بسم الله الرحمن الرحيم
رمضان محطة سفر إلى الجنة!
المقدمة
المجال الرابع : الإخلاص
ميادين تأهيل المسافر في هذه المحطة للسفر إلى الجنة.
المجال الخامس : قيام الليل
الميدان الأول: صيام نهار الشهر المبارك.
المجال السادس: اجتماع كلمة المسلمين على الحق
الميدان الثاني: الصبر في "شهر الصبر" المجال السابع: بذل العون للمستحقين
الميدان الثالث: "مصاحبة القرآن في "شهر القرآن" المجال الثامن : الصيام عن المعاصي
رمضان محطة سفر إلى الجنة (2)
المسافر لا بد له من استعداد لسفره، والاستعداد للسفر يختلف باختلاف الجهة التي يراد السفر إليها.
فقد تكون جهة السفر قريبة من دار المسافر، وبيئتها مشابهة لبيئة بلده، من حيث الجو والعادات والطعام واللباس، وغير ذلك من أنواع الشبه، وقد تكون بعيدة، مختلفًا جوُّها وعاداتُ أهلها وطعامهم، عن عادات بلده، ولقرب البلد وبعدها، وشدة شبهها لبلاد المسافر أو شدة مخالفتها، تأثير في استعداده للسفر...من حيث الزاد والراحلة، اللباس وغيرها...
وقد يكون السفر إلى ديار تختلف اختلافا شديدا عن داره، كرحلات رواد الفضاء إلى الفضاء الخارجي، وقد يبقى في الفضاء شهورا أو أكثر، بل قد يكون سفره إلى أحد كواكب السماء، كالقمر، وهو في سفره إلى هذه الديار، يحتاج إلى استعداد غير عادي، فيحتاج إلى تدريبات قاسية مشابهة شبها كبيرا للحالة التي سيكون عليها في المركبة الفضائية، وفي جو شبيه بنفس الجو الذي سيكون عليه، في تلك الرحلة.
كما يحتاج إلى ملابس تختلف عن ملابس الأرض العادية، بل يحتاج إلى حمل الهواء "الأكسجين" من الأرض، ليبقى هناك على قيد الحياة، ويحتاج إلى طعام يناسب تلك الأجواء التي سينتقل إليها، كما يحتاج إلى نفقات باهظة، وراحلة غالية ... وهذا ما نرى أمثلة له لهؤلاء المسافرين.
ولهؤلاء المسافرين محطات معينة، أعدت إعدادا خاصا لتدريبهم، وإعدادهم إعدادا عظيما، للقيام بهذا السفر العجيب.
ونحن نتمنى أن يكون عندنا صناعة لهذه الأسفار، لاكتشاف الفضاء والاستفادة من طاقاته ومنافعه، لكن مع ملء الأرض بالصلاح، ومنح أهلها الطعام والشراب واللباس، والسعادة والعدل والأمان.
هذه الأسفار كلها مرتبطة بدار واحدة، سواء كانت في الأرض أو في السماء، تسمى "دار الدنيا"
أما السفر المقصود هنا، فهو سفر من نوع آخر، وإلى ديار أخرى، وخط سير يختلف اختلافا كبيرا، عن خطوط السير في حياتنا المعتادة، أول هذا الخط إقلاع الروح من مطارها "الجسد" إلى بارئها، ثم إلى حياة البرزخ الفاصل بين الدنيا والآخرة، ثم البعث والجزاء والحساب، والمرور إلى الصراط، إلى أن يصلوا إلى آخر محطة للسفر، وهي الدار الآخرة "الجنة"
إنه السفر إلى دار تسمى "الدار الآخرة" سفر غاية أهله القرار في رحاب الله "الجنة" التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، سفر زمنُ الاستعدادِ له العمرُ كله، وزاده السعي المتواصل إلى رضا الله تعالى وتقواه، بعمارة الأرض عمارة تحفظها من الفَسادَينِ: الفسادِ المادي والفسادِ المعنوي، عمارة تجلب للإنسان فيها حياةَ سعادةٍ وأمنٍ ورخاء.
ولهذا السفر محطات تدريب في هذه الحياة، يديرها منهج الله على مدار الدقائق والساعات والأيام، والأسابيع والشهور والأعوام، والقرون والعصور، والأجيال والدهور، لا يقطع فيها العملَ إلا هادمُ اللذات ومفرق الجماعات....بل يرحل كثير من المسافرين، و لهم أعمال باقية بعدهم تُمطِرهم بشآبيب الرحمة، وتمدهم بأنواع الحبور والنعمة.
ويشمل تلك المحطات كلها، قيام المسلم بطاعة ربه تعالى، بإيمانه وعمله الصالح الشامل، لكل ما جاء به هذا الدين، من أصول الإيمان وفروعه، وأصول الإسلام، وأحكام الشريعة من فعل فرائض ونوافل طاعات، وترك محرمات ومكروهات، ومن أركان الإسلام ومحطات المسافرين إلى الجنة "شهر رمضان" شهر الصبر وشهر الطاعة والصيام، شهر الإكثار من قراء القرآن وشهر التهجد والقيام، شهر يغلق الله فيه عن المتقين أبواب النار، ويفتح لهم فيه برحمته أبواب الجنة دار القرار.
إن الهدف من التدريب في هذه المحطة، هو تأهيل المتدرب لهذا السفر، الذي لا يوجد له نظير في هذه الحياة، فلا يحتاج المسافر إلى إذن سفره من أقاربه، وعلى رأسهم الأبوان، ولا من رؤسائه في عمله، ولا إلى جواز سفر من دولته، ولا تأشيرة دخول من دول عالَم الدنيا كلها...
كما لا يحتاج إلى عملة أجنبية غربية، أمريكية أو أوربية، أو شرقية يابانية، أو شيكات سياحية، أو بطاقة ائتمان احتياطية، وليس في حاجة إلى تذكرة سفر لأي خطوط طيران، من شركات الخطوط الجوية العالمية، ولا غيرها من وسائل المواصلات الأخرى برية: درجات، أو سيارات، أو قطارات، أو حافلات جماعية، أو بحرية بواخر وعبارات ....
وليس في حاجة إلى حقيبة سفر، يملأها بملابسه، وما يحتاجه إليه في تنقلاته... كل ذلك لا يحتاج إليه المسافر إلى الجنة، وفي الحلقة القادمة إشارات إلى ما يحتاج إليه من تدريب، ووسائل سفر تختلف عن أسفار الدنيا كلها.
وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم، حقارة دار الدنيا هذه، وسرعة السفر منها إلى الدار الآخرة، قال البخاري "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل" ثم ساق حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي، فقال: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) وكان بن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك" [البخاري (5/2853)].
ومثله حديث عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما لي وللدنيا، إنما مثلي ومثل الدنيا، كمثل راكب قال تحت شجرة في يوم صائف، فراح وتركها) أخرجه الحاكم في المستدرك (4/345) وذكر ه ابن كثير في تفسير القرآن العظيم (4/523) وقال: "ورواه الترمذي وابن ماجة من حديث المسعودي به وقال الترمذي حسن صحيح"]
ميادين تأهيل المسافر في هذه المحطة للسفر إلى الجنة.
المسافر إلى الجنة يحتاج إلى تدريب يؤهله لهذا السفر المبارك، وميادين التدريب كثيرة، نذكر أهمها بإذن الله.
الميدان الأول: صيام نهار الشهر المبارك.
"الصوم المشروع هو الإمساك عن المفطرات، من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس" [المغني لابن قدامة (3/4)]
أما الصيام في لسان العرب، فهو مطلق الإمساك عن أي شيء، فلو أمسك غير المسلم عن المفطرات، في نهار رمضان أو غيره، اعتبر صائما في اللغة العربية، ولو أمسك المسلم عن ذلك في نهار رمضان أو غيره، قاصددا التداوي بذلك وليس أداء العبادة، فهو صائم في اللغة العربية.
ولو صام المسلم ليلا وأفطر نهارا في شهر رمضان، قاصدا بذلك العبادة، لم يعد صائما الصيام الشرعي، لأنه لم يصم في النهار.
فقد فرض الله صيامه نهارا، لا ليلا، فقال تعالى بعد أن ذكر وجوبه: ((أياما معدودات فمن شهد منكم الشهر فليصمه)) والأيام إذا أطلقت يراد بها أوقات النهار، وأكدت ذلك سنة الرسول القولية، والفعلية، وعلى ذلك إجماع الأمة.
والصيام قسمان:
القسم الأول: صيام مفروض للوقت أي يجب على المسلم أن يصومه، بمجرد دخول وقته، وهو شهر رمضان المبارك، الذي هو أحد أركان الإسلام الخمسة، وهي الشهادتان، والصلاة، والزكاة، والحج، يأثم تاركه، ويكفر جاحده، كما تجب الصلاة بمجرد دخول وقتها.
وصيام مفروض لإيجاب الإنسان ذلك على نفسه، وهو صوم النذر الذي يجب الوفاء به [اقرأ الآية 7 من سورة الإنسان]
وصيام مفروض للكفارات، كالحنث في اليمين، فيجب صيام ثلاثة أيام، إذا لم يجد إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة مؤمنة، [اقرأ الآية 89 من سورة المائدة]
وصيام شهرين متتابعين لمن قتل مؤمنا خطأ، ولم يجد تحرير قبة مؤمنة [اقرأ الآية (92) من سورة النساء] ومثله مَن ظاهر من زوجته ثم عاد إليها ولم يجد رقبة يعتقها [اقرأ الآيتين 3،4 من سورة المجادلة]
و صيام مفروض على من حج قارنا أو متمتعا ولم يجد الهدي، فإنه يصوم عشرة أيام ثلاثة في الحج، وسبعة إذا رجع، [اقرأ الآية (196) من سورة البقرة]
القسم الثاني: صيام مندوب،،، وسيأتي الكلام عنه في بعض الحلقات بإذن الله.
والذي يعنينا هنا هو صيام شهر رمضان المبارك، فقد فرض الله على المسلمين صيامه، كما كتب عليهم النطق بالشهادتين، والصلاة والزكاة والحج، وهذه الأربعة مع صيام رمضان هي مباني الإسلام وأركانه.
وقد دل على وجوب صومه القرآن والسنة القولية والفعلية، وإجماع الأمة:
قال تعالى: ((ياأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)) [البقرة (183)]
ومن السنة القولية، ما رواه ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان).[البخاري (4/1641) ومسلم (1/45) واللفظ له]
ومن السنة الفعلية، حديث أنس رضي الله عنه، قال: "واصل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول شهر رمضان، فواصل ناس من المسلمين، فبلغه ذلك، فقال: (لو مد لنا الشهر لواصلنا وصالا يدع المتعمقون تعمقهم، إنكم لستم مثلي، أو قال إني لست مثلكم، إني أظل يطعمني ربي ويسقيني) [البخاري (3/796) و مسلم (2/776) واللفظ له]
وأجمع المسلمون على أن صيام شهر رمضان فريضة لازمة لكل مسلم بالغ قادر، خلا من عذر شرعي. [المغني لابن قدامة (3/3)]
كيف يؤهل الصيام صاحبه للسفر إلى الجنة؟
المسلم الذي يصوم رمضان، إيمانا بالله وبرسوله واليوم الآخر، محتسبا صيامه وأعماله الصالحة فيه عند ربه، جدير بأن يكون أهلا للسفر إلى جنة الخلد...
