لقد فرض الله العبادات وجعلها سببا للارتقاء بالأخلاق وتهذيب السلوك، فقال سبحانه وتعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين} (45) سورة البقرة. وقال تعالى عن الصلاة: {اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون} (45) سورة العنكبوت. وقال تعالى في شأن الزكاة: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم} (103) سورة التوبة.. وقال في شأن الصيام: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون} (183) سورة البقرة.
وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)) صحيح البخاري -1770- (6/472).. وقال تعالى في شأن الحج: {الحج
أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما
تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي
الألباب} (197) سورة البقرة..
ومن هذا يتبين أن الغاية العظمى من تشريع العبادات هو تحقيق كمال العبودية لله -عز وجل- ولا بد أن يظهر هذا في أخلاق المسلم.
أخي الصائم:
إذا
أقبل شهر رمضان تشوق الناس لهلاله، وتقلبت وجوههم في السماء، وشنفوا
آذانهم أيهم يسبق بمعرفة هذا النبأ السعيد، والحدث العظيم، وعدوا الساعات
عدا، حتى تأتي البشرى بانتهاء شهر شعبان وبداية شهر رمضان، وهم لا يفعلون
ذلك في سائر الشهور، بل ربما جهل كثير من المسلمين بداية الشهور أو
نهايتها.
إنها فرصة في هذا الشهر الكريم أن يتنفس المسلم الصعداء، وهو يردد مع الذاكرين عند رؤية هلال رمضان "ربي وربك الله, هلال خير وبركة".
ولا
يرتبط المسلمون خلال شهر رمضان ببداية الشهر ونهايته فحسب، فهم يترقبون
الفجر حتى يمسكوا ويترقبون مغيب الشمس حتى يفطروا، ويعدون أيامه عدا لا
يكاد يخطئ فيه أحد فيرتبطون بحركة هذا الكون العابد المسبح لله تعالى: {تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا}. (الإسراء:44).
{ألم
تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم
والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله
فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء} (الحج: 18)..
وهذا
الترقب والانتظار يتساوى فيه المسلمون جميعا عربا وعجما، فقراء وأغنياء،
حكاما ومحكومين، فلا مجال للحظوة والوساطة، فمن أكل أو شرب متعمدا بعد
أذان الفجر أو قبل أذان المغرب فصيامه باطل، فلا مجال للتسلق على أكتاف
الآخرين وليس هناك صيام للسادة وصيام للعبيد، وليس هناك صيام للصفوة وصيام
للعامة، فالكل هنا سواء.
إن سلوكيات الصائم في رمضان تظهر في استغلال هذا الشهر؛
حيث خص الله هذا الشهر الكريم بالصيام، والصيام جنة (أي وقاية)، وكل عمل
ابن آدم فهو له إلا الصوم فهو لله وهو يجزي به، وأنعم بجزاء الله تعالى من
جزاء، وأجمل بكرمه وعطائه من عطاء، فالصوم يهذب النفس، ويسمو بالروح
والخلق، ومن هنا يتعلم المسلم أنه ما خلق ليأكل ويشرب ويعاشر النساء، فكل
هذا تشاركه فيه جميع دواب الأرض، لكنه خلق لغاية أسمى وهدف أعلى وهو عبادة
الله تعالى وتقواه بإتيان ما أمر واجتناب ما نهى، فهي ثورة على شهوات
الأرض وجواذبها، فنحن نملكها وهي لا تملكنا فلسنا عبيدا لشهوة ولا أسرى
لعادة، حيث إننا أعلنا العبودية لله، وهذا يتضمن نبذ عبودية ما دون الله.
وهذا الشهر تصفد فيه الشياطين، ويترك المسلم لنفسه والنفس أمارة بالسوء إلا ما رحم الله {إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم} (يوسف: 53)..
فيستطيع أن يميز المسلم بين
ما يأمره بالشيطان وما تأمره به النفس، ومعرفة الداء طريق لمعرفة الدواء
فيضع من التدابير الواقية والأسباب المعينة على الارتقاء بالنفس، وتهذيبها
وتزكيتها, قال تعالى: {ونفس وما سواها* فألهمها فجورها وتقواها* قد أفلح
من زكاها* وقد خاب من دساها} الشمس: (7-10)..
