العراق عبر العصور
تأليف : طارق فتحي
الباب الاول
العراق تحت الحكم العربي
العراق والفتوحات العربية ( 637 م)
يبدو ان اول نزاع بين القبائل البدوية العربية المحلية والقوات الساسانية كان في 634 حين هزم العرب في معركة الجسر. كانت قوة المسلمين 5000 تحت قيادة ابو عبيدة الثقفي حين هزموا من قبل الفرس. في عام 637 كانت قوة اكبر تحت قيادة سعد بن ابي وقاص قد دحرت القسم الاعظم من جيش الفرس في معركة القادسية وتقدمت للسيطرة على المدائن واخذ غنائمها. بعد نهاية السنة التالية (638 )، سيطر المسلمون على معظم ارجاء العراق، وفر آخر ملوك الفرس الساسانيين " يزدجرد الثالث" الى ايران حيث قتل في عام 651 .
لقد تبع الفتح الاسلامي هجرة عربية من شرق الجزيرة العربية وعمان. ولم ينتشر القادمون الجدد ويقطنون في كل انحاء البلاد؛ بل اسسوا مدينتين كحاميتين عسكرستين في الكوفة، قرب بابل القديمة، وفي البصرة في الجنوب. كانت الغاية ابقاء االمقاتلين المسلمين مع عوائلهم والدعوة للاسلام وجبي الجزية من دون المسلمين من السكان الذين لم يدخلوا الاسلام بعد. في شمال البلاد ، بدات الموصل تبرز كاهم مدينة وقاعدة للحاكم المسلم ومعسكرات الجند. ماعدا النخبة من الفرس وكهنة الزرادشتية، والذين تم الاستيلاء على ممتلكاتهم، فان معظم السكان سمح لهم بالابقاء على ممتلكاتهم واديانهم.
اصبح العراق الان ولاية من ولايات الخلافة الاسلامية، والتي امتدت من شمال افريقيا وبعد ذلك من اسبانيا غربا الى بلاد السند ( الان جنوب الباكستان) شرقا. كانت المدينة في البدء هي عاصمة الخلافة، ولكن، بعد اغتيال الخليفة الثالث "عثمان بن عفان" في 656 ، جعل خليفته، ابن عم الرسول وزوج ابنته علي بن ابي طالب ، العراق قاعدته. في عام 661، اغتيل علي في الكوفة، وانتقلت الخلافة الى العائلة الاموية في سوريا. واصبح العراق ولاية تابعة، بالرغم من كونها اغنى منطقة في العالم الاسلامي وبلد اكبر عدد من المسلمين نفوسا. افرز هذا الموقف شعور مستمر بعدم الرضا من حكم الامويين واتخذ هذا اشكالا عديدة.
في عام 680 وصل الحسين بن علي الى العراق قادما من المدينة، على امل ان يناصره اهل الكوفة . لقد ذُبح هو وكل اتباعه في كربلاء بعد ان خذله اهل الكوفة
ولكن ذكراه بقيت مستمرة كمصدر الهام لكل من يناوئ الامويين. وفي القرون التالية، اصبحت كربلاء ومرقد علي في مدينة النجف القريبة مركزين مهمين لحج اصحاب المذهب الشيعي ولا زالت موضع تبجيل لحد اليوم. كانت للعراقيين فرصتهم بعد وفاة يزيد الاول في 683 عندما واجه الامويون مخاطر من عدة جهات.
في الكوفة اخذ المختار بن ابي عبيد المبادرة مسنودا بالموالي، وهم من المسلمين غير العرب الذين دخلو الاسلام لشعورهم بان الاسلام ينصفهم. قُتل المختار في 687، وقرر الامويون بان المطلوب حكما اقسى. عين الخليفة عبدالملك بن مروان (685 – 705 م) الرهيب الحجاج بن يوسف الثقفي حاكما على العراق وكل الشرق.
واصبح الحجاج اسطورة كحاكم قاس عادل. لقد انهضت اجراءاته الصارمة المعارضة من قبل النخبة العربية ، وكانت في 701 ثورة عارمة قادها محمد بن الاشعث. ولقد دحر العصيان فقط بمساعدة الجنود الامويين . اصبح العراق بعدئذ ولاية محتلة، وبنى الحجاج مدينة جديدة هي واسط، تقع في منتصف المسافة بين الكوفة والبصرة لتصبح قاعدة دائمة لمعسكرات الجيش الاموي.
وبطريقة اكثر ايجابية فقد شجع العراقيين على الالتحاق بالحملات التي قادها القائد قتيبة بن مسلم الباهلي بين 705 و 715 والتي نشر الاسلام من خلالها فيما يعرف اليوم باسيا الوسطى. وحتى بعد موت الحجاج في 714 م بقي حكم الامويين قويا على العراق وزاد الامتعاض وانتشر.
العراق تحت حكم الخلافة العباسية
واخيرا ظهر معارضون للامويين في العام 747 في شمال شرق ايران (خراسان) حيث رفع المولى ابو مسلم الخراساني الرايات السود باسم العباسيين، وهم فرع من عائلة الرسول ( ينتسبون لعمه العباس ( ويتصلون بعلى وذريته. وفي سنة 749 بلغ الجيش القادم من الشرق العراق، حيث لقي مساندة من معظم الشعب العراقي . العباسيون ذاتهم جاؤوا من منفاهم في الحميمة في جنوب الاردن (الحالية( وفي سنة 749 نصب اول خليفة عباسي ابو العباس السفاح في مسجد الكوفة.