فالصائم بهذه الصفة، قد سيطر على نفسه وهواه وشيطانه، وهذه الثلاثة هي التي تلازم الإنسان وتلجئه إلى تعاطي أي شيء يشتهيه، ما لم يصده عنها صاد حسي أو معنوي.
المانع الحسي عدم قدرة الإنسان على تعاطي ذلك، إما بفقد الْمُشْتَهى، وإما لرقابة بشريه تحجزه عن ذلك مع وجوده، وهذا المانع غير مُجْدٍ إذا وجد المشتهى، وفقد الحاجز.
أما المانع المعنوي المؤثر، فهو ما يصاحب الإنسان في كل حالاته: في حال خلوته بنفسه وعدم وجود المخلوقين معه، وفي حال جلوته ، أي اختلاطه بالناس، هذا المانع هو قوة إيمانه بربه، واستحضار عظمته، وكمال إحاطة علمه، وكمال قدرته على مجازاته، فرقابته رقابة إلهية تصبح عنده رقابة ذاتية، ثابتة في قلبه، مانعة لجوارحه من الإقدام على ما لا يرضي ربه.
وذكر العلماء أن من أسباب قول الله تعالى في الحديث القدسي: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا الذي أجزي به) أن الأعمال الأخرى غير الصيام واضحة يستطيع فاعلها أن يرائي بها الناس، كالصلاة والزكاة والحج، بخلاف الصوم فإنه بين الصائم وبين الله، لأنه عبادة غير ظاهرة.
فصيام المؤمنِ الصادقِ الإيمان، يجعله في مقام المراقبة الدائمة لربه تعالى، متمثلا كمال علمه المحيط بكل شيء، وكمال قدرته التي تصرف كل شيء، كما دلت على ذلك الآيات والأحاديث الصحيحة الكثير:
قال تعالى: {قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في السماوات وما في الأرض والله على كل شيء قدير يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه والله رؤف بالعباد}.آل عمران: 29-30.
وفي حديث جبريل المشهور قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك) [مسلم (1/37)]
ومن كمال قدرته وكمال علمه تعالى، أن جعل أعضاء الإنسان تسجل عليه أعماله التي يباشرها بتلك الأعضاء، فإذا جاء وقت الجزاء والحساب شهدت عليه بكل ما اقترف، وأين يفر الإنسان من جلده وسمعه وبصره ويده ورجله، وهي تلازمه في كل مكان، بل بها يتعاطى الخير أو الشر؟!
إن أعضاء الإنسان آلات تصوير-كمرات-تصور حركاته في الليل وفي النهار في الضوء وفي الظلمة، في السر وفي العلن، وهي كذلك آلات تسجيل-كاسيت-تسجل أصواته لتحتفظ بها، فتفاجئه بما لم يكن يتوقع من شهادتها عليه، قال تعالى: ((ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون، حتى إذا ما جاؤها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين}. حم السجدة : 19-23.
وقال تعالى: {يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون}. النور: 24
وهذه هي حال الصائم، الذي يمتنع عما تشتهيه نفسه، وقد تشتد حاجته إلى تناوله، مما هو مباح له شرعا في الأصل، وبخاصة الطعام الذي لا يُدفع الجوع إلا به، والشراب الذي لا يُدفع العطش إلا به، ومعاشرة زوجه التي قد تلح على تعاطيها غريزته، وكل تلك الأمور تكون غالبا متاحة له، وفي متناول يده.
فإذا امتنع المؤمن عن تلك المشتهيات، مستحضرا عظمة الله، راغبا فيما عنده من الرضا والثواب، ورهبة مما سيلقاه - لو عصاه - من السخط والعقاب، فإنه بذلك يستحق أن يكون من وفود المسافرين إلى الجنة، التي لم يعدها الله تعالى إلا لعباده المؤمنين...
والمؤمن الحق الذي يترك ما هو مباح له في الأصل طاعة لربه، سيترك ما هو محرم عليه في الأصل من باب أولى، وبذلك يكون طاهر القلب، نظيف الجوارح، طيب السيرة، صادق السريرة، مؤهلا للقاء الله في دار ضيافته.
الميدان الثاني: الصبر في "شهر الصبر"
ورد في بعض الأحاديث [من حديث أبي هريرة وسلمان وغيرهما] تسمية رمضان بـ(شهر الصبر)كما في مسند أحمد (2/263) وسنن أبي داود (2/322) والسنن الكبرى للنسائي: وفيه (شهر الصبر، وثلاثة أيام من كل شهر، صوم الدهر) (2/134) وفي سنن النسائي(4/218) وسنن ابن ماجه (1/554) ومن المراجع التي ذكر فيها ذلك، صحيح ابن خزيمة بلفظ (وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة) (3/191) وفي صحيح ابن حبان: (صوم شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر، يذهبن وحر الصدور) [(14/498) ومعنى "وحَر الصَّدر" : "غِشُّه ووساوسُه. وقيل: الحقد والغيظ. وقيل: العداوة. وقيل: أشدّ الغضب." والمراد سلامة صدر الصائم من تلك الأمور]
وقال في مجمع الزوائد: رواه أحمد والطبراني في الكبير، إلا أنه قال ثنا رجل من عكل ورجال أحمد رجال الصحيح (3/196)
قال في عون المعبود: قال الخطابي "شهر الصبر هو شهر رمضان، وأصل الصبر الحبس، فسمي الصيام صبرا، لما فيه من حبس النفس عن الطعام، ومنعها عن وطء النساء وغشيانهن، في نهار رمضان (7/58)
وهو جدير بأن يسمى (شهر الصبر) لأن الصائم يصبر فيه تسعة وعشرين أو ثلاثين يوما، على الامتناع عما يصعب الكف عنه، وأعظمه الطعام والشراب والوقاع كما مضى.
ولا شك أن الصبر عن هذه الأمور في هذه الأيام المتوالية، من أهم مجالات تدريب النفس على الصبر على أوامر الله بفعلها، وعلى نواهي الله بتركها، في هذا الشهر وغيره.
وصبر العبد على طاعته لله في أمره ونهيه، جزاؤه الجنة، ومرافقة أولياء الله من الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين.
كما قال تعالى: ((ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيق))[النساء (69)]
و قال تعال: ((ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم)) [النساء (13)]
والصبر عدة المؤمن التي ينال به الرضا بقضاء الله، عندما يبتلى في نفسه وأهله وماله، وهو من المبشرين بهدى الله، وأن تغشاه رحمته، ويحظى بصلواته عليه، كما قال تعالى:
((ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين (155) الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون (156) أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون)) (157) [البقرة]
قال الطبري رحمه الله: "وقد قيل: إن معنى الصبر في هذا الموضع الصوم، والصوم بعض معاني الصبر عندنا، بل تأويل ذلك عندنا أن الله تعالى ذكره أمرهم بالصبر على ما كرهته نفوسهم، من طاعة الله وترك معاصيه، وأصل الصبر منع النفس محابَّها وكفها عن هواها، ولذلك قيل للصابر على المصيبة صابر لكفه نفسه عن الجزع، وقيل لشهر رمضان شهر الصبر لصبر صائمه عن المطاعم والمشارب نهارا..." [جامع البيان عن تأويل القرآن (1/259)]
وممن فسر الصبر في آية البقرة السابقة، بصيام شهر رمضان، الإمام الشافعي رحمه الله، قال القرطبي: "وقال الشافعي هو الجوع في شهر رمضان" الجامع لأحكام القرآن [(2/173)]
والمؤمن وحده هو الذي يحظى بالخير في سرائه وضرائه، بما منحه الله من الصبر على الحالين، كما في حديث صهيب رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عجبا لأمر المؤمن! إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرا له) [مسلم (4/2295)]
وقد أمر الله عباده المؤمنين، أن يستعينوا بالصبر والصلاة على قيامهم بما يرضيه، من تعلم دينهم الذي جاء به رسوله، وتزكية نفوسهم به، ومداومتهم على ذكره وشكره، كما قال تعالى:
((كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم مالم تكونوا تعلمون (151) فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفروني (152) ياأيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين)) (153) [البقرة ]
وفسر بعض العلماء الصبر هنا أيضا بصوم رمضان، قال القرطبي: "وقول ثالث قال مجاهد: "الصبر في الآية الصوم" ومنه قيل لرمضان شهر الصبر، فجاء الصوم والصلاة على هذا القول في الآية متناسبا، في أن الصيام يمنع من الشهوات ويزهد في الدنيا، والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وتخشع، ويقرأ فيها القرآن الذي يذكر الآخرة والله أعلم" [الجامع لأحكام القرآن (1/372)]
والصبر له آثاره في سلوك صاحبه، في مقامات كثيرة من حياته، يعينه فيها على فعل طاعة ربه، وترك معصيته، من تلك المقامات:
1- مقام الجهاد في سبيل الله، ومقارعة الأعداء، دفعا لعدوانهم، وتحطيما لسدود الصد عن تبليغ الإسلام إلى الناس، فالمجاهدون في سبيل الله يثبتهم الله بالصبر وهم قليلة، ويمنحهم النصر على الأعداء وهم فئة كثيرة، ويكون تدريب المجاهدين واختبارهم، هو طاعة قائدهم، في تحديد كمية ما تشتهيه أنفسهم مما هو مباح لهم في الأصل، كشرب الماء، وهو شبيه بالصيام.
قال تعالى: ((فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين)) [البقرة (249)]
والصبر قرين الجهاد في فتح أبواب الجنة، كما قال تعالى: ((أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين)) [آل عمران (142)
2- مقام الدعوة إلى الله التي ينال فيها الدعاة إلى الله وأتباعهم من الفتنة والأذى، ما لا طاقة لهم على تحمله إلا بالصبر، كما قال تعالى: ((ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبإ المرسلين)) [الأنعام (34)]
وقال تعالى: ((فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون)) [الأحقاف (35)]
وقال تعالى: ((ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم)) [النحل (110)]
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم، يربي أصحابه على الصبر في وقت الشدة والضعف، على الصبر على ما يصيبهم من أذى، اقتداء به.
كما في حديث خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ قال: (كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض، فيجعل فيه فيجاء بالمنشار، فيوضع على رأسه، فيشق باثنتين وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون) [مسلم (2/1322)]
3- مقام الاعتداء على الصائم بالسب والشتم أوالمقاتلة، التي يحق له فيها أن يعامل من يسبه ويشتمه بمثل ما فعل، ولكنه يؤثر عدم استعمال هذا الحق، ويتقي خصمه بصبره وصيامه، كما في حديث عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الصيام جنة، فلا يرفث ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه، فليقل: إني صائم مرتين، والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك، يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي، الصيام لي وأنا أجزي به والحسنة بعشر أمثالها) [البخاري (2/670)]
وصبر الصائم على الشتم والسب أمر مطلوب، أما صبره على المقاتلة، بحيث يُعتَدَى عليه بالضرب ونحوه، ففيه إشكال، وهو أن المسلم مأمور بالدفع عن نفسه، وسكوته على العدوان عليه بالفعل، استسلام وخضوع لا يليق به، وأجيب عن ذلك بجوابين:
الجواب الأول: أن المقاتلة تأتي بمعنى المشاتمة، وهي تأتي بمعنى ذلك، وعلى هذا فلا إشكال.
الجواب الثاني: أن المراد بالمقاتلة تهيؤ المعتدي على الصائم لمقاتلته، وليس المراد مباشرة ذلك فعلا، فإذا رأى الصائم من خصمه استعدادا لمقاتلته، فعليه أن يبادره بقوله: (إني صائم) لعل ذلك يجعله يرجع عما عزم عليه.