فيحاسب المسلم نفسه
فيراقبها ويحاسبها ثم يعاتبها ويؤدبها حتى تسلس له وتخضع لأمر الله فتصبح
نفسا لوامة تستحق أن يقسم بها الله, ثم ترقى حتى تصير مطمئنة {يا أيتها النفس المطمئنة* ارجعي إلى ربك راضية مرضية* فادخلي في عبادي* وادخلي جنتي} (الفجر: 27 -30)..
والصائم في
هذا الشهر يهتم بحراسة مدخل الطعام والشراب، حتى إذا نسي أو أخطأ فإذا به
ينزعج انزعاجا شديدا ويحاول أن يخرج ما دخل في فمه من الطعام والشراب حتى
يكاد يخرج ما في معدته، على الرغم من رفع الحرج في الشرع عن الناسي
والمخطئ، وقد طمأن النبي -صلى الله عليه وسلم- الناسي فقال: ((من أكل ناسيا وهو صائم فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه)) رواه البخاري -6176- (20/360) ومسلم -1952-(6/28).
وعلى
الرغم من ذلك يحرص هذا الحرص كله، ولذلك لم يقف الشيطان له في هذا الطريق
لعلمه بحرصه عليه، ويقظته وتنبهه من أن يؤتى من قبله، فوقف له في طريق
آخر، فأغواه وأغراه بالغيبة والنميمة، وأغراه بإطلاق اللسان في الآخرين
يشتم هذا، ويقذف هذا دون أدنى حرج، وهو لا يعلم أن طعامه وشرابه ناسيا لا
يقارن بما يقترفه من الكبائر الموبقة التي تذهب بأجر الصيام.
وفي أواخر الشهر
يسن الاعتكاف حيث يترك الناس الدنيا وزخرفها وضجيجها وضوضائها، ولهوها
وزينتها وينقطعون للعبادة والذكر والقيام والقرآن، وفي هذه الخلوة تتسامى
أرواحهم، وتصفو نفسهم وتعلو هممهم، ويستمدون الطاقة من الله حتى يستعينوا
بهذا الخير وبهذا الزاد طوال عامهم -كما كان حال السلف حيث كانوا يتشوقون
ويستعدون لرمضان ستة أشهر وينتفعون به ستة شهر- وبهذا تتحقق التقوى في أتم
صورها كما أمر الله تعالى المسلمين بقوله: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون}
(آل عمران: 102).. ومن أراد أن يموت على الإسلام فليعش دائما على الإسلام،
وليكن جل دعائه، اللهم أحينا على الإسلام وتوفنا على الإيمان.
وفي هذا الشهر
فرضت زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين، وإغناء لهم
عن ذل الحاجة والسؤال في يوم العيد, وبإعطائها للفقراء يتدرب المرء على
البذل والعطاء حتى ولو كان معسرا ويصدق فيه قول الله تعالى: {الذين ينفقون في السراء والضراء}
(آل عمران: 134).. وفي هذا البذل والعطاء الذي يأخذ هذه الطريقة المنظمة
الشاملة العامة لأثر طيب في خلق الغني وخلق الفقير فيطهر نفس الغني من
الشح والبخل، ويطهر نفس الفقير من الحقد والحسد، يعلم الغني أن المال مال
الله وهو مستخلف فيه، ينفق حيث أمر الله ويمسك حيث نهى الله، ويعلم الفقير
أن الله لم يتركه هملا ولن يضيع في وسط مجتمع مسلم يعرف حق الله في ماله.
عبادة الصيام
تكسب صاحبها خلق المراقبة لله تعالى، فهو يستطيع أن يأكل ويشرب لكنه لا
يفعل طاعة لله تعالى ولذلك لا يدخله الرياء، يقول الله تعالى في الحديث
القدسي: ((إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به))
رواه البخاري -5472- (18/293) ومسلم -1945- (6/18).. وإذا صحت المراقبة
لله تعالى فسيصلح بصلاحها الشيء الكثير وسينعكس ذلك على سلوك المسلم،
وسيتضح ذلك في أخلاقه، وإذا راقب الإنسان الله في عباداته ومعاملاته،
وأخذه وعطائه، وعلم أن الله لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء {وعنده
مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة
إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين} (الأنعام: 59)..
{ألم
تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا
هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم
أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم} (المجادلة: 7).. إذا علم هذا كله واستشعر التوجيه النبوي القائل: ((أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك)) رواه البخاري -4404- (14/452) ومسلم -9- (1/87). فقد حاز خيرا كثيرا، وارتقى في سلم الأخلاق والسلوك إلى مدى بعيد.