ان هذه الثورة العباسية قادت الى العهد الذهبي في القرون الوسطى في العراق. كانت خراسان على اطراف العالم الاسلامي ولا تصلح لتكون عاصمة للخلافة، ومنذ البداية، جعل خلفاء العباسيين العراق قاعدة لهم. كان الاسلام في هذا الوقت قد انتشر بعيدا عن محمياته ومدنه الاصلية، بالرغم من ان المسلمين كانوا اقلية السكان.
حكم العباسيون في البدء من الكوفة او قربها، ولكن في عام 762 وجد المنصور عاصمة جديدة على اثرموقع قرية بغداد القديمة. كانت تعرف رسميا بمدينة السلام، ولكن كاسم متداول بقي الاسم القديم. واصبحت بغداد اكبر من اية مدينة في اوربا او غرب اسيا. بنى المنصور مدينة مدورة هائلة باربعة ابواب وكان قصره والمسجد في المركز.
كانت هذه المدينة المدورة حصرا لدوائر الدولة، وبعيد انشائها فقد انتشرت الاسواق في ضاحية الكرخ الى الجنوب. وتوسعت ضواحي اخرى، وتطورت من قبل الرجال المقربين: الحربية الى الشمال الشرقي، حيث استقر الجيش الخراساني وعبر دجلة على الضفة الشرقية بني قصر جديد للمهدي ابن الخليفة.
اثبت اختيار موقع بغداد بانه عمل عبقري. فلها مخارج على كل من نهري دجلة والفرلت ونظامهما وكانت قريبة من الطريق العام الى جبال زاغروس الى الهضبة الايرانية. كان يمكن جلب الحنطة والشعير من الجزيرة والتمور والرز من البصرة والجنوب بواسطة الطرق المائية. في حلول عام 800 كان سكان المدينة يربو عن 500.000 نسمة وكانت مركزا تجاريا مهما اضافة الى كونها تضم مقر الحكومة. وقد توسعت المدينة على حساب مراكز اخرى، وبهذا تردت احوال كل من العاصمة الساسنية القديمة " المدائن" والمركز الاسلامي "الكوفة".
ان اقصى حالة رفاه بلغتها بغداد في عهد هارون الرشيد ( 786 – 809 )، حيث كان العراق مركز الامبراطورية العربية الاسلامية ، وكانت الخيرات تاتي الى العاصمة من كل بقاع العالم الاسلامي. الا ان الخير والاستقرار في القسم الجنوبي من البلاد كان يتاثر باندلاع اعمال الشغب في الجزيرة، وخاصة تمرد البدو بقيادة وليد بن طارف، الذي حارب جيش الدولة بين عامي 794 و 797. وحتى اقوى الحكومات وجدت انه من الصعوبة بمكان فرض سيادتها على ابعد من الاراضي المأهولة.
وبعد وفاة هارون الرشيد في عام 809 كانت هناك حالة خطيرة من عدم الاستقرار. اورث ابنه الامين الخلافة في بغداد ولكنه قسم الخلافة واعطى ابنه المأمون السيطرة على ايران والجزء الشرقي من الامبراطورية . وسرعان ما انفرطت هذه الترتيبات واندلعت حروب اهلية طويلة ومدمرة
قام اتباع الامين بمحاولة فاشلة لغزو ايران في ربيع 811 ولكنهم دحروا في منطقة الري ( شهر الري، جنوب طهران الحديثة). وقام اتباع المأمون برد فعل معاكس وذلك باحتلال العراق، ومن آب 812 ولغاية ايلول 813 فرضوا حصارا على بغداد،
في حين كان باقي العراق قد انحدر الى حالة من الفوضى. ان انهيار المقاومة البغدادية وموت الامين لم يحسن الوضعن لان المامون الذي آلت الخلافة اليه قرر ان يدير الحكم من مرو في اقاصي خراسان (ماري الحديثة في تركمانستان). ان الاقلال من شان العراق وحد العديد من المجموعات لخوض مقاومة طويلة ومريرة لحكم المأمون وقادت الى حصار آخر لبغداد. اضطر المأمون اخيرا الى الاعتراف بانه لا يمكنه القيادة من بعد وفي آب 819 عاد الى بغداد.
وعادت بغداد مرة اخرى لتكون مركز الخلافة، ولكن النزاعات الطويلة تركت آثارها المدمرة على المدينة ولحق دمار كبير في الضواحي. قد يكون هذا بداية الانهيار في رخاء المنطقة؛ لقد اشر هذا الانهيار من القرن التاسع فصاعدا. ارسل المأمون قادة لاستعادة كل من مصر ويلاد الشام الى الحكم العباسي والبدء بترميم مراكز الدولة، حيث دمر الكثير من سجلات الدولة خلال المعارك. لقد كان العراق ابان حكمه من بغداد ( 819 – 833 ( مركزا لفعاليات ثقافية مميزة، وخاصة في ترجمة علوم وفلسفة الاغريق الى العربية .
ولقد جمع الخليفة نفسه نصوصا، وشغل مترجمين مثل المترجم الشهير حنين ابن اسحق، واسس اكاديمية في بغداد، بيت الحكمة مع مكتبة ومرصد. ولقد اتبع نهجه مجموعات خاصة مثل اخوان بني موسى. كان لهذه الفعاليات اثرا ليس فقط على الحياة الثقافية الاسلامية بل حتى على الحياة الثقافية لغرب اوربا، حيث ان الكثير من العلوم والفلسفة والتي كانت تدرس في الجامعات في القرون الوسطى كان مصدرها من تلك المصادر العربية، التي ترجمت الى اللاتينية في اسبانيا في القرن الثاني عشر.