فإن تمادى وبدأ بمقاتلته بالفعل، فعليه أن يدفع عن نفسه، بالأخف فالأخف من الدفع، كالحال مع الصائل. ]راجع فتح الباري (4/105)]
4- مقام هياج النفس ورغبتها في قضاء وطرها بلقاء الرجل المرأة بسبيل شرعي، مع عدم القدرة على ذلك، فإن الصوم من أهم ما يعينه على الصبر حتى يهيئ الله له ما يحقق له رغبته.
وفي هذا المعنى روى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا معشر الشباب من استطاع الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وِجَاء). [البخاري (2/673) ومسلم (2/1018)]
والخلاصة أن الصوم مُعِينٌ لصاحبه على الصبر في مقامات كثيرة من حياته، وفي تسمية شهر رمضان بـ(شهر الصبر) إشارة واضحة إلى هذا المعنى، والصائم الصادق في صومه، جدير بأن يكون صيامه لشهر رمضان، دافعا له على الصبر على فعل الطاعات وترك المعاصي في شهر رمضان، وما تلاه من شهور، إلى رمضان آخر، جعلنا الله جميعا من الصائمين الصابرين.
المجال الثالث لتدريب المسافر إلى الجنة: "مصاحبة القرآن في "شهر القرآن"
ثلاث آيات في ثلاث سور، تبين أن القرآن الكريم، نزل في ليلة واحدة من هذا الشهر الكريم "رمضان" وهي ليلة القدر:
الآية الأولى: هي قوله تعالى في: ((شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون)) [البقرة (185)]
فهي صريحة في أنه تعالى أنزله في شهر رمضان، وهو شامل لأيامه ولياليه من أوله إلى آخره.
الآية الثانية: هي الآية الثالثة من سورة الدخان، في قوله تعالى: ((حم(1) والكتاب المبين (2) إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين(3) فيها يفرق كل أمر حكيم (4) أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين (5) رحمة من ربك إنه هو السميع العليم (6) [الدخان]
وينبغي حمل هذه الليلة المباركة، على أنها إحدى ليالي شهر رمضان، الذي نصت آية البقرة على أن القرآن نزل فيه، ولكنها تبقى مبهمة يجوز أن تكون أي ليلة من لياليه، بدون تحديد.
الآية الثالثة: هي الآية الأولى في سورة القدر في قوله تعالى: ((إنا أنزلناه في ليلة القدر(1)وما أدراك ما ليلة القدر(2) ليلة القدر خير من ألف شهر(3) تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر(4) سلام هي حتى مطلع الفجر)) (5) [القدر]
ولكن هذه الليلة – مع تحديدها بالوصف – لم يعينها القرآن الكريم،،،، ولهذا وجب الرجوع فيها إلى السنة التي رجحت وجودها في العشر الأخيرة من هذا الشهر، ووردت أحاديث أكثر تحديدا لها بليالي الوتر من العشر الأخيرة، ثم وردت أحاديث أخرى تظهر رجحان أنها ليلة السابع والعشرين من رمضان، وسيأتي الكلام على الحكمة في إبهام هذه الليلة المباركة، وعدم القطع بتعيينها.
والذي يعنينا هنا: هو مجال القرآن الكريم في تدريب المسافر إلى الجنة.
فتدريب المسلم نفسه للسفر إلى الجنة، في مجال القرآن الكريم، شامل لكل وقت من أوقات عمره، ولكن شهر رمضان له مزية على سائر الشهور، وكذلك كل يوم من أيامه، وكل ليلة من لياليه، لكون شهر رمضان ظرفا لبدء نزول هذا القرآن.
وهذا ما جرى عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي كان يتلو كتاب الله في كل الأوقات، ولكنه كان أكثر تلاوة له في شهر رمضان، بل إن الله تعالى خص شهر رمضان بما لم يخص به غيره من تلاوته، حيث كان يرسل جبريل عليه السلام، ليدارس الرسول صلى الله عليه وسلم القرآن، كل ليلة من ليالي شهر رمضان، وكان يدارسه مرة كل عام، فلما كانت السنة التي توفي فيها، دارسه القرآن مرتين.
فعن بن عباس رضي الله عنهما، قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فَلَرسولُ الله صلى الله عليه وسلم، أجودُ بالخير من الريح المرسلة" [البخاري (1/6) وغيره]
عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: "كان يُعرضُ على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن، كل عام مرة، فَعُرِض عليه مرتين في العام الذي قبض فيه، وكان يعتكف كل عام عشرا، فاعتكف عشرين في العام الذي قبض فيه" [البخاري: (4/1911) وابن ماجه (1/562) وغيره]
إن نزول القرآن في شهر رمضان، ونزول جبريل من السماء، ليدارس الرسول صلى الله عليه وسلم القرآن، كل ليلة من ليالي رمضان، في كل عام من أعوامه، ثم مدارسته له في آخر عام من حياته مرتين، ليدل دِلالة واضحة، على شدة حب الله تعالى منزلِ القرآن في شهر رمضان، لاهتمام المسلم بكثرة تلاوته في هذا الشهر، اقتداء برسوله الكريم صلى الله عليه وسيلم.
ويؤخذ من مدارسة جبريل للرسول صلى الله عليه وسلم القرآن، مشروعية مدارسة المسلمين القرآن فيما بينهم، وبخاصة، مدارسة العلماءِ طلابَ العلم، لتصحيح التلاوة، وللتفقه في معاني كتاب الله.
ومما يؤكد ذلك ما ثبت من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (... وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده) [صحيح مسلم (4/2074)]
تأهيل القرآن المسافر إلى الجنة.
إن تلاوة القرآن الكريم، على ما فيها من الأجر العظيم، بحيث يكون لتاليه بكل حرف عشر حسنات، كما صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم، إن تلاوته ليست كافية وحدها لتأهيل المسافر إلى الجنة، بل لا بد مع تلاوته من الاهتداء بِهداه.
وإذا عدنا إلى آية سورة البقرة التي ذكر فيها نزول القرآن في شهر رمضان، فسنعرف منها، أن القرآن يؤهل المسافر إلى الجنة، باهتدائه بهذا القرآن، كما قال تعالى: ((شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان...))
فالمسلم الذي يهتدي بكتاب الله، هو الذي يكون مؤهلا للسفر إلى الجنة.
وينبغي أن يعلم أن القرآن جاء بالهدى للجن والإنس جميعا، ولكنه يخص بالهداية المؤمنين به، بسبب أنهم هم الذين يهتدون به وينتفعون بنوره فعلا.
والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة في كتاب الله، نذكر طرفا منها:
منها قوله تعالى: ((ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين)) [البقرة(2)]
((هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين)) [آل عمران (138)]
وقوله: ((ياأيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين)) [يونس (57)]
وقوله: ((ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين)) [النحل (89)]
وقوله: ((الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد)) [الزمر (23)]
وقوله: ((ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد)) [فصلت (44)]
وقال تعالى عن الجن: ((وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا)) [الجن (13)]
ولما كان الله تعالى يحب أن يهتدي عبده المؤمن بكتابه، ويتبع سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو به رءوف رحيم، فقد شرع له قراءة سورة الفاتحة في كل ركعة من ركعات صلاته، فرضا كانت أو نفلا، وفي هذه السورة دعاء المصلي ربَّه تعالى أن يهديه صراطه المستقيم، وهو دينه الحنيف الحق، الذي لم يعد في الأرض دينُ حقٍّ سواه.
ولهذا اقترن دعاء المؤمن ربه أن يهديه الصراط المستقيم، بدعائه أن ينجيه من غيره من سبل من استحقوا غضب الله، من اليهود ومن شابههم، ممن كفروا بالله على علم، والنصارى ومن شابههم، ممن كفروا به على جهل وتكبر عن طلب العلم والهدى.
قال تعالى: ((الحمد لله رب العالمين. الرحمن الرحيم. مالك يوم الدين. إياك نعبد وإياك نستعين. اهدنا الصراط المستقيم. صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين)) [الفاتحة]
وبين سبحانه وتعالى، أن من اهتدى بهدى الله، أمن من الخوف والحزن ومن الضلال والشقاء في الدنيا والآخرة، ومن أعرض عن هداه وكذب به، استحق الخلود في جهنم، والضلال والشقاء في الدنيا والآخرة.
قال تعالى: ((قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون(38) والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (39) [البقرة]
وقال تعالى: ((قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى (123) ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى (124) قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا (125) قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى(126) وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى)) [طه (127)]
وقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم، مثلا لمن طلب هدى الله فيما بعث به رسوله، من هذا القرآن – ومثله سنة الرسول صلى الله عليه وسلم – وعمل به وعلمه، فشبهه بالأرض الطيبة التي تمسك الماء، وترتوي به، وتنبت الكلأ والعشب، فيستقي من مائها الناس والدواب والطيور،،، وتتغذى من زرعها وعشبها الناس والدواب، وضرب مثلا آخر لمن طلب هذا الهدى، ولكنه أقل عملا به من الصنف الأول، بأجادب من الأرض، أمسكت الماء، فشرب الناس منها وسقوا وزرعوا، وضرب مثلا ثالثا لمن لم ينل من هدى الله شيئا، بالقيعان من الأرض التي لا تمسك ماء، ولا تنبت كلأ، فلا يستفيد الناس ولا الدواب منها شيئا.
يبين ذلك حديث أبي موسى الأشعري، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (إن مثل ما بعثني الله عز وجل من الهدى والعلم، كمثل غيث أصاب أرضا، فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا ورعوا، وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان، لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه بما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به). [البخاري (1/42) ومسلم (4/1787)]
فهنيئا للمسلم مصاحبة القرآن في شهر القرآن، وفوزه بالفقه فيه والعمل بما تضمنه من إسلام وإيمان وإحسان.
وسائل الاهتداء بالقرآن
وللاهتداء بكتاب الله وسائل، لا بد أن يتخذها المؤمن عند تلاوته:
الوسيلة الأولى: تلاوته بتدبر لفهم معانيه
هذه الوسيلة هي مفتاح تزكية المسلم نفسه، بطاعة الله وترك معاصيه، على أساس تلاوة القرآن الكريم، لأن فهم مراد الله تعالى من عبده المؤمن يعين القارئ على تطبيق ما فهمه.
فقد بين سبحانه أنه أنزل هذا القرآن، ليتدبره العقلاء، ويتذكروا ما فيه من الحق الذي يبينه لهم، ويدعوهم إلى العمل به، والباطل الذي يكشفه لهم ويحذرهم منه، وما يجب عليهم من طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: ((كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب)) [ص (29)]
وأنكر سبحانه على من عصاه، وأهمل تدبر كتابه، كما قال تعالى: ((أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا))[النساء (82)]
وقال: ((أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين)) [المؤمنون(68)]
وقال تعالى: ((أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها)) [محمد (24)]
فينبغي للمؤمن، وهو يتلو كتاب الله، أن يحقق ما أراده الله من إنزال القرآن من التدبر والتذكر، وألا يكون كأهل الكفر والنفاق الذين لا يعيرون كتاب الله اهتماما، ولا يلقون له بالا.
الوسيلة الثانية: أن يبحث القارئ لكتاب الله عما يحبه الله تعالى، من القول والعمل و لاعتقاد، ومن الأخلاق والصفات، وما يكرهه الله من ذلك، ويبحث كذلك عمن يحبهم الله ومن يبغضهم.