عبادة الصيام
تكسب صاحبها خلق الصبر، فيصبر على الجوع والعطش والشهوات طاعة لله، والصبر
نوعان: صبر على الطاعة حتى يفعلها، فإن العبد لا يكاد يفعل المأمور به إلا
بعد صبر ومصابرة ومجاهدة لعدوه الباطن والظاهر، فبحسب هذا الصبر يكون
أداؤه للمأمورات وفعله للمستحبات, وصبر عن المنهي عنه حتى لا يفعله، فإن
النفس ودواعيها وتزيين الشيطان، وقرناء السوء تأمره بالمعصية وتجرئه
عليها، فبحسب قوة صبره يكون تركه لها. ويكفي أن الله جعل الصبر طريقا لنيل
الإمامة في الدنيا والدين يقول الله تعالى: {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون} (السجدة: 24).
والصوم
يقوي في نفس المسلم الارتباط بالجماعة، ويرسخ في نفسه معنى الاتحاد
للتعاون والتناصر؛ فالمسلمون يصومون عند رؤية الهلال، ويفطرون عن رؤيته،
ويمسكون عند أذان الفجر ويفطرون عند أذان المغرب، ولسان حاله يردد مع قول
الله تعالى: {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون} (الأنبياء: 92)..
{واعتصموا
بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف
بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم
منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون} (آل عمران: 103)..
والصوم
يعود المسلم على احترام الوقت والنظام؛ فتأخير الإفطار بعد الأذان بفترة
طويلة مكروه، والإفطار قبل المغرب يبطل الصيام، كما أن تأخير ر السحور من
السنة ولكن إذا أكل أو شرب الصائم بعد الأذان ولو بوقت يسير فصيامه باطل،
فللوقت أهميته، والناس يفطرون في وقت واحد ويمسكون في وقت واحد، ولو أخذ
المسلمون من هذه الدروس وعاشوا بها في حياتهم ومعاملاتهم لفاقوا أمما
كثيرة من الغرب أو الشرق ننبهر عندما نرى احترامهم للوقت وتقديسهم للنظام،
ونحن أولى بهذه الأخلاق منهم .
وأصدق منه قول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون* كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون} (الصف: 2- 3)..
وفي شهر رمضان بدأ نزول القرآن: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان} (البقرة: 185).. {إنا أنزلناه في ليلة القدر} (القدر: 1)..
فلا
عجب أن يلتف الناس طوال شهر رمضان حول حلق القرآن وأن ترتفع أصواتهم به في
البيوت ووسائل المواصلات؛ فهو شهر القرآن، ولا عجب أن يعيشوا معه قراءة في
النهار وأن يطيلوا القيام به في الليل، وحبذا لو قرءوا فتدبروا ففهموا
وعملوا ولا يكونون كمن يقرأ القرآن والقرآن يلعنه، يقرأ: ألا لعنة الله
على الظالمين، وهو من الظالمين!.
وفي شهر رمضان
يكون الدعاء مستجابا بإذن الله، وللصائم دعوة مستجابة، فليدع بالخير لنفسه
وأهله وإخوانه، وليدع بالنصر لهذه الأمة المنكوبة المكلومة، عسى الله أن
يقيلها من عثرتها، ويبدل ذلها عزا، وخوفها أمنا. ولا عجب أن يرشد الله
عباده إلى دعائه وسؤاله أثناء الحديث عن أحكام الصيام بقوله تعالى: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون} (البقرة: 186)..
وفي نهاية هذا الشهر
جعل الله عيدا يفرح الناس فيه لأداء هذه الطاعة ولتوفيق الله وهدايته لهم
ليعلموا كيف يفرحون ومتى يفرحون، يعرف المسلم أنه يفرح يوم أن يوفق لأداء
عبادة من عبادات الله تعالى، ويحزن يوم أن يقترف إثما مما نهى الله عنه،
وإذا فرح فرح على مراد الله لا على مراد نفسه: {قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون} (يونس: 58).
وهكذا أضحى العيد وكأنه تتويج لهؤلاء الذين نجحوا في الاختبار فحصلوا على الجائزة عند نهاية هذا الشهر .
وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)) صحيح البخاري -1770- (6/472).. وقال تعالى في شأن الحج: {الحج
أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما
تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي
الألباب} (197) سورة البقرة..
ومن هذا يتبين أن الغاية العظمى من تشريع العبادات هو تحقيق كمال العبودية لله -عز وجل- ولا بد أن يظهر هذا في أخلاق المسلم.