لم يكن الوضع السياسي بنفس اللون الوردي. فلم يكن المأمون قادرا على تجنيد قوة كافية من الجنود لتبديل القوة العباسية القديمة التي دمرت خلال الحرب الاهلية، فاصبح يعتمد اكثر فاكثر على اخيه الاصغر، ابي اسحق الذي استطاع من جمع قوة صغيرة لكنها كفوءة من المرتزقة الاتراك، معضمهم من العبيد او العبيد العتقاء من اواسط اسيا. عندما مات المأمون في 833 استطاع ابو اسحق الملقب بالمعتصم من تولي الخلافة من بعده بصعوبة. لم يكن المعتصم مثقفا بل جنديا محاربا واداريا.
فقد اتسم حكمه ببدء التحالفات، وخاصة مع الطبقة العسكرية من الاتراك والذين سيطروا على الحياة السياسية في البلد لقرون قادمة. لم يتولى العراقيون العرب مناصب عسكرية بالرغم من استمرار نفوذهم في الادارة المدنية.
ان تجنيد هذه الطبقة الجديدة من الجند اغاض البغداديين الذين شعروا بانهم قد ابعدوا عن السلطة. دفع هذا الامتعاض المعتصم من ايجاد عاصمة جديدة في سامراء، اكبر مؤسسة حضرية في العراق لغاية القرن العشرين. اختار موقعا على دجلة حوالي 100 ميل الى الشمال من بغداد. هنا بنى مدينة بقصور ومساجد، وشوارع عريضة ومستقيمة، وبيوت مبنية بنظام موحد. ان آثار المدينة، والتي وسعها الخليفه المتوكل الذي اعقبه ( 847 – 861 )، يمكن مشاهدتها على الارض ومن المدهش ان الصور الجوية تظهر جميع مخطط المدينة. اصبحت سامراء مدينة واسعة ولكنها تفتقر الى الخصائص الطبيعية التي تتمتع بها بغداد:
فان المواصلات النهرية، والقناة التي تربط الفرات وجنوب العراق كانت اكثر صعوبة، وبالرغم من الاستثمار الهائل فان تجهيز الماء كان دائما غير كاف. احتفظت سامراء بمكانتها فقط عندما كانت عاصمة الخلافة، من 836 ولغاية 892 . وعندما عاد الخلفاء الى بغداد، لم تبد اهمية حضرية مستقلة لذا فقد تقلصت بسرعة الى مدينة من مدن الاطراف، لهذا يمكن مشاهدة آثارها في الوقت الذي اندرست فيه الاثار العباسية البغدادية القديمة.
كان النظام الجديد ولقرابة 30 عاما يعمل بصورة حسنة، وكان العراق ولاخر مرة مركزا لامبراطورية كبيرة. لقد انعشت الضرائب التي كانت تجبى سامراء، واستمرت بغداد بالانتعاش تحت حكم عائلة الطاهري . وبقيت البصرة مركزا تجاريا عظيما على الخليج.
ان تجنيد الاتراك الذين لا تربطهم اية روابط بالمجتمع المحلي شجع على عدم الاستقرار السياسي. في عام 861 اغتيل الخليفة المتوكل في قصره في سامراء من قبل قطعات ساخطة، وبدات بعدها تسع سنوات من الفوضى السياسية والتي قام خلالها الجنود الاتراك بخلع الخليفة عمليا متى شاؤوا. وفي عام 865 امتدت الحرب الاهلية بين سامراء وبغداد، مما نتج عنه حصار مدمر آخر لبغداد.
إن الفوضى السياسية انحسرت وعاد الاستقرار في 870 مع مجئ الخليفة المعتمد الى سامراء كحاكم شرفي فقط في حين كان اخوه الموفق العسكري الفعال يمارس السلطة الحقيقية من بغداد، ولكن الفوضى السياسية قد ادت ماعليها من خراب مستديم للعراق. معظم ولايات الامبراطورية، سواء على الارض الايرانية شرقا او بلاد الشام ومصر غربا كانت قد انفرطت واعلنت استقلالها.
اسوأ واكبر تمرد اندلع في جنوب العراق ذاته. وفي السنوات الاولى من العهد الاسلامي حيث كان العراق يرفل بالخير،
تم جلب الكثير من عبيد شرق افريقيا استخدموا في اعمال زراعية قاسية في مناطق الاهوار في جنوب العراق. بداوا ثورتهم في 869 بقيادة عربي يدعي انه من سلالة علي. كان لهذه الثورة تاثير كبير على الحكومة العباسية: فقد ادت الى ضياع اراض زراعية شاسعة، والاستيلاء على الميناء التجاري العظيم البصرة وتدميره في 871، قام الثوار بتدمير وحرق المساجد والبيوت وذبح الاهالي بوحشية دونما تفريق.
وبالرغم من ان البصرة اعيد احتلالها، فمن المستبعد انها عادت الى حالتها الاصلية، وانحسرت التجارة الى مدن ابعد الى الجنوب مثل سيراف ( طاهري الحالية) جنوب ايران. ان سحق هذه الثورة تضمن عمليات برمائية في الاهوار طويلة وشاقة، قادها الموفق وابنه ابو العباس ( الذي اصبح فيما بعد الخليفة المعتضد) من 879 ولغاية الاستيلاء على آخر معقل للثوار في المختارة في 833.
ان حكم المعتضد ( 892 – 902 ) وابنه المكتفي (902 – 908 ) اظهر وحدة العراق تحت السيطرة العباسية. وعادت بغداد مرة اخرى عاصمة، بالرغم من ان الخليفة كان قد اخلى العديد من غرب مدينة المنصور المدورة واصبح مركز الحكومة في الضفة الشرقية واستمر مركزا للمدينة الى يومنا هذا. كانت فترة فعاليت ثقافية عظيمة وكانت بغداد موطنا للعديد من المفكرين، بضمنهم المؤرخ العظيم الطبري، صاحب العمل الكبير الذي ارخ للدولة الاسلامية؛ وعلى كل فبغداد لم تعد عاصمة الامبراطورية العظيمة.