فسيجد في كتاب الله ذكر المؤمنين والمؤمنات والثناء عليهم وصفاتهم وثوابهم، وما تفرع عن أهل الإيمان، كالصالحين، والشهداء، والمتقين، والصديقين...
ويجد ذكر الكفار وذمهم وصفاتهم وعقابهم، ويجد ذكر المنافقين وتقبيحهم وصفاتهم وجزائهم، ومثل ذلك الظالمون، والفاسقون، والمجرمون....
وسيجد تالي القرآن أقوالا وأعمالا أمر الله بإتيانها، وأخرى نهى الله عنها، وسيجد ما يهيئ للمسافر إلى الجنة ما يؤهله للسفر إلى لجنة، وللمسافر إلى النار ما يهيئه للسفر إلى النار.... وهكذا
إن معرفة تالي القرآن لذلك كله، يعينه على طاعة ربه وترك معصيته.
ولنضرب لذلك بعض الأمثلة:
فالله تعالى يحب الإحسان والمحسنين: ((وأحسنوا إن الله يحب المحسنين)) [البقرة (195)]
وهو يحب التقوى والمتقين: ((بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين)) [آل عمران (76)]
ويحب الصبر والصابرين: ((وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين)) [آل عمران (146)]
ويحب التوكل والمتوكلين: ((فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين)) [آل عمران (159)]
ويحب الطهر والمتطهرين: ((فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين)) [التوبة (108)]
ويحب العدل وأهله: ((وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين)) [الحجرات (9)]
ويحب الجهاد والمجاهدين: ((إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص)) [الصف (4)]
ولا يحب العدوان والمعتدين: ((ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين)) البقرة (190)
ولا يحب الفساد والمفسدين: ((وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد)) [البقرة (205)]
ولا يحب الكفر والكافرين: ((قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين)) [آل عمران (32)]
ولا يحب الظلم والظالمين: ((والله لا يحب الظالمين)) [آل عمران (57)]
ولا يحب الخيانة والخائنين: ((ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما)) [النساء (107)]
ولا يحب الإسراف والمسرفين: ((وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين)) [الأنعام (141)]
الوسيلة الثالثة : عرض القارئ نفسه على ما يحبه الله وما يكرهه وما يأمر به، وما ينهى عنه، ويعرض صفاته على صفات المؤمنين، وصفات الكافرين وصفات المنافقين، ليعرف موضعه الذي وضع نفسه فيه، و من هم قرناؤه، فإن وجد خيرا فليحرص عليه، وإن وجد غير ذلك فليعلم أن المرء مع من أحب، وليداو نفسه بالقرآن الكريم ((إن هذا القرآن يهدي للتي هي أحسن))
وسيجد قارئ القرآن كثيرا من علاقات أصناف البشر بعضهم ببعض، كالأسرة من أب وأم وابن وبنت، وزوج وزوجة، وأخ وأخت، وكل ذي رحم مع رحمه، وجار مع جاره، ودائن ومدين، وولي أمر ورعية، ولكل من تلك الأصناف حقوق، وعليه واجبات، لصاحب الحق أن ينال حقه بدون زيادة، وعلى من عليه واجب أن يؤدي واجبه بدون نقص، والقارئ لا بد أن يكون واحدا من هؤلاء، له حقوق وعليه واجبات، وهو في حاجة إلى معرفة حقوقه، حتى لا يأخذ ما ليس فيه حق، ومعرفة واجباته، حتى يؤديها إلى أهلها.
إن القرآن مرآة المؤمن يرى فيه محاسن نفسه، فيحرص على بقائها و الازدياد منها، ويرى مساويها فيحرص على التخلص منها والبعد عن مثيلاتها، وهذه المرآة تظهر للإنسان طهارة قلبه أو قذارته، ولا توجد مرآة تحقق هذا الغرض غير كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم... ولهذا يحرص عباد الله الصالحون على المداومة على النظر فيهما، رغبة في تعاهد قلوبهم وطهارتها.
((إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا)) ل[الإسراء (9)]
ولهذا قال ابن مسعود رضي الله عنه وغيره من السلف: "إذا سمعت الله تعالى يقول في القرآن ((يا أيها الذين آمنوا)) فارعها سمعك فإنها خير يأمر به أو شر ينهى عنه" [تفسير القرآن العظيم، لابن كثير (1/61)]
ومعنى قوله: "فارعها سمعك" يعني أصغ لما بعد نداء الله بـ((يا أيها الذين آمنوا)) واهتم به، لأن ما يتلو ذلك النداء، لا يخلو من أمر بخير، لا يليق بالمؤمن تفويته، أو نهي عن شر، لا يليق بالمؤمن ارتكابه.
المجال الرابع: الإخلاص.
آيات الصوم بدأها الله بنداء المؤمنين (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )) [البقرة: من الآية183].
ثم أتبعها بحكم الصيام، فقال: (( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ )) [البقرة: من الآية183].
ومقتضى الإيمان أن يخلص الصائمون نيتهم في صومهم لله الذي فرض عليهم هذه العبادة، كغيرها من العبادات.
والأصل في كل عبادة يؤديها المسلم لربه، أن يكون مخلصاً فيها له، لا يشوبها شيء من إرادة غيره تعالى؛ لأن إرادة غير الله يعتبر نوعاً من أنواع الشرك، إما شركاً أكبر، كالسجود للأصنام أو القبور، ومثله إراقة دم الحيوان لغير الله على سبيل العبادة، وإما شركاً أصغر، كالرياء...
ويشمل ذلك كله قوله تعالى: (( وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً )) [النساء (36)].
وقد وردت نصوص كثيرة في القرآن والسنة، تحض على الإخلاص بمادته،كقوله تعالى: (( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ )) [البينة (5)].
وقوله تعالى: (( قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ )) [الأعراف (29)]
وقوله تعالى: (( هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقاً وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ * فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ )) [غافر:13-14].
وكثير من الناس قد يظن أن الإخلاص لله تعالى أمر سهل لا صعوبة فيه، وهو ظن مبالغ فيه، لأن إخلاص العمل لله يحتاج من العامل إلى مجاهدة نفسه، حتى يُصًفِّيَ عملَه من شوائب إرادة غير الله..
إذ النفوس البشرية ترغب في ثناء الناس عليها، وعلى ما تقوم به من أعمال الخير، وقد يغلب حب العبد لذلك على الإخلاص لله، وذلك من أهم عوامل القدح في إخلاصه لربه.
لهذا وردت النصوص في الحث على الإخلاص بصفة عامة، كما مضى..
ووردت نصوص في ذم الرياء في الأعمال كذلك، وتشبيه صاحبه بمن لا يؤمن بالله واليوم الآخر..
كما قال تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ )) [البقرة:264].
ونهى تعالى المؤمنين المجاهدين، أن يتشبهوا بالمشركين في ريائهم، فقال تعالى: (( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ )) [الأنفال:47].
وكثير من العبادات تفتتح بما يذكر العبد بالإخلاص فيها لله تعالى، ويقويه في نفسه.
ومن أمثلة ذلك الصلاة التي تبدأ بتكبيرة الإحرام: ( الله أكبر ) فالمصلي إذا وفقه الله لمراعاة هذه الجملة وما تحمله من عظمة الله، أُعِينَ على الإخلاص في صلاته من أولها إلى آخرها، فلا يلتفت إلى غيره بل ينجو من الرياء، مع أن الصلاة كلها لا تخلو من ذكر الله، في القيام والقعود والسجود..
وكذلك الحج، الذي يبدأ بقول الحاج أو المعتمر: ( لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك ) ثم يستمر ذاكرا حتى يودع البيت الحرام ،،، مع حثه على الاستمرار على ذكر الله.
و "الجهاد" قُيِّدَ بهذا القيد "في سبيل الله" فإذا خلا من هذا القيد، لم يعد جهاداً شرعياً، كما صحت بذلك الأحاديث. ومنها:
حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قال:
"جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: الرجل يقاتل حمية، ويقاتل شجاعة، ويقاتل رياء، فأي ذلك في سبيل الله؟ قال: ( من قاتل لتكون كلمة الله هي الله العليا فهو في سبيل الله ) [البخاري (6/2714) ومسلم (3/1512)].
وجميع العبادات لا يعلم إخلاصَ صاحبِها فيها إلا اللهُ، ومنها الصيام الذي قد يظهر صاحبه أنه صائم لله تعالى، وعلى الناس أن يعاملوه بالظاهر،كالصلاة والحج والجهاد وكل العبادات التي يتقرب بها المسلم إلى الله، وقد يكون في علم الله غير صائم، أو انه صام لغرض آخر، وليس لوجه ربه...
ولهذا جاء تكليف الله عباده بالصيام بادئاً، بهذا النداء: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَام )) كما مضى.
وأكدت ذلك أحاديثُ صحيحة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنها:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه:
عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ( من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه ومن صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه...) [البخاري (2/534) مسلم (2/729)].
واضح من الحديث، أنه لا يترتب على قيام ليلة القدر وصوم رمضان، الثواب الموعود به ( غفر له ما تقدم من ذنبه ) في الحالين، إلا إذا تحقق قائم ليلة القدر، وصائم رمضان، أمران:
الأول:
أن يكون فعل ذلك إيمانا بالله تعالى وبرسوله وباليوم الآخر، وبأن الله تعالى كلفه القيام بهاتين العبادتين.
الثاني:
أن يقصد بقيامه وصيامه وجه الله تعالى، وليس لغرض آخر، كرئاء الناس، من أجل أن يثنوا عليه، فيقال: فلان صائم، أو مجتهد في طلب الأجر من الله في قيام ليلة القدر أو غيرها.
فعلى المسلم أن يجاهد نفسه في أن يكون صيامه وقيامه وقراءته لكتاب الله، وصدقاته، وكل أعمال الخير التي يقوم بها، مراداً بها وجه الله، الذي لا ينفعه ولا يضره إلا الله، ولا يثيبه ويجزيه على عمله إلا الله تعالى، وأنه تعالى مطلع على السر وأخفى.
اللهم وفقنا للعمل الصالح الذي يرضيك..
والعمل الذي يجتمع فيه الإخلاص لك..
والاتباع لنبيك عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم..
المجال الخامس: قيام الليل.
شهر رمضان كغيره ظرف لأداء الفرائض والنوافل، إلا أنه يزيد على بقية الشهور، بزيادة فرض صيامه، وكثرة نوافله ومضاعفة حسناته.
والواجب على المسلم المحافظة على ما فرض الله عليه من عباداته، التي لا يسقط حكمها عنه في جميع الأوقات، كالصلوات الخمس التي هي ركن من أركان الإسلام.
وينبغي أن يكون في محافظته على تلك الفرائض في رمضان، أشد حرصا من محافظته عليها في غير رمضان، لأن أجره مضاعف على عبادته في هذا الشهر الكريم، وأداء الفرائض أحب إلى الله من أداء غيرها، وإن كان كلاهما محبوبا له تعالى.
كما ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (...... وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه .........) البخاري (5/2384)
فلا يجوز للصائم التساهل في أداء الصلوات المفروضة في أوقاتها، بالنوم عنها حتى يخرج وقتها، متذرعا بما يقوم به من نوافل الطاعات، كصلاة التراويح.
بل لو فرض أن صلاة التراويح وهي نافلة، كانت سببا في نومه عن صلاة الفجر حتى يخرج وقتها، وجب عليه التخفيف من صلاة التراويح بالقدر الذي يتمكن معه، من أداء صلاة
رمضان محطة سفر إلى الجنة!
