عدة تفسيرات او تاويلات قديمة
وحديثة بشأنه لكون هذه التأويلات او التفسيرات قد جاءت وهي
تتناقض وحقيقة تاريخ المدينة الأبعد قدما مما دلت عليه اذ ان
اغلبها اغفل البعد الزماني اي (العمق التاريخي) الذي امتلكته
هذه المدينة والذي هو سابق بكثير لما حدد في التفسير او
التاويل الاصطلاحي وهذا ناتج من ان هؤلاء المفسرين البعض منهم
اعطى رأيه في وقت لم يتوصل فيه بعد علم الاثار لاكتشاف دلالات
الرموز المسمارية ومن ثم فك لغز مضامين الالواح الطينية
الكتابية التي نقشت بها والتي كان لتكريت نصيب واضح ووافر في
الذكر خلالها، وان البعض الاخر اتخذ منهجا غير علمي في التفسير
من خلال التسليم الاعمى او التقيد التقليدي بنصوص المادة
التاريخية الموروثة او المتواترة او النقل الحرفي للاخبار
دونما تمحيص وتحليل او سبر، مسلمين بما وقع بين ايديهم من
موروث كتابي اي انهم كانوا اقرب الى الصيغة النسخية منهم الى
المنهج الاستقرائي التحليلي العلمي فكانت بعض تأويلاتهم او
تفسيراتهم بعيدة جدا عن الحقيقة والواقع لمعنى الاسم (تكريت).
فمثلا احد المراجع الحديثة يرى ان جنس التسمية لتكريت ذو اصل
لغوي سرياني وبالتحديد يعود الى القرن الميلادي الاول (المائة
الاول للميلاد) ويدل على معنى (محل التجارة او المتجر) وهذا
الرأي ضعيف لأنه قد جعل تاريخ اطلاق الاسم يتزامن والشوط الاول
لمبتدأ التاريخ الميلادي علما ان الحقيقة المكتشفة لاحقاً
لصيغة الاسم (تكريت) اول ماجاءت لتصور النطق الصوتي للاسم في
اللغة الاكدية التي تعتمد الحروف المسمارية وهي غير السريانية
التي تعتمد الحروف الابجدية في الكتابة والنطق كما انها قد
سبقت السريانية بعشرات القرون حيث انها كانت لغة الاقوام
الجزرية التي سكنت ارض الرافدين ومنها منطقة قيام تكريت على
وفق ماتظهر الواح الطين.
كما ان بعض المصادر العربية كمعجم البلدان لياقوت الحموي
وتقويم البلدان لأبي الفدا والروض المعطار للحميري كلها تذكر
أن اسم تكريت استخلص من اسم امرأة عربية الاصل يزعمون انها
حكمتها وانها كانت تسمى (تكريت بنت وائل) مستوحين رأيهم من
رواية محلية غير ناضجة شابتها الاسطورة نوعا ما، نمت وترعرعت
في واقع المدينة المعاصر لمرور اسبقهم واعني به (ياقوت الحموي)
الناقلين منه جميعا وقد عزز وجودها واعطاه دعما تاكيديا حال
نقلها على علاتها من قبل المذكور دون تن ينظر الى ضعفها الذي
يكمن في سببين الاول عدم وجود هذه الشخصية النسائية التي سماها
(تكريت بنت وائل) في تراث الانساب لعرب العراق والجزيرة المدون
او المتواتر عبر الاجيال، وثانيهما ان اسم تكريت كان موجودا
قبل تأريخ نسبة هذه الرواية بمئات السنين وخير مثال هو ورود
الاسم في لوح مسماري يعود الى (القرن السادس عشر قبل الميلاد)،
حيث لم تولد بعد تلك القبيلة التي تنسب اليها الفتاة المزعومة
والمسماة (تكريت بنت وائل) . وهذا الرد الموضوعي يوجه ايضا ضد
مااورده الاب لويس شيخو في مجلة (المشرق) لعام 1913 والى
ماذكره الاب انستاس ماري الكرملي في كتابه (خلاصة تاريخ
العراق) وايضا ماذكره المطران بولس هندوا في كتابه (تاريخ
مقارنة المشرق) باللغة الفرنسية وكذلك ماذكره عبد الرزاق
الحسني في كتابه (العراق قديما وحديثا) حيث ان الذوات تناقلوا
من بعضهم البعض ان: تكريت تسمية رومانية جاءت اختصارا لاصل
كلمتين لاتينيتين هما (ميونا) و(تايكردس) والتي تعنيان باللغة
العربية قلعة دجلة. اذ ان رأيهم المذكور هذا ضعيف جدا ومردود.