خلال حكم الخليفة الصبي المقتدر ( 908 – 932 ) تدهور الوضع السياسي بسرعة. ان ضعف الخليفة سمح لظهور مكائد وفتن لا نهاية لها ضمن احزاب الوزراء وتطور الى ان قام الجيش بتولي الامور. وفقدت الحكومة في بغداد السيطرة على ثروات واراضي العراق. وكانت الكارثة الاخيرة في 935 عندما اجبر الخليفة الراعي لتسليم كل سلطاته الى قائد مغمور هو ابن رائق.
ان كارثة الخليفة العباسي صحبها كارثة انهيار اقتصادي. ومن المحتمل ان دورة الانحطاط القاسية بدات مع الحرب الاهلية بعد وفاة هارون الرشيد في 809 ، ولم يكن هناك شك بانها قد تفاقمت من جراء طلبات الجنود الاتراك للدفع . لقد قام الاداريون باستمرار باتباع وسائل نفعية قصيرة الامد مثل ضريبة الزراعة والتي شجعت على الابتزاز والاضطهاد، وجعل العسكر اقطاعيين.
الاقطاع نظريا : (هو منح الحق في جمع واستخدام فوائد الضرائب, والتي لا يمكن توريثها او بيعها ( ان الغاية من الاقطاع هو ان يجني الجنود انفسهم مايستطيعون مباشرة من الارض المخصصة لهم. ان هذين الحلين امنا مردودا من استغلال الارض لفترة قصيرة بدلا من استثمارها لفترة طويلة. ماعدا في الشمال،
فمعظم الزراعة العراقية كانت تعتمد على الاستثمار في مجمعات الري والنظم المالية الجديدة التي جلبت الكوارث. في 935 نفس السنة التي سلمت فيها الري السلطة الى القائد العسكري ابن رائق، تم شق اعظم عمل اروائي قديم في وسط العراق، وهو قناة النهروان لمنع تقدم الجيوش الزاحفة. ان الضرر الذي حصل لا يمكن اصلاحه، مساحات كبيرة لم يجر زرعها، واخليت قرى كثيرة. ان تدمير القناة كان رمزا لنهاية الحضارة الاروائية التي جلبت الخير الوفير الى بلاد مابين النهرين القديمة وهذا ما ارسى ركائز الساسانيين والحكومات الاسلامية الاولى.
العراق و ثورة الزنج ) 869 – 883 م )
ثورة العبيد السود ضد امبراطورية الخلافة العباسية. جلب عدد من اصحاب الاراضي (الملاك) البصريون عدة آلاف من زنوج شرق افريقيا الى جنوب العراق لتجفيف الأهوار المالحة شرق البصرة. اخضع االملاك الزنوج، والذين لا ينطقون العربية، الى اعمال شاقة واعطوهم القليل مايسدون به رمقهم. في ايلول 869 قام علي ابن محمد، فارسي يدعي النسب الى الخليفة الرابع علي بن ابي طالب وفاطمة الزهراء بنت النبي محمد (ص) قام هذا بتاليب وتحريض عدد من هؤلاء العبيد -- طوائف العمل-- والذين بلغ عددهم مابين 500 الى 5000 رجل – وذلك بان اشار الى الجور وعدم المساواة في وضعهم الاجتماعي ووعدهم بالحرية والغنى. لقي عرض علي هذا استحسانا وجذبهم اكثر حين اعتنق فكر الخوارج. واعلن بان من حق اي كان حتى العبد الاسود ان يكون خليفة وانه سيشن حربا مقدسة على كل من لا يعتنق مذهب الخوارج.
تعاضمت قوة الزنج في الحجم والقوة وانظم اليهم العبيد المدربين الفارين من جيوش الخليفة، اضافة الى بعض الالفلاحين المتضررين. وفي تشرين اول 869 هزموا قوة بصرية، وسرعان ما اتخذوا المختارة عاصمة لهم، بنيت في منطقة ملحية جافة تحيطها القنوات المائية. تمكن الثوار من السيطرة على جنوب العراق باستيلائهم على الابيلا ( في حزيران870 ) وكانت ميناءا على الخليج، وقطعوا خطوط المواصلات الى البصرة، ومن ثم احتلوا الاهواز في جنوب ايران.
وهنا سلم جيش الخلافة الى القائد الموفق، اخو الخليفة الجديد المعتمد ( حكم 870 – 892 ) ولم يكن بمقدوره التعامل مع الثوار. واحتل الزنج البصرة في ايلول 871، واعقبوا ذلك بدحر الموفق ذاته في نيسان 872 م بين عامي 872 و 879 وحينما كان الموفق مشغولا في شرق ايران بتوسعات الصفاريين،
وهم سلالة ايرانية مستقلة، استطاع الزنج من اخضاع واسط في عام ( 878 ) واسسوا لهم موطئا في خوزستان، في ايران. في عام 879 ونظم الموفق هجوما واسعا ضد العبيد الزنج. وخلال سنة استطاع الاستيلاء على مدينة زنجية اخرى هي المنية. وطرد الثوار من خوزستان وفي ربيع عام 881 م حاصر الموفق المختارة من الضفة الاخرى لدجلة. وبعد سنتين وفي آب عام 883 م وبدعم من المصريين تمكن الموفق اخيرا من سحق الثوار واحتل المدينة وعاد الى بغداد برأس علي.