المقدمة
المجال الرابع : الإخلاص
ميادين تأهيل المسافر في هذه المحطة للسفر إلى الجنة.
المجال الخامس : قيام الليل
الميدان الأول: صيام نهار الشهر المبارك.
المجال السادس: اجتماع كلمة المسلمين على الحق
الميدان الثاني: الصبر في "شهر الصبر" المجال السابع: بذل العون للمستحقين
الميدان الثالث: "مصاحبة القرآن في "شهر القرآن" المجال الثامن : الصيام عن المعاصي
رمضان محطة سفر إلى الجنة (2)
المسافر لا بد له من استعداد لسفره، والاستعداد للسفر يختلف باختلاف الجهة التي يراد السفر إليها.
فقد تكون جهة السفر قريبة من دار المسافر، وبيئتها مشابهة لبيئة بلده، من حيث الجو والعادات والطعام واللباس، وغير ذلك من أنواع الشبه، وقد تكون بعيدة، مختلفًا جوُّها وعاداتُ أهلها وطعامهم، عن عادات بلده، ولقرب البلد وبعدها، وشدة شبهها لبلاد المسافر أو شدة مخالفتها، تأثير في استعداده للسفر...من حيث الزاد والراحلة، اللباس وغيرها...
وقد يكون السفر إلى ديار تختلف اختلافا شديدا عن داره، كرحلات رواد الفضاء إلى الفضاء الخارجي، وقد يبقى في الفضاء شهورا أو أكثر، بل قد يكون سفره إلى أحد كواكب السماء، كالقمر، وهو في سفره إلى هذه الديار، يحتاج إلى استعداد غير عادي، فيحتاج إلى تدريبات قاسية مشابهة شبها كبيرا للحالة التي سيكون عليها في المركبة الفضائية، وفي جو شبيه بنفس الجو الذي سيكون عليه، في تلك الرحلة.
كما يحتاج إلى ملابس تختلف عن ملابس الأرض العادية، بل يحتاج إلى حمل الهواء "الأكسجين" من الأرض، ليبقى هناك على قيد الحياة، ويحتاج إلى طعام يناسب تلك الأجواء التي سينتقل إليها، كما يحتاج إلى نفقات باهظة، وراحلة غالية ... وهذا ما نرى أمثلة له لهؤلاء المسافرين.
ولهؤلاء المسافرين محطات معينة، أعدت إعدادا خاصا لتدريبهم، وإعدادهم إعدادا عظيما، للقيام بهذا السفر العجيب.
ونحن نتمنى أن يكون عندنا صناعة لهذه الأسفار، لاكتشاف الفضاء والاستفادة من طاقاته ومنافعه، لكن مع ملء الأرض بالصلاح، ومنح أهلها الطعام والشراب واللباس، والسعادة والعدل والأمان.
هذه الأسفار كلها مرتبطة بدار واحدة، سواء كانت في الأرض أو في السماء، تسمى "دار الدنيا"
أما السفر المقصود هنا، فهو سفر من نوع آخر، وإلى ديار أخرى، وخط سير يختلف اختلافا كبيرا، عن خطوط السير في حياتنا المعتادة، أول هذا الخط إقلاع الروح من مطارها "الجسد" إلى بارئها، ثم إلى حياة البرزخ الفاصل بين الدنيا والآخرة، ثم البعث والجزاء والحساب، والمرور إلى الصراط، إلى أن يصلوا إلى آخر محطة للسفر، وهي الدار الآخرة "الجنة"
إنه السفر إلى دار تسمى "الدار الآخرة" سفر غاية أهله القرار في رحاب الله "الجنة" التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، سفر زمنُ الاستعدادِ له العمرُ كله، وزاده السعي المتواصل إلى رضا الله تعالى وتقواه، بعمارة الأرض عمارة تحفظها من الفَسادَينِ: الفسادِ المادي والفسادِ المعنوي، عمارة تجلب للإنسان فيها حياةَ سعادةٍ وأمنٍ ورخاء.
ولهذا السفر محطات تدريب في هذه الحياة، يديرها منهج الله على مدار الدقائق والساعات والأيام، والأسابيع والشهور والأعوام، والقرون والعصور، والأجيال والدهور، لا يقطع فيها العملَ إلا هادمُ اللذات ومفرق الجماعات....بل يرحل كثير من المسافرين، و لهم أعمال باقية بعدهم تُمطِرهم بشآبيب الرحمة، وتمدهم بأنواع الحبور والنعمة.
ويشمل تلك المحطات كلها، قيام المسلم بطاعة ربه تعالى، بإيمانه وعمله الصالح الشامل، لكل ما جاء به هذا الدين، من أصول الإيمان وفروعه، وأصول الإسلام، وأحكام الشريعة من فعل فرائض ونوافل طاعات، وترك محرمات ومكروهات، ومن أركان الإسلام ومحطات المسافرين إلى الجنة "شهر رمضان" شهر الصبر وشهر الطاعة والصيام، شهر الإكثار من قراء القرآن وشهر التهجد والقيام، شهر يغلق الله فيه عن المتقين أبواب النار، ويفتح لهم فيه برحمته أبواب الجنة دار القرار.
إن الهدف من التدريب في هذه المحطة، هو تأهيل المتدرب لهذا السفر، الذي لا يوجد له نظير في هذه الحياة، فلا يحتاج المسافر إلى إذن سفره من أقاربه، وعلى رأسهم الأبوان، ولا من رؤسائه في عمله، ولا إلى جواز سفر من دولته، ولا تأشيرة دخول من دول عالَم الدنيا كلها...
كما لا يحتاج إلى عملة أجنبية غربية، أمريكية أو أوربية، أو شرقية يابانية، أو شيكات سياحية، أو بطاقة ائتمان احتياطية، وليس في حاجة إلى تذكرة سفر لأي خطوط طيران، من شركات الخطوط الجوية العالمية، ولا غيرها من وسائل المواصلات الأخرى برية: درجات، أو سيارات، أو قطارات، أو حافلات جماعية، أو بحرية بواخر وعبارات ....
وليس في حاجة إلى حقيبة سفر، يملأها بملابسه، وما يحتاجه إليه في تنقلاته... كل ذلك لا يحتاج إليه المسافر إلى الجنة، وفي الحلقة القادمة إشارات إلى ما يحتاج إليه من تدريب، ووسائل سفر تختلف عن أسفار الدنيا كلها.
وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم، حقارة دار الدنيا هذه، وسرعة السفر منها إلى الدار الآخرة، قال البخاري "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل" ثم ساق حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي، فقال: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) وكان بن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك" [البخاري (5/2853)].
ومثله حديث عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما لي وللدنيا، إنما مثلي ومثل الدنيا، كمثل راكب قال تحت شجرة في يوم صائف، فراح وتركها) أخرجه الحاكم في المستدرك (4/345) وذكر ه ابن كثير في تفسير القرآن العظيم (4/523) وقال: "ورواه الترمذي وابن ماجة من حديث المسعودي به وقال الترمذي حسن صحيح"]
ميادين تأهيل المسافر في هذه المحطة للسفر إلى الجنة.
المسافر إلى الجنة يحتاج إلى تدريب يؤهله لهذا السفر المبارك، وميادين التدريب كثيرة، نذكر أهمها بإذن الله.
الميدان الأول: صيام نهار الشهر المبارك.
"الصوم المشروع هو الإمساك عن المفطرات، من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس" [المغني لابن قدامة (3/4)]
أما الصيام في لسان العرب، فهو مطلق الإمساك عن أي شيء، فلو أمسك غير المسلم عن المفطرات، في نهار رمضان أو غيره، اعتبر صائما في اللغة العربية، ولو أمسك المسلم عن ذلك في نهار رمضان أو غيره، قاصددا التداوي بذلك وليس أداء العبادة، فهو صائم في اللغة العربية.
ولو صام المسلم ليلا وأفطر نهارا في شهر رمضان، قاصدا بذلك العبادة، لم يعد صائما الصيام الشرعي، لأنه لم يصم في النهار.
فقد فرض الله صيامه نهارا، لا ليلا، فقال تعالى بعد أن ذكر وجوبه: ((أياما معدودات فمن شهد منكم الشهر فليصمه)) والأيام إذا أطلقت يراد بها أوقات النهار، وأكدت ذلك سنة الرسول القولية، والفعلية، وعلى ذلك إجماع الأمة.
والصيام قسمان:
القسم الأول: صيام مفروض للوقت أي يجب على المسلم أن يصومه، بمجرد دخول وقته، وهو شهر رمضان المبارك، الذي هو أحد أركان الإسلام الخمسة، وهي الشهادتان، والصلاة، والزكاة، والحج، يأثم تاركه، ويكفر جاحده، كما تجب الصلاة بمجرد دخول وقتها.
وصيام مفروض لإيجاب الإنسان ذلك على نفسه، وهو صوم النذر الذي يجب الوفاء به [اقرأ الآية 7 من سورة الإنسان]
وصيام مفروض للكفارات، كالحنث في اليمين، فيجب صيام ثلاثة أيام، إذا لم يجد إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة مؤمنة، [اقرأ الآية 89 من سورة المائدة]
وصيام شهرين متتابعين لمن قتل مؤمنا خطأ، ولم يجد تحرير قبة مؤمنة [اقرأ الآية (92) من سورة النساء] ومثله مَن ظاهر من زوجته ثم عاد إليها ولم يجد رقبة يعتقها [اقرأ الآيتين 3،4 من سورة المجادلة]
و صيام مفروض على من حج قارنا أو متمتعا ولم يجد الهدي، فإنه يصوم عشرة أيام ثلاثة في الحج، وسبعة إذا رجع، [اقرأ الآية (196) من سورة البقرة]
القسم الثاني: صيام مندوب،،، وسيأتي الكلام عنه في بعض الحلقات بإذن الله.
والذي يعنينا هنا هو صيام شهر رمضان المبارك، فقد فرض الله على المسلمين صيامه، كما كتب عليهم النطق بالشهادتين، والصلاة والزكاة والحج، وهذه الأربعة مع صيام رمضان هي مباني الإسلام وأركانه.
وقد دل على وجوب صومه القرآن والسنة القولية والفعلية، وإجماع الأمة:
قال تعالى: ((ياأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)) [البقرة (183)]
ومن السنة القولية، ما رواه ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان).[البخاري (4/1641) ومسلم (1/45) واللفظ له]
ومن السنة الفعلية، حديث أنس رضي الله عنه، قال: "واصل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول شهر رمضان، فواصل ناس من المسلمين، فبلغه ذلك، فقال: (لو مد لنا الشهر لواصلنا وصالا يدع المتعمقون تعمقهم، إنكم لستم مثلي، أو قال إني لست مثلكم، إني أظل يطعمني ربي ويسقيني) [البخاري (3/796) و مسلم (2/776) واللفظ له]
وأجمع المسلمون على أن صيام شهر رمضان فريضة لازمة لكل مسلم بالغ قادر، خلا من عذر شرعي. [المغني لابن قدامة (3/3)]
كيف يؤهل الصيام صاحبه للسفر إلى الجنة؟
المسلم الذي يصوم رمضان، إيمانا بالله وبرسوله واليوم الآخر، محتسبا صيامه وأعماله الصالحة فيه عند ربه، جدير بأن يكون أهلا للسفر إلى جنة الخلد...