وفي ضوء ما تقدم من تحليل نقوم بطرح معنى اسم تكريت الذي انطوت
عليه الحقيقة التاريخية الغتئبة فنقول موقنين: بما ان التسمية
القديمة قد جاءت بعدة صيغ مسمارية متقاربة الشكل مثل (تكريتان
وتكريتو وتكريتا وتكريتينو وتكريتا اين وتجرتو وتجرنو) فهذا
يعني ان الشق الاول في كل من هذه الصيغ المذكورة والمتمثل في
المقطوعة (تكر) هي في قاموس اللغة الاكدية (بلهجتيها البابلية
والاشورية) تعني ثغر وهي مرادف اغوي لمصطلح قلعة او معنى حصن
او معقل.
وهكذا نجد ان تكريت بالرغم من تقلب الاقوام والامم وتداول
الدول والحضارات فانها احتفظت وحافظت على اسمها الاول الذي
رافقها منذ عهد قيامها المتجذر في القدم مبرهنا على عمق
اصالتها الحضرية وثبات هويتها المدنية.
*اما الدلائل الاثرية التي ذكرها المؤلف عن تكريت فنطالع:
لعل اقدم ماوجد من آثار في تكريت او عنها هو الذي يعود الى
منتصف الالف الثالث قبل الميلاد وتحديدا الى العصر الاكدي حيث
عثر المستشرق السويدي أرك هانسون في تل الخسفة الذي يتوسط
تكريت القديمة (بمحاذاة خندق القلعة) على مجموعة من اللقى منها
ختم اسطواني جاءت نتائج فحصه من قبل خبراء ألمان تؤكد انه يعود
الى العهد الاكدي الوسيط كما ولعل من اقدم ما وجد في ركام
طبقاتها الارضية العليا من آثار هي التي تعود الى منتصف الالف
الثاني قبل الميلاد وتحديدا الى العصرين المتزامنين الكاشي
والاشوري ، حيث عثر على مجموعة لابأس بها من القطع الاثرية
والفخاريات المتنوعة الاشكال والاغراض من التي تعود الى
العهدين المذكورين. كما لاننسى مجموعة القبور الآشورية التي
بنى قسماً منها على وفق تظام الكتكوم (وهو نظام بنائي للقبور
متقدم على عهده) ويتمثل بسرداب او قبو على شكل مستطيل له مدخل
ضيق ودرج ويوجد في كل ضلع من اضلاعه الاربعة مجال محفور بحجم
جثة الانسان . وان الاثار الشاخصة للعيان في الجهات المحيطة
بتكريت على هيئة تلال تمثل موتاقع اثارية تنطوي حقيقتها على
حالة وزجاجية ومعدنية واكتشاف آنيات وفرب وجرار وكسر ادوات
خشبية وفخارية وعظمية كذلك تم العثور على اختام تعود للازمنة
الآشورية والبابلية وهذا ليس بالغريب على تكريت التي عرفت
عبادة اله الشمس الذي يرمز له بالنسر او عبادة الهة الحرب التي
يرمز لها بالحيوانات الاسطورية المخيفة.
ومما تقدم نستنتج ان تكريت كانت لها مكانة ودور عظيمان في نفوس
الملوك والقادة الأكديين او الآشوريين او البابليين الاموريين
او البابليين الكلديين او غيرهم من الاقوام المتغلبة في
المنطقة سواء كانت غريبة او قريبة لأهميتها السوقية والتعبوية
ولقيمة ومكانة من سكنها من جنس العرب الساميين القدماء من
المشهورين بالجزريين او الفراتيين الاوائل والذين جاء عهدهم
قبل العرب العاربة بزمن طويل.