تأليف : طارق فتحي
الباب الاول
العراق تحت الحكم العربي
العراق والفتوحات العربية ( 637 م)
يبدو ان اول نزاع بين القبائل البدوية العربية المحلية والقوات الساسانية كان في 634 حين هزم العرب في معركة الجسر. كانت قوة المسلمين 5000 تحت قيادة ابو عبيدة الثقفي حين هزموا من قبل الفرس. في عام 637 كانت قوة اكبر تحت قيادة سعد بن ابي وقاص قد دحرت القسم الاعظم من جيش الفرس في معركة القادسية وتقدمت للسيطرة على المدائن واخذ غنائمها. بعد نهاية السنة التالية (638 )، سيطر المسلمون على معظم ارجاء العراق، وفر آخر ملوك الفرس الساسانيين " يزدجرد الثالث" الى ايران حيث قتل في عام 651 .
لقد تبع الفتح الاسلامي هجرة عربية من شرق الجزيرة العربية وعمان. ولم ينتشر القادمون الجدد ويقطنون في كل انحاء البلاد؛ بل اسسوا مدينتين كحاميتين عسكرستين في الكوفة، قرب بابل القديمة، وفي البصرة في الجنوب. كانت الغاية ابقاء االمقاتلين المسلمين مع عوائلهم والدعوة للاسلام وجبي الجزية من دون المسلمين من السكان الذين لم يدخلوا الاسلام بعد. في شمال البلاد ، بدات الموصل تبرز كاهم مدينة وقاعدة للحاكم المسلم ومعسكرات الجند. ماعدا النخبة من الفرس وكهنة الزرادشتية، والذين تم الاستيلاء على ممتلكاتهم، فان معظم السكان سمح لهم بالابقاء على ممتلكاتهم واديانهم.
اصبح العراق الان ولاية من ولايات الخلافة الاسلامية، والتي امتدت من شمال افريقيا وبعد ذلك من اسبانيا غربا الى بلاد السند ( الان جنوب الباكستان) شرقا. كانت المدينة في البدء هي عاصمة الخلافة، ولكن، بعد اغتيال الخليفة الثالث "عثمان بن عفان" في 656 ، جعل خليفته، ابن عم الرسول وزوج ابنته علي بن ابي طالب ، العراق قاعدته. في عام 661، اغتيل علي في الكوفة، وانتقلت الخلافة الى العائلة الاموية في سوريا. واصبح العراق ولاية تابعة، بالرغم من كونها اغنى منطقة في العالم الاسلامي وبلد اكبر عدد من المسلمين نفوسا. افرز هذا الموقف شعور مستمر بعدم الرضا من حكم الامويين واتخذ هذا اشكالا عديدة.
في عام 680 وصل الحسين بن علي الى العراق قادما من المدينة، على امل ان يناصره اهل الكوفة . لقد ذُبح هو وكل اتباعه في كربلاء بعد ان خذله اهل الكوفة
ولكن ذكراه بقيت مستمرة كمصدر الهام لكل من يناوئ الامويين. وفي القرون التالية، اصبحت كربلاء ومرقد علي في مدينة النجف القريبة مركزين مهمين لحج اصحاب المذهب الشيعي ولا زالت موضع تبجيل لحد اليوم. كانت للعراقيين فرصتهم بعد وفاة يزيد الاول في 683 عندما واجه الامويون مخاطر من عدة جهات.
في الكوفة اخذ المختار بن ابي عبيد المبادرة مسنودا بالموالي، وهم من المسلمين غير العرب الذين دخلو الاسلام لشعورهم بان الاسلام ينصفهم. قُتل المختار في 687، وقرر الامويون بان المطلوب حكما اقسى. عين الخليفة عبدالملك بن مروان (685 – 705 م) الرهيب الحجاج بن يوسف الثقفي حاكما على العراق وكل الشرق.
واصبح الحجاج اسطورة كحاكم قاس عادل. لقد انهضت اجراءاته الصارمة المعارضة من قبل النخبة العربية ، وكانت في 701 ثورة عارمة قادها محمد بن الاشعث. ولقد دحر العصيان فقط بمساعدة الجنود الامويين . اصبح العراق بعدئذ ولاية محتلة، وبنى الحجاج مدينة جديدة هي واسط، تقع في منتصف المسافة بين الكوفة والبصرة لتصبح قاعدة دائمة لمعسكرات الجيش الاموي.
وبطريقة اكثر ايجابية فقد شجع العراقيين على الالتحاق بالحملات التي قادها القائد قتيبة بن مسلم الباهلي بين 705 و 715 والتي نشر الاسلام من خلالها فيما يعرف اليوم باسيا الوسطى. وحتى بعد موت الحجاج في 714 م بقي حكم الامويين قويا على العراق وزاد الامتعاض وانتشر.
العراق تحت حكم الخلافة العباسية
واخيرا ظهر معارضون للامويين في العام 747 في شمال شرق ايران (خراسان) حيث رفع المولى ابو مسلم الخراساني الرايات السود باسم العباسيين، وهم فرع من عائلة الرسول ( ينتسبون لعمه العباس ( ويتصلون بعلى وذريته. وفي سنة 749 بلغ الجيش القادم من الشرق العراق، حيث لقي مساندة من معظم الشعب العراقي . العباسيون ذاتهم جاؤوا من منفاهم في الحميمة في جنوب الاردن (الحالية( وفي سنة 749 نصب اول خليفة عباسي ابو العباس السفاح في مسجد الكوفة.