فالصائم بهذه الصفة، قد سيطر على نفسه وهواه وشيطانه، وهذه الثلاثة هي التي تلازم الإنسان وتلجئه إلى تعاطي أي شيء يشتهيه، ما لم يصده عنها صاد حسي أو معنوي.
المانع الحسي عدم قدرة الإنسان على تعاطي ذلك، إما بفقد الْمُشْتَهى، وإما لرقابة بشريه تحجزه عن ذلك مع وجوده، وهذا المانع غير مُجْدٍ إذا وجد المشتهى، وفقد الحاجز.
أما المانع المعنوي المؤثر، فهو ما يصاحب الإنسان في كل حالاته: في حال خلوته بنفسه وعدم وجود المخلوقين معه، وفي حال جلوته ، أي اختلاطه بالناس، هذا المانع هو قوة إيمانه بربه، واستحضار عظمته، وكمال إحاطة علمه، وكمال قدرته على مجازاته، فرقابته رقابة إلهية تصبح عنده رقابة ذاتية، ثابتة في قلبه، مانعة لجوارحه من الإقدام على ما لا يرضي ربه.
وذكر العلماء أن من أسباب قول الله تعالى في الحديث القدسي: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا الذي أجزي به) أن الأعمال الأخرى غير الصيام واضحة يستطيع فاعلها أن يرائي بها الناس، كالصلاة والزكاة والحج، بخلاف الصوم فإنه بين الصائم وبين الله، لأنه عبادة غير ظاهرة.
فصيام المؤمنِ الصادقِ الإيمان، يجعله في مقام المراقبة الدائمة لربه تعالى، متمثلا كمال علمه المحيط بكل شيء، وكمال قدرته التي تصرف كل شيء، كما دلت على ذلك الآيات والأحاديث الصحيحة الكثير:
قال تعالى: {قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في السماوات وما في الأرض والله على كل شيء قدير يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه والله رؤف بالعباد}.آل عمران: 29-30.
وفي حديث جبريل المشهور قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك) [مسلم (1/37)]
ومن كمال قدرته وكمال علمه تعالى، أن جعل أعضاء الإنسان تسجل عليه أعماله التي يباشرها بتلك الأعضاء، فإذا جاء وقت الجزاء والحساب شهدت عليه بكل ما اقترف، وأين يفر الإنسان من جلده وسمعه وبصره ويده ورجله، وهي تلازمه في كل مكان، بل بها يتعاطى الخير أو الشر؟!
إن أعضاء الإنسان آلات تصوير-كمرات-تصور حركاته في الليل وفي النهار في الضوء وفي الظلمة، في السر وفي العلن، وهي كذلك آلات تسجيل-كاسيت-تسجل أصواته لتحتفظ بها، فتفاجئه بما لم يكن يتوقع من شهادتها عليه، قال تعالى: ((ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون، حتى إذا ما جاؤها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين}. حم السجدة : 19-23.
وقال تعالى: {يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون}. النور: 24
وهذه هي حال الصائم، الذي يمتنع عما تشتهيه نفسه، وقد تشتد حاجته إلى تناوله، مما هو مباح له شرعا في الأصل، وبخاصة الطعام الذي لا يُدفع الجوع إلا به، والشراب الذي لا يُدفع العطش إلا به، ومعاشرة زوجه التي قد تلح على تعاطيها غريزته، وكل تلك الأمور تكون غالبا متاحة له، وفي متناول يده.
فإذا امتنع المؤمن عن تلك المشتهيات، مستحضرا عظمة الله، راغبا فيما عنده من الرضا والثواب، ورهبة مما سيلقاه - لو عصاه - من السخط والعقاب، فإنه بذلك يستحق أن يكون من وفود المسافرين إلى الجنة، التي لم يعدها الله تعالى إلا لعباده المؤمنين...
والمؤمن الحق الذي يترك ما هو مباح له في الأصل طاعة لربه، سيترك ما هو محرم عليه في الأصل من باب أولى، وبذلك يكون طاهر القلب، نظيف الجوارح، طيب السيرة، صادق السريرة، مؤهلا للقاء الله في دار ضيافته.
الميدان الثاني: الصبر في "شهر الصبر"
ورد في بعض الأحاديث [من حديث أبي هريرة وسلمان وغيرهما] تسمية رمضان بـ(شهر الصبر)كما في مسند أحمد (2/263) وسنن أبي داود (2/322) والسنن الكبرى للنسائي: وفيه (شهر الصبر، وثلاثة أيام من كل شهر، صوم الدهر) (2/134) وفي سنن النسائي(4/218) وسنن ابن ماجه (1/554) ومن المراجع التي ذكر فيها ذلك، صحيح ابن خزيمة بلفظ (وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة) (3/191) وفي صحيح ابن حبان: (صوم شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر، يذهبن وحر الصدور) [(14/498) ومعنى "وحَر الصَّدر" : "غِشُّه ووساوسُه. وقيل: الحقد والغيظ. وقيل: العداوة. وقيل: أشدّ الغضب." والمراد سلامة صدر الصائم من تلك الأمور]
وقال في مجمع الزوائد: رواه أحمد والطبراني في الكبير، إلا أنه قال ثنا رجل من عكل ورجال أحمد رجال الصحيح (3/196)
قال في عون المعبود: قال الخطابي "شهر الصبر هو شهر رمضان، وأصل الصبر الحبس، فسمي الصيام صبرا، لما فيه من حبس النفس عن الطعام، ومنعها عن وطء النساء وغشيانهن، في نهار رمضان (7/58)
وهو جدير بأن يسمى (شهر الصبر) لأن الصائم يصبر فيه تسعة وعشرين أو ثلاثين يوما، على الامتناع عما يصعب الكف عنه، وأعظمه الطعام والشراب والوقاع كما مضى.
ولا شك أن الصبر عن هذه الأمور في هذه الأيام المتوالية، من أهم مجالات تدريب النفس على الصبر على أوامر الله بفعلها، وعلى نواهي الله بتركها، في هذا الشهر وغيره.
وصبر العبد على طاعته لله في أمره ونهيه، جزاؤه الجنة، ومرافقة أولياء الله من الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين.
كما قال تعالى: ((ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيق))[النساء (69)]
و قال تعال: ((ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم)) [النساء (13)]
والصبر عدة المؤمن التي ينال به الرضا بقضاء الله، عندما يبتلى في نفسه وأهله وماله، وهو من المبشرين بهدى الله، وأن تغشاه رحمته، ويحظى بصلواته عليه، كما قال تعالى:
((ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين (155) الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون (156) أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون)) (157) [البقرة]
قال الطبري رحمه الله: "وقد قيل: إن معنى الصبر في هذا الموضع الصوم، والصوم بعض معاني الصبر عندنا، بل تأويل ذلك عندنا أن الله تعالى ذكره أمرهم بالصبر على ما كرهته نفوسهم، من طاعة الله وترك معاصيه، وأصل الصبر منع النفس محابَّها وكفها عن هواها، ولذلك قيل للصابر على المصيبة صابر لكفه نفسه عن الجزع، وقيل لشهر رمضان شهر الصبر لصبر صائمه عن المطاعم والمشارب نهارا..." [جامع البيان عن تأويل القرآن (1/259)]
وممن فسر الصبر في آية البقرة السابقة، بصيام شهر رمضان، الإمام الشافعي رحمه الله، قال القرطبي: "وقال الشافعي هو الجوع في شهر رمضان" الجامع لأحكام القرآن [(2/173)]
والمؤمن وحده هو الذي يحظى بالخير في سرائه وضرائه، بما منحه الله من الصبر على الحالين، كما في حديث صهيب رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عجبا لأمر المؤمن! إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرا له) [مسلم (4/2295)]
وقد أمر الله عباده المؤمنين، أن يستعينوا بالصبر والصلاة على قيامهم بما يرضيه، من تعلم دينهم الذي جاء به رسوله، وتزكية نفوسهم به، ومداومتهم على ذكره وشكره، كما قال تعالى:
((كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم مالم تكونوا تعلمون (151) فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفروني (152) ياأيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين)) (153) [البقرة ]
وفسر بعض العلماء الصبر هنا أيضا بصوم رمضان، قال القرطبي: "وقول ثالث قال مجاهد: "الصبر في الآية الصوم" ومنه قيل لرمضان شهر الصبر، فجاء الصوم والصلاة على هذا القول في الآية متناسبا، في أن الصيام يمنع من الشهوات ويزهد في الدنيا، والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وتخشع، ويقرأ فيها القرآن الذي يذكر الآخرة والله أعلم" [الجامع لأحكام القرآن (1/372)]
والصبر له آثاره في سلوك صاحبه، في مقامات كثيرة من حياته، يعينه فيها على فعل طاعة ربه، وترك معصيته، من تلك المقامات:
1- مقام الجهاد في سبيل الله، ومقارعة الأعداء، دفعا لعدوانهم، وتحطيما لسدود الصد عن تبليغ الإسلام إلى الناس، فالمجاهدون في سبيل الله يثبتهم الله بالصبر وهم قليلة، ويمنحهم النصر على الأعداء وهم فئة كثيرة، ويكون تدريب المجاهدين واختبارهم، هو طاعة قائدهم، في تحديد كمية ما تشتهيه أنفسهم مما هو مباح لهم في الأصل، كشرب الماء، وهو شبيه بالصيام.
قال تعالى: ((فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين)) [البقرة (249)]
والصبر قرين الجهاد في فتح أبواب الجنة، كما قال تعالى: ((أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين)) [آل عمران (142)
2- مقام الدعوة إلى الله التي ينال فيها الدعاة إلى الله وأتباعهم من الفتنة والأذى، ما لا طاقة لهم على تحمله إلا بالصبر، كما قال تعالى: ((ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبإ المرسلين)) [الأنعام (34)]
وقال تعالى: ((فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون)) [الأحقاف (35)]
وقال تعالى: ((ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم)) [النحل (110)]
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم، يربي أصحابه على الصبر في وقت الشدة والضعف، على الصبر على ما يصيبهم من أذى، اقتداء به.
كما في حديث خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ قال: (كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض، فيجعل فيه فيجاء بالمنشار، فيوضع على رأسه، فيشق باثنتين وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون) [مسلم (2/1322)]
3- مقام الاعتداء على الصائم بالسب والشتم أوالمقاتلة، التي يحق له فيها أن يعامل من يسبه ويشتمه بمثل ما فعل، ولكنه يؤثر عدم استعمال هذا الحق، ويتقي خصمه بصبره وصيامه، كما في حديث عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الصيام جنة، فلا يرفث ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه، فليقل: إني صائم مرتين، والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك، يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي، الصيام لي وأنا أجزي به والحسنة بعشر أمثالها) [البخاري (2/670)]
وصبر الصائم على الشتم والسب أمر مطلوب، أما صبره على المقاتلة، بحيث يُعتَدَى عليه بالضرب ونحوه، ففيه إشكال، وهو أن المسلم مأمور بالدفع عن نفسه، وسكوته على العدوان عليه بالفعل، استسلام وخضوع لا يليق به، وأجيب عن ذلك بجوابين:
الجواب الأول: أن المقاتلة تأتي بمعنى المشاتمة، وهي تأتي بمعنى ذلك، وعلى هذا فلا إشكال.
الجواب الثاني: أن المراد بالمقاتلة تهيؤ المعتدي على الصائم لمقاتلته، وليس المراد مباشرة ذلك فعلا، فإذا رأى الصائم من خصمه استعدادا لمقاتلته، فعليه أن يبادره بقوله: (إني صائم) لعل ذلك يجعله يرجع عما عزم عليه.
فإن تمادى وبدأ بمقاتلته بالفعل، فعليه أن يدفع عن نفسه، بالأخف فالأخف من الدفع، كالحال مع الصائل. ]راجع فتح الباري (4/105)]
4- مقام هياج النفس ورغبتها في قضاء وطرها بلقاء الرجل المرأة بسبيل شرعي، مع عدم القدرة على ذلك، فإن الصوم من أهم ما يعينه على الصبر حتى يهيئ الله له ما يحقق له رغبته.
وفي هذا المعنى روى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا معشر الشباب من استطاع الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وِجَاء). [البخاري (2/673) ومسلم (2/1018)]
والخلاصة أن الصوم مُعِينٌ لصاحبه على الصبر في مقامات كثيرة من حياته، وفي تسمية شهر رمضان بـ(شهر الصبر) إشارة واضحة إلى هذا المعنى، والصائم الصادق في صومه، جدير بأن يكون صيامه لشهر رمضان، دافعا له على الصبر على فعل الطاعات وترك المعاصي في شهر رمضان، وما تلاه من شهور، إلى رمضان آخر، جعلنا الله جميعا من الصائمين الصابرين.
المجال الثالث لتدريب المسافر إلى الجنة: "مصاحبة القرآن في "شهر القرآن"
ثلاث آيات في ثلاث سور، تبين أن القرآن الكريم، نزل في ليلة واحدة من هذا الشهر الكريم "رمضان" وهي ليلة القدر:
الآية الأولى: هي قوله تعالى في: ((شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون)) [البقرة (185)]
فهي صريحة في أنه تعالى أنزله في شهر رمضان، وهو شامل لأيامه ولياليه من أوله إلى آخره.
الآية الثانية: هي الآية الثالثة من سورة الدخان، في قوله تعالى: ((حم(1) والكتاب المبين (2) إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين(3) فيها يفرق كل أمر حكيم (4) أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين (5) رحمة من ربك إنه هو السميع العليم (6) [الدخان]
وينبغي حمل هذه الليلة المباركة، على أنها إحدى ليالي شهر رمضان، الذي نصت آية البقرة على أن القرآن نزل فيه، ولكنها تبقى مبهمة يجوز أن تكون أي ليلة من لياليه، بدون تحديد.
الآية الثالثة: هي الآية الأولى في سورة القدر في قوله تعالى: ((إنا أنزلناه في ليلة القدر(1)وما أدراك ما ليلة القدر(2) ليلة القدر خير من ألف شهر(3) تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر(4) سلام هي حتى مطلع الفجر)) (5) [القدر]
ولكن هذه الليلة – مع تحديدها بالوصف – لم يعينها القرآن الكريم،،،، ولهذا وجب الرجوع فيها إلى السنة التي رجحت وجودها في العشر الأخيرة من هذا الشهر، ووردت أحاديث أكثر تحديدا لها بليالي الوتر من العشر الأخيرة، ثم وردت أحاديث أخرى تظهر رجحان أنها ليلة السابع والعشرين من رمضان، وسيأتي الكلام على الحكمة في إبهام هذه الليلة المباركة، وعدم القطع بتعيينها.
والذي يعنينا هنا: هو مجال القرآن الكريم في تدريب المسافر إلى الجنة.
فتدريب المسلم نفسه للسفر إلى الجنة، في مجال القرآن الكريم، شامل لكل وقت من أوقات عمره، ولكن شهر رمضان له مزية على سائر الشهور، وكذلك كل يوم من أيامه، وكل ليلة من لياليه، لكون شهر رمضان ظرفا لبدء نزول هذا القرآن.
وهذا ما جرى عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي كان يتلو كتاب الله في كل الأوقات، ولكنه كان أكثر تلاوة له في شهر رمضان، بل إن الله تعالى خص شهر رمضان بما لم يخص به غيره من تلاوته، حيث كان يرسل جبريل عليه السلام، ليدارس الرسول صلى الله عليه وسلم القرآن، كل ليلة من ليالي شهر رمضان، وكان يدارسه مرة كل عام، فلما كانت السنة التي توفي فيها، دارسه القرآن مرتين.
فعن بن عباس رضي الله عنهما، قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فَلَرسولُ الله صلى الله عليه وسلم، أجودُ بالخير من الريح المرسلة" [البخاري (1/6) وغيره]
عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: "كان يُعرضُ على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن، كل عام مرة، فَعُرِض عليه مرتين في العام الذي قبض فيه، وكان يعتكف كل عام عشرا، فاعتكف عشرين في العام الذي قبض فيه" [البخاري: (4/1911) وابن ماجه (1/562) وغيره]
إن نزول القرآن في شهر رمضان، ونزول جبريل من السماء، ليدارس الرسول صلى الله عليه وسلم القرآن، كل ليلة من ليالي رمضان، في كل عام من أعوامه، ثم مدارسته له في آخر عام من حياته مرتين، ليدل دِلالة واضحة، على شدة حب الله تعالى منزلِ القرآن في شهر رمضان، لاهتمام المسلم بكثرة تلاوته في هذا الشهر، اقتداء برسوله الكريم صلى الله عليه وسيلم.
ويؤخذ من مدارسة جبريل للرسول صلى الله عليه وسلم القرآن، مشروعية مدارسة المسلمين القرآن فيما بينهم، وبخاصة، مدارسة العلماءِ طلابَ العلم، لتصحيح التلاوة، وللتفقه في معاني كتاب الله.
ومما يؤكد ذلك ما ثبت من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (... وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده) [صحيح مسلم (4/2074)]
تأهيل القرآن المسافر إلى الجنة.
إن تلاوة القرآن الكريم، على ما فيها من الأجر العظيم، بحيث يكون لتاليه بكل حرف عشر حسنات، كما صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم، إن تلاوته ليست كافية وحدها لتأهيل المسافر إلى الجنة، بل لا بد مع تلاوته من الاهتداء بِهداه.
وإذا عدنا إلى آية سورة البقرة التي ذكر فيها نزول القرآن في شهر رمضان، فسنعرف منها، أن القرآن يؤهل المسافر إلى الجنة، باهتدائه بهذا القرآن، كما قال تعالى: ((شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان...))
فالمسلم الذي يهتدي بكتاب الله، هو الذي يكون مؤهلا للسفر إلى الجنة.
وينبغي أن يعلم أن القرآن جاء بالهدى للجن والإنس جميعا، ولكنه يخص بالهداية المؤمنين به، بسبب أنهم هم الذين يهتدون به وينتفعون بنوره فعلا.
والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة في كتاب الله، نذكر طرفا منها:
منها قوله تعالى: ((ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين)) [البقرة(2)]
((هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين)) [آل عمران (138)]
وقوله: ((ياأيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين)) [يونس (57)]
وقوله: ((ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين)) [النحل (89)]
وقوله: ((الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد)) [الزمر (23)]
وقوله: ((ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد)) [فصلت (44)]
وقال تعالى عن الجن: ((وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا)) [الجن (13)]
ولما كان الله تعالى يحب أن يهتدي عبده المؤمن بكتابه، ويتبع سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو به رءوف رحيم، فقد شرع له قراءة سورة الفاتحة في كل ركعة من ركعات صلاته، فرضا كانت أو نفلا، وفي هذه السورة دعاء المصلي ربَّه تعالى أن يهديه صراطه المستقيم، وهو دينه الحنيف الحق، الذي لم يعد في الأرض دينُ حقٍّ سواه.
ولهذا اقترن دعاء المؤمن ربه أن يهديه الصراط المستقيم، بدعائه أن ينجيه من غيره من سبل من استحقوا غضب الله، من اليهود ومن شابههم، ممن كفروا بالله على علم، والنصارى ومن شابههم، ممن كفروا به على جهل وتكبر عن طلب العلم والهدى.
قال تعالى: ((الحمد لله رب العالمين. الرحمن الرحيم. مالك يوم الدين. إياك نعبد وإياك نستعين. اهدنا الصراط المستقيم. صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين)) [الفاتحة]
وبين سبحانه وتعالى، أن من اهتدى بهدى الله، أمن من الخوف والحزن ومن الضلال والشقاء في الدنيا والآخرة، ومن أعرض عن هداه وكذب به، استحق الخلود في جهنم، والضلال والشقاء في الدنيا والآخرة.
قال تعالى: ((قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون(38) والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (39) [البقرة]
وقال تعالى: ((قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى (123) ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى (124) قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا (125) قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى(126) وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى)) [طه (127)]
وقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم، مثلا لمن طلب هدى الله فيما بعث به رسوله، من هذا القرآن – ومثله سنة الرسول صلى الله عليه وسلم – وعمل به وعلمه، فشبهه بالأرض الطيبة التي تمسك الماء، وترتوي به، وتنبت الكلأ والعشب، فيستقي من مائها الناس والدواب والطيور،،، وتتغذى من زرعها وعشبها الناس والدواب، وضرب مثلا آخر لمن طلب هذا الهدى، ولكنه أقل عملا به من الصنف الأول، بأجادب من الأرض، أمسكت الماء، فشرب الناس منها وسقوا وزرعوا، وضرب مثلا ثالثا لمن لم ينل من هدى الله شيئا، بالقيعان من الأرض التي لا تمسك ماء، ولا تنبت كلأ، فلا يستفيد الناس ولا الدواب منها شيئا.
يبين ذلك حديث أبي موسى الأشعري، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (إن مثل ما بعثني الله عز وجل من الهدى والعلم، كمثل غيث أصاب أرضا، فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا ورعوا، وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان، لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه بما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به). [البخاري (1/42) ومسلم (4/1787)]
فهنيئا للمسلم مصاحبة القرآن في شهر القرآن، وفوزه بالفقه فيه والعمل بما تضمنه من إسلام وإيمان وإحسان.
وسائل الاهتداء بالقرآن
وللاهتداء بكتاب الله وسائل، لا بد أن يتخذها المؤمن عند تلاوته:
الوسيلة الأولى: تلاوته بتدبر لفهم معانيه
هذه الوسيلة هي مفتاح تزكية المسلم نفسه، بطاعة الله وترك معاصيه، على أساس تلاوة القرآن الكريم، لأن فهم مراد الله تعالى من عبده المؤمن يعين القارئ على تطبيق ما فهمه.
فقد بين سبحانه أنه أنزل هذا القرآن، ليتدبره العقلاء، ويتذكروا ما فيه من الحق الذي يبينه لهم، ويدعوهم إلى العمل به، والباطل الذي يكشفه لهم ويحذرهم منه، وما يجب عليهم من طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: ((كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب)) [ص (29)]
وأنكر سبحانه على من عصاه، وأهمل تدبر كتابه، كما قال تعالى: ((أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا))[النساء (82)]
وقال: ((أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين)) [المؤمنون(68)]
وقال تعالى: ((أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها)) [محمد (24)]
فينبغي للمؤمن، وهو يتلو كتاب الله، أن يحقق ما أراده الله من إنزال القرآن من التدبر والتذكر، وألا يكون كأهل الكفر والنفاق الذين لا يعيرون كتاب الله اهتماما، ولا يلقون له بالا.
الوسيلة الثانية: أن يبحث القارئ لكتاب الله عما يحبه الله تعالى، من القول والعمل و لاعتقاد، ومن الأخلاق والصفات، وما يكرهه الله من ذلك، ويبحث كذلك عمن يحبهم الله ومن يبغضهم.