ان هذه الثورة العباسية قادت الى العهد الذهبي في القرون الوسطى في العراق. كانت خراسان على اطراف العالم الاسلامي ولا تصلح لتكون عاصمة للخلافة، ومنذ البداية، جعل خلفاء العباسيين العراق قاعدة لهم. كان الاسلام في هذا الوقت قد انتشر بعيدا عن محمياته ومدنه الاصلية، بالرغم من ان المسلمين كانوا اقلية السكان.
حكم العباسيون في البدء من الكوفة او قربها، ولكن في عام 762 وجد المنصور عاصمة جديدة على اثرموقع قرية بغداد القديمة. كانت تعرف رسميا بمدينة السلام، ولكن كاسم متداول بقي الاسم القديم. واصبحت بغداد اكبر من اية مدينة في اوربا او غرب اسيا. بنى المنصور مدينة مدورة هائلة باربعة ابواب وكان قصره والمسجد في المركز.
كانت هذه المدينة المدورة حصرا لدوائر الدولة، وبعيد انشائها فقد انتشرت الاسواق في ضاحية الكرخ الى الجنوب. وتوسعت ضواحي اخرى، وتطورت من قبل الرجال المقربين: الحربية الى الشمال الشرقي، حيث استقر الجيش الخراساني وعبر دجلة على الضفة الشرقية بني قصر جديد للمهدي ابن الخليفة.
اثبت اختيار موقع بغداد بانه عمل عبقري. فلها مخارج على كل من نهري دجلة والفرلت ونظامهما وكانت قريبة من الطريق العام الى جبال زاغروس الى الهضبة الايرانية. كان يمكن جلب الحنطة والشعير من الجزيرة والتمور والرز من البصرة والجنوب بواسطة الطرق المائية. في حلول عام 800 كان سكان المدينة يربو عن 500.000 نسمة وكانت مركزا تجاريا مهما اضافة الى كونها تضم مقر الحكومة. وقد توسعت المدينة على حساب مراكز اخرى، وبهذا تردت احوال كل من العاصمة الساسنية القديمة " المدائن" والمركز الاسلامي "الكوفة".
ان اقصى حالة رفاه بلغتها بغداد في عهد هارون الرشيد ( 786 – 809 )، حيث كان العراق مركز الامبراطورية العربية الاسلامية ، وكانت الخيرات تاتي الى العاصمة من كل بقاع العالم الاسلامي. الا ان الخير والاستقرار في القسم الجنوبي من البلاد كان يتاثر باندلاع اعمال الشغب في الجزيرة، وخاصة تمرد البدو بقيادة وليد بن طارف، الذي حارب جيش الدولة بين عامي 794 و 797. وحتى اقوى الحكومات وجدت انه من الصعوبة بمكان فرض سيادتها على ابعد من الاراضي المأهولة.
وبعد وفاة هارون الرشيد في عام 809 كانت هناك حالة خطيرة من عدم الاستقرار. اورث ابنه الامين الخلافة في بغداد ولكنه قسم الخلافة واعطى ابنه المأمون السيطرة على ايران والجزء الشرقي من الامبراطورية . وسرعان ما انفرطت هذه الترتيبات واندلعت حروب اهلية طويلة ومدمرة
قام اتباع الامين بمحاولة فاشلة لغزو ايران في ربيع 811 ولكنهم دحروا في منطقة الري ( شهر الري، جنوب طهران الحديثة). وقام اتباع المأمون برد فعل معاكس وذلك باحتلال العراق، ومن آب 812 ولغاية ايلول 813 فرضوا حصارا على بغداد،
في حين كان باقي العراق قد انحدر الى حالة من الفوضى. ان انهيار المقاومة البغدادية وموت الامين لم يحسن الوضعن لان المامون الذي آلت الخلافة اليه قرر ان يدير الحكم من مرو في اقاصي خراسان (ماري الحديثة في تركمانستان). ان الاقلال من شان العراق وحد العديد من المجموعات لخوض مقاومة طويلة ومريرة لحكم المأمون وقادت الى حصار آخر لبغداد. اضطر المأمون اخيرا الى الاعتراف بانه لا يمكنه القيادة من بعد وفي آب 819 عاد الى بغداد.
وعادت بغداد مرة اخرى لتكون مركز الخلافة، ولكن النزاعات الطويلة تركت آثارها المدمرة على المدينة ولحق دمار كبير في الضواحي. قد يكون هذا بداية الانهيار في رخاء المنطقة؛ لقد اشر هذا الانهيار من القرن التاسع فصاعدا. ارسل المأمون قادة لاستعادة كل من مصر ويلاد الشام الى الحكم العباسي والبدء بترميم مراكز الدولة، حيث دمر الكثير من سجلات الدولة خلال المعارك. لقد كان العراق ابان حكمه من بغداد ( 819 – 833 ( مركزا لفعاليات ثقافية مميزة، وخاصة في ترجمة علوم وفلسفة الاغريق الى العربية .
ولقد جمع الخليفة نفسه نصوصا، وشغل مترجمين مثل المترجم الشهير حنين ابن اسحق، واسس اكاديمية في بغداد، بيت الحكمة مع مكتبة ومرصد. ولقد اتبع نهجه مجموعات خاصة مثل اخوان بني موسى. كان لهذه الفعاليات اثرا ليس فقط على الحياة الثقافية الاسلامية بل حتى على الحياة الثقافية لغرب اوربا، حيث ان الكثير من العلوم والفلسفة والتي كانت تدرس في الجامعات في القرون الوسطى كان مصدرها من تلك المصادر العربية، التي ترجمت الى اللاتينية في اسبانيا في القرن الثاني عشر.