فسيجد في كتاب الله ذكر المؤمنين والمؤمنات والثناء عليهم وصفاتهم وثوابهم، وما تفرع عن أهل الإيمان، كالصالحين، والشهداء، والمتقين، والصديقين...
ويجد ذكر الكفار وذمهم وصفاتهم وعقابهم، ويجد ذكر المنافقين وتقبيحهم وصفاتهم وجزائهم، ومثل ذلك الظالمون، والفاسقون، والمجرمون....
وسيجد تالي القرآن أقوالا وأعمالا أمر الله بإتيانها، وأخرى نهى الله عنها، وسيجد ما يهيئ للمسافر إلى الجنة ما يؤهله للسفر إلى لجنة، وللمسافر إلى النار ما يهيئه للسفر إلى النار.... وهكذا
إن معرفة تالي القرآن لذلك كله، يعينه على طاعة ربه وترك معصيته.
ولنضرب لذلك بعض الأمثلة:
فالله تعالى يحب الإحسان والمحسنين: ((وأحسنوا إن الله يحب المحسنين)) [البقرة (195)]
وهو يحب التقوى والمتقين: ((بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين)) [آل عمران (76)]
ويحب الصبر والصابرين: ((وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين)) [آل عمران (146)]
ويحب التوكل والمتوكلين: ((فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين)) [آل عمران (159)]
ويحب الطهر والمتطهرين: ((فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين)) [التوبة (108)]
ويحب العدل وأهله: ((وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين)) [الحجرات (9)]
ويحب الجهاد والمجاهدين: ((إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص)) [الصف (4)]
ولا يحب العدوان والمعتدين: ((ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين)) البقرة (190)
ولا يحب الفساد والمفسدين: ((وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد)) [البقرة (205)]
ولا يحب الكفر والكافرين: ((قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين)) [آل عمران (32)]
ولا يحب الظلم والظالمين: ((والله لا يحب الظالمين)) [آل عمران (57)]
ولا يحب الخيانة والخائنين: ((ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما)) [النساء (107)]
ولا يحب الإسراف والمسرفين: ((وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين)) [الأنعام (141)]
الوسيلة الثالثة : عرض القارئ نفسه على ما يحبه الله وما يكرهه وما يأمر به، وما ينهى عنه، ويعرض صفاته على صفات المؤمنين، وصفات الكافرين وصفات المنافقين، ليعرف موضعه الذي وضع نفسه فيه، و من هم قرناؤه، فإن وجد خيرا فليحرص عليه، وإن وجد غير ذلك فليعلم أن المرء مع من أحب، وليداو نفسه بالقرآن الكريم ((إن هذا القرآن يهدي للتي هي أحسن))
وسيجد قارئ القرآن كثيرا من علاقات أصناف البشر بعضهم ببعض، كالأسرة من أب وأم وابن وبنت، وزوج وزوجة، وأخ وأخت، وكل ذي رحم مع رحمه، وجار مع جاره، ودائن ومدين، وولي أمر ورعية، ولكل من تلك الأصناف حقوق، وعليه واجبات، لصاحب الحق أن ينال حقه بدون زيادة، وعلى من عليه واجب أن يؤدي واجبه بدون نقص، والقارئ لا بد أن يكون واحدا من هؤلاء، له حقوق وعليه واجبات، وهو في حاجة إلى معرفة حقوقه، حتى لا يأخذ ما ليس فيه حق، ومعرفة واجباته، حتى يؤديها إلى أهلها.
إن القرآن مرآة المؤمن يرى فيه محاسن نفسه، فيحرص على بقائها و الازدياد منها، ويرى مساويها فيحرص على التخلص منها والبعد عن مثيلاتها، وهذه المرآة تظهر للإنسان طهارة قلبه أو قذارته، ولا توجد مرآة تحقق هذا الغرض غير كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم... ولهذا يحرص عباد الله الصالحون على المداومة على النظر فيهما، رغبة في تعاهد قلوبهم وطهارتها.
((إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا)) ل[الإسراء (9)]
ولهذا قال ابن مسعود رضي الله عنه وغيره من السلف: "إذا سمعت الله تعالى يقول في القرآن ((يا أيها الذين آمنوا)) فارعها سمعك فإنها خير يأمر به أو شر ينهى عنه" [تفسير القرآن العظيم، لابن كثير (1/61)]
ومعنى قوله: "فارعها سمعك" يعني أصغ لما بعد نداء الله بـ((يا أيها الذين آمنوا)) واهتم به، لأن ما يتلو ذلك النداء، لا يخلو من أمر بخير، لا يليق بالمؤمن تفويته، أو نهي عن شر، لا يليق بالمؤمن ارتكابه.
المجال الرابع: الإخلاص.
آيات الصوم بدأها الله بنداء المؤمنين (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا )) [البقرة: من الآية183].
ثم أتبعها بحكم الصيام، فقال: (( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ )) [البقرة: من الآية183].
ومقتضى الإيمان أن يخلص الصائمون نيتهم في صومهم لله الذي فرض عليهم هذه العبادة، كغيرها من العبادات.
والأصل في كل عبادة يؤديها المسلم لربه، أن يكون مخلصاً فيها له، لا يشوبها شيء من إرادة غيره تعالى؛ لأن إرادة غير الله يعتبر نوعاً من أنواع الشرك، إما شركاً أكبر، كالسجود للأصنام أو القبور، ومثله إراقة دم الحيوان لغير الله على سبيل العبادة، وإما شركاً أصغر، كالرياء...
ويشمل ذلك كله قوله تعالى: (( وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً )) [النساء (36)].
وقد وردت نصوص كثيرة في القرآن والسنة، تحض على الإخلاص بمادته،كقوله تعالى: (( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ )) [البينة (5)].
وقوله تعالى: (( قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ )) [الأعراف (29)]
وقوله تعالى: (( هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقاً وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ * فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ )) [غافر:13-14].
وكثير من الناس قد يظن أن الإخلاص لله تعالى أمر سهل لا صعوبة فيه، وهو ظن مبالغ فيه، لأن إخلاص العمل لله يحتاج من العامل إلى مجاهدة نفسه، حتى يُصًفِّيَ عملَه من شوائب إرادة غير الله..
إذ النفوس البشرية ترغب في ثناء الناس عليها، وعلى ما تقوم به من أعمال الخير، وقد يغلب حب العبد لذلك على الإخلاص لله، وذلك من أهم عوامل القدح في إخلاصه لربه.
لهذا وردت النصوص في الحث على الإخلاص بصفة عامة، كما مضى..
ووردت نصوص في ذم الرياء في الأعمال كذلك، وتشبيه صاحبه بمن لا يؤمن بالله واليوم الآخر..
كما قال تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ )) [البقرة:264].
ونهى تعالى المؤمنين المجاهدين، أن يتشبهوا بالمشركين في ريائهم، فقال تعالى: (( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ )) [الأنفال:47].
وكثير من العبادات تفتتح بما يذكر العبد بالإخلاص فيها لله تعالى، ويقويه في نفسه.
ومن أمثلة ذلك الصلاة التي تبدأ بتكبيرة الإحرام: ( الله أكبر ) فالمصلي إذا وفقه الله لمراعاة هذه الجملة وما تحمله من عظمة الله، أُعِينَ على الإخلاص في صلاته من أولها إلى آخرها، فلا يلتفت إلى غيره بل ينجو من الرياء، مع أن الصلاة كلها لا تخلو من ذكر الله، في القيام والقعود والسجود..
وكذلك الحج، الذي يبدأ بقول الحاج أو المعتمر: ( لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك ) ثم يستمر ذاكرا حتى يودع البيت الحرام ،،، مع حثه على الاستمرار على ذكر الله.
و "الجهاد" قُيِّدَ بهذا القيد "في سبيل الله" فإذا خلا من هذا القيد، لم يعد جهاداً شرعياً، كما صحت بذلك الأحاديث. ومنها:
حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قال:
"جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: الرجل يقاتل حمية، ويقاتل شجاعة، ويقاتل رياء، فأي ذلك في سبيل الله؟ قال: ( من قاتل لتكون كلمة الله هي الله العليا فهو في سبيل الله ) [البخاري (6/2714) ومسلم (3/1512)].
وجميع العبادات لا يعلم إخلاصَ صاحبِها فيها إلا اللهُ، ومنها الصيام الذي قد يظهر صاحبه أنه صائم لله تعالى، وعلى الناس أن يعاملوه بالظاهر،كالصلاة والحج والجهاد وكل العبادات التي يتقرب بها المسلم إلى الله، وقد يكون في علم الله غير صائم، أو انه صام لغرض آخر، وليس لوجه ربه...
ولهذا جاء تكليف الله عباده بالصيام بادئاً، بهذا النداء: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَام )) كما مضى.
وأكدت ذلك أحاديثُ صحيحة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنها:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه:
عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ( من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه ومن صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه...) [البخاري (2/534) مسلم (2/729)].
واضح من الحديث، أنه لا يترتب على قيام ليلة القدر وصوم رمضان، الثواب الموعود به ( غفر له ما تقدم من ذنبه ) في الحالين، إلا إذا تحقق قائم ليلة القدر، وصائم رمضان، أمران:
الأول:
أن يكون فعل ذلك إيمانا بالله تعالى وبرسوله وباليوم الآخر، وبأن الله تعالى كلفه القيام بهاتين العبادتين.
الثاني:
أن يقصد بقيامه وصيامه وجه الله تعالى، وليس لغرض آخر، كرئاء الناس، من أجل أن يثنوا عليه، فيقال: فلان صائم، أو مجتهد في طلب الأجر من الله في قيام ليلة القدر أو غيرها.
فعلى المسلم أن يجاهد نفسه في أن يكون صيامه وقيامه وقراءته لكتاب الله، وصدقاته، وكل أعمال الخير التي يقوم بها، مراداً بها وجه الله، الذي لا ينفعه ولا يضره إلا الله، ولا يثيبه ويجزيه على عمله إلا الله تعالى، وأنه تعالى مطلع على السر وأخفى.
اللهم وفقنا للعمل الصالح الذي يرضيك..
والعمل الذي يجتمع فيه الإخلاص لك..
والاتباع لنبيك عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم..
المجال الخامس: قيام الليل.
شهر رمضان كغيره ظرف لأداء الفرائض والنوافل، إلا أنه يزيد على بقية الشهور، بزيادة فرض صيامه، وكثرة نوافله ومضاعفة حسناته.
والواجب على المسلم المحافظة على ما فرض الله عليه من عباداته، التي لا يسقط حكمها عنه في جميع الأوقات، كالصلوات الخمس التي هي ركن من أركان الإسلام.
وينبغي أن يكون في محافظته على تلك الفرائض في رمضان، أشد حرصا من محافظته عليها في غير رمضان، لأن أجره مضاعف على عبادته في هذا الشهر الكريم، وأداء الفرائض أحب إلى الله من أداء غيرها، وإن كان كلاهما محبوبا له تعالى.
كما ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (...... وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه .........) البخاري (5/2384)
فلا يجوز للصائم التساهل في أداء الصلوات المفروضة في أوقاتها، بالنوم عنها حتى يخرج وقتها، متذرعا بما يقوم به من نوافل الطاعات، كصلاة التراويح.
بل لو فرض أن صلاة التراويح وهي نافلة، كانت سببا في نومه عن صلاة الفجر حتى يخرج وقتها، وجب عليه التخفيف من صلاة التراويح بالقدر الذي يتمكن معه، من أداء صلاة