لم يكن الوضع السياسي بنفس اللون الوردي. فلم يكن المأمون قادرا على تجنيد قوة كافية من الجنود لتبديل القوة العباسية القديمة التي دمرت خلال الحرب الاهلية، فاصبح يعتمد اكثر فاكثر على اخيه الاصغر، ابي اسحق الذي استطاع من جمع قوة صغيرة لكنها كفوءة من المرتزقة الاتراك، معضمهم من العبيد او العبيد العتقاء من اواسط اسيا. عندما مات المأمون في 833 استطاع ابو اسحق الملقب بالمعتصم من تولي الخلافة من بعده بصعوبة. لم يكن المعتصم مثقفا بل جنديا محاربا واداريا.
فقد اتسم حكمه ببدء التحالفات، وخاصة مع الطبقة العسكرية من الاتراك والذين سيطروا على الحياة السياسية في البلد لقرون قادمة. لم يتولى العراقيون العرب مناصب عسكرية بالرغم من استمرار نفوذهم في الادارة المدنية.
ان تجنيد هذه الطبقة الجديدة من الجند اغاض البغداديين الذين شعروا بانهم قد ابعدوا عن السلطة. دفع هذا الامتعاض المعتصم من ايجاد عاصمة جديدة في سامراء، اكبر مؤسسة حضرية في العراق لغاية القرن العشرين. اختار موقعا على دجلة حوالي 100 ميل الى الشمال من بغداد. هنا بنى مدينة بقصور ومساجد، وشوارع عريضة ومستقيمة، وبيوت مبنية بنظام موحد. ان آثار المدينة، والتي وسعها الخليفه المتوكل الذي اعقبه ( 847 – 861 )، يمكن مشاهدتها على الارض ومن المدهش ان الصور الجوية تظهر جميع مخطط المدينة. اصبحت سامراء مدينة واسعة ولكنها تفتقر الى الخصائص الطبيعية التي تتمتع بها بغداد:
فان المواصلات النهرية، والقناة التي تربط الفرات وجنوب العراق كانت اكثر صعوبة، وبالرغم من الاستثمار الهائل فان تجهيز الماء كان دائما غير كاف. احتفظت سامراء بمكانتها فقط عندما كانت عاصمة الخلافة، من 836 ولغاية 892 . وعندما عاد الخلفاء الى بغداد، لم تبد اهمية حضرية مستقلة لذا فقد تقلصت بسرعة الى مدينة من مدن الاطراف، لهذا يمكن مشاهدة آثارها في الوقت الذي اندرست فيه الاثار العباسية البغدادية القديمة.
كان النظام الجديد ولقرابة 30 عاما يعمل بصورة حسنة، وكان العراق ولاخر مرة مركزا لامبراطورية كبيرة. لقد انعشت الضرائب التي كانت تجبى سامراء، واستمرت بغداد بالانتعاش تحت حكم عائلة الطاهري . وبقيت البصرة مركزا تجاريا عظيما على الخليج.
ان تجنيد الاتراك الذين لا تربطهم اية روابط بالمجتمع المحلي شجع على عدم الاستقرار السياسي. في عام 861 اغتيل الخليفة المتوكل في قصره في سامراء من قبل قطعات ساخطة، وبدات بعدها تسع سنوات من الفوضى السياسية والتي قام خلالها الجنود الاتراك بخلع الخليفة عمليا متى شاؤوا. وفي عام 865 امتدت الحرب الاهلية بين سامراء وبغداد، مما نتج عنه حصار مدمر آخر لبغداد.
إن الفوضى السياسية انحسرت وعاد الاستقرار في 870 مع مجئ الخليفة المعتمد الى سامراء كحاكم شرفي فقط في حين كان اخوه الموفق العسكري الفعال يمارس السلطة الحقيقية من بغداد، ولكن الفوضى السياسية قد ادت ماعليها من خراب مستديم للعراق. معظم ولايات الامبراطورية، سواء على الارض الايرانية شرقا او بلاد الشام ومصر غربا كانت قد انفرطت واعلنت استقلالها.
اسوأ واكبر تمرد اندلع في جنوب العراق ذاته. وفي السنوات الاولى من العهد الاسلامي حيث كان العراق يرفل بالخير،
تم جلب الكثير من عبيد شرق افريقيا استخدموا في اعمال زراعية قاسية في مناطق الاهوار في جنوب العراق. بداوا ثورتهم في 869 بقيادة عربي يدعي انه من سلالة علي. كان لهذه الثورة تاثير كبير على الحكومة العباسية: فقد ادت الى ضياع اراض زراعية شاسعة، والاستيلاء على الميناء التجاري العظيم البصرة وتدميره في 871، قام الثوار بتدمير وحرق المساجد والبيوت وذبح الاهالي بوحشية دونما تفريق.
وبالرغم من ان البصرة اعيد احتلالها، فمن المستبعد انها عادت الى حالتها الاصلية، وانحسرت التجارة الى مدن ابعد الى الجنوب مثل سيراف ( طاهري الحالية) جنوب ايران. ان سحق هذه الثورة تضمن عمليات برمائية في الاهوار طويلة وشاقة، قادها الموفق وابنه ابو العباس ( الذي اصبح فيما بعد الخليفة المعتضد) من 879 ولغاية الاستيلاء على آخر معقل للثوار في المختارة في 833.
ان حكم المعتضد ( 892 – 902 ) وابنه المكتفي (902 – 908 ) اظهر وحدة العراق تحت السيطرة العباسية. وعادت بغداد مرة اخرى عاصمة، بالرغم من ان الخليفة كان قد اخلى العديد من غرب مدينة المنصور المدورة واصبح مركز الحكومة في الضفة الشرقية واستمر مركزا للمدينة الى يومنا هذا. كانت فترة فعاليت ثقافية عظيمة وكانت بغداد موطنا للعديد من المفكرين، بضمنهم المؤرخ العظيم الطبري، صاحب العمل الكبير الذي ارخ للدولة الاسلامية؛ وعلى كل فبغداد لم تعد عاصمة الامبراطورية العظيمة.
خلال حكم الخليفة الصبي المقتدر ( 908 – 932 ) تدهور الوضع السياسي بسرعة. ان ضعف الخليفة سمح لظهور مكائد وفتن لا نهاية لها ضمن احزاب الوزراء وتطور الى ان قام الجيش بتولي الامور. وفقدت الحكومة في بغداد السيطرة على ثروات واراضي العراق. وكانت الكارثة الاخيرة في 935 عندما اجبر الخليفة الراعي لتسليم كل سلطاته الى قائد مغمور هو ابن رائق.
ان كارثة الخليفة العباسي صحبها كارثة انهيار اقتصادي. ومن المحتمل ان دورة الانحطاط القاسية بدات مع الحرب الاهلية بعد وفاة هارون الرشيد في 809 ، ولم يكن هناك شك بانها قد تفاقمت من جراء طلبات الجنود الاتراك للدفع . لقد قام الاداريون باستمرار باتباع وسائل نفعية قصيرة الامد مثل ضريبة الزراعة والتي شجعت على الابتزاز والاضطهاد، وجعل العسكر اقطاعيين.
الاقطاع نظريا : (هو منح الحق في جمع واستخدام فوائد الضرائب, والتي لا يمكن توريثها او بيعها ( ان الغاية من الاقطاع هو ان يجني الجنود انفسهم مايستطيعون مباشرة من الارض المخصصة لهم. ان هذين الحلين امنا مردودا من استغلال الارض لفترة قصيرة بدلا من استثمارها لفترة طويلة. ماعدا في الشمال،
فمعظم الزراعة العراقية كانت تعتمد على الاستثمار في مجمعات الري والنظم المالية الجديدة التي جلبت الكوارث. في 935 نفس السنة التي سلمت فيها الري السلطة الى القائد العسكري ابن رائق، تم شق اعظم عمل اروائي قديم في وسط العراق، وهو قناة النهروان لمنع تقدم الجيوش الزاحفة. ان الضرر الذي حصل لا يمكن اصلاحه، مساحات كبيرة لم يجر زرعها، واخليت قرى كثيرة. ان تدمير القناة كان رمزا لنهاية الحضارة الاروائية التي جلبت الخير الوفير الى بلاد مابين النهرين القديمة وهذا ما ارسى ركائز الساسانيين والحكومات الاسلامية الاولى.
العراق و ثورة الزنج ) 869 – 883 م )
ثورة العبيد السود ضد امبراطورية الخلافة العباسية. جلب عدد من اصحاب الاراضي (الملاك) البصريون عدة آلاف من زنوج شرق افريقيا الى جنوب العراق لتجفيف الأهوار المالحة شرق البصرة. اخضع االملاك الزنوج، والذين لا ينطقون العربية، الى اعمال شاقة واعطوهم القليل مايسدون به رمقهم. في ايلول 869 قام علي ابن محمد، فارسي يدعي النسب الى الخليفة الرابع علي بن ابي طالب وفاطمة الزهراء بنت النبي محمد (ص) قام هذا بتاليب وتحريض عدد من هؤلاء العبيد -- طوائف العمل-- والذين بلغ عددهم مابين 500 الى 5000 رجل – وذلك بان اشار الى الجور وعدم المساواة في وضعهم الاجتماعي ووعدهم بالحرية والغنى. لقي عرض علي هذا استحسانا وجذبهم اكثر حين اعتنق فكر الخوارج. واعلن بان من حق اي كان حتى العبد الاسود ان يكون خليفة وانه سيشن حربا مقدسة على كل من لا يعتنق مذهب الخوارج.
تعاضمت قوة الزنج في الحجم والقوة وانظم اليهم العبيد المدربين الفارين من جيوش الخليفة، اضافة الى بعض الالفلاحين المتضررين. وفي تشرين اول 869 هزموا قوة بصرية، وسرعان ما اتخذوا المختارة عاصمة لهم، بنيت في منطقة ملحية جافة تحيطها القنوات المائية. تمكن الثوار من السيطرة على جنوب العراق باستيلائهم على الابيلا ( في حزيران870 ) وكانت ميناءا على الخليج، وقطعوا خطوط المواصلات الى البصرة، ومن ثم احتلوا الاهواز في جنوب ايران.
وهنا سلم جيش الخلافة الى القائد الموفق، اخو الخليفة الجديد المعتمد ( حكم 870 – 892 ) ولم يكن بمقدوره التعامل مع الثوار. واحتل الزنج البصرة في ايلول 871، واعقبوا ذلك بدحر الموفق ذاته في نيسان 872 م بين عامي 872 و 879 وحينما كان الموفق مشغولا في شرق ايران بتوسعات الصفاريين،
وهم سلالة ايرانية مستقلة، استطاع الزنج من اخضاع واسط في عام ( 878 ) واسسوا لهم موطئا في خوزستان، في ايران. في عام 879 ونظم الموفق هجوما واسعا ضد العبيد الزنج. وخلال سنة استطاع الاستيلاء على مدينة زنجية اخرى هي المنية. وطرد الثوار من خوزستان وفي ربيع عام 881 م حاصر الموفق المختارة من الضفة الاخرى لدجلة. وبعد سنتين وفي آب عام 883 م وبدعم من المصريين تمكن الموفق اخيرا من سحق الثوار واحتل المدينة وعاد الى بغداد برأس علي.