أخي الصائم:
إذا
أقبل شهر رمضان تشوق الناس لهلاله، وتقلبت وجوههم في السماء، وشنفوا
آذانهم أيهم يسبق بمعرفة هذا النبأ السعيد، والحدث العظيم، وعدوا الساعات
عدا، حتى تأتي البشرى بانتهاء شهر شعبان وبداية شهر رمضان، وهم لا يفعلون
ذلك في سائر الشهور، بل ربما جهل كثير من المسلمين بداية الشهور أو
نهايتها.
إنها فرصة في هذا الشهر الكريم أن يتنفس المسلم الصعداء، وهو يردد مع الذاكرين عند رؤية هلال رمضان "ربي وربك الله, هلال خير وبركة".
ولا
يرتبط المسلمون خلال شهر رمضان ببداية الشهر ونهايته فحسب، فهم يترقبون
الفجر حتى يمسكوا ويترقبون مغيب الشمس حتى يفطروا، ويعدون أيامه عدا لا
يكاد يخطئ فيه أحد فيرتبطون بحركة هذا الكون العابد المسبح لله تعالى: {تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا}. (الإسراء:44).
{ألم
تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم
والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله
فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء} (الحج: 18)..
وهذا
الترقب والانتظار يتساوى فيه المسلمون جميعا عربا وعجما، فقراء وأغنياء،
حكاما ومحكومين، فلا مجال للحظوة والوساطة، فمن أكل أو شرب متعمدا بعد
أذان الفجر أو قبل أذان المغرب فصيامه باطل، فلا مجال للتسلق على أكتاف
الآخرين وليس هناك صيام للسادة وصيام للعبيد، وليس هناك صيام للصفوة وصيام
للعامة، فالكل هنا سواء.
إن سلوكيات الصائم في رمضان تظهر في استغلال هذا الشهر؛
حيث خص الله هذا الشهر الكريم بالصيام، والصيام جنة (أي وقاية)، وكل عمل
ابن آدم فهو له إلا الصوم فهو لله وهو يجزي به، وأنعم بجزاء الله تعالى من
جزاء، وأجمل بكرمه وعطائه من عطاء، فالصوم يهذب النفس، ويسمو بالروح
والخلق، ومن هنا يتعلم المسلم أنه ما خلق ليأكل ويشرب ويعاشر النساء، فكل
هذا تشاركه فيه جميع دواب الأرض، لكنه خلق لغاية أسمى وهدف أعلى وهو عبادة
الله تعالى وتقواه بإتيان ما أمر واجتناب ما نهى، فهي ثورة على شهوات
الأرض وجواذبها، فنحن نملكها وهي لا تملكنا فلسنا عبيدا لشهوة ولا أسرى
لعادة، حيث إننا أعلنا العبودية لله، وهذا يتضمن نبذ عبودية ما دون الله.
وهذا الشهر تصفد فيه الشياطين، ويترك المسلم لنفسه والنفس أمارة بالسوء إلا ما رحم الله {إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم} (يوسف: 53)..
فيستطيع أن يميز المسلم بين
ما يأمره بالشيطان وما تأمره به النفس، ومعرفة الداء طريق لمعرفة الدواء
فيضع من التدابير الواقية والأسباب المعينة على الارتقاء بالنفس، وتهذيبها
وتزكيتها, قال تعالى: {ونفس وما سواها* فألهمها فجورها وتقواها* قد أفلح
من زكاها* وقد خاب من دساها} الشمس: (7-10)..
فيحاسب المسلم نفسه
فيراقبها ويحاسبها ثم يعاتبها ويؤدبها حتى تسلس له وتخضع لأمر الله فتصبح
نفسا لوامة تستحق أن يقسم بها الله, ثم ترقى حتى تصير مطمئنة {يا أيتها النفس المطمئنة* ارجعي إلى ربك راضية مرضية* فادخلي في عبادي* وادخلي جنتي} (الفجر: 27 -30)..
والصائم في
هذا الشهر يهتم بحراسة مدخل الطعام والشراب، حتى إذا نسي أو أخطأ فإذا به
ينزعج انزعاجا شديدا ويحاول أن يخرج ما دخل في فمه من الطعام والشراب حتى
يكاد يخرج ما في معدته، على الرغم من رفع الحرج في الشرع عن الناسي
والمخطئ، وقد طمأن النبي -صلى الله عليه وسلم- الناسي فقال: ((من أكل ناسيا وهو صائم فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه)) رواه البخاري -6176- (20/360) ومسلم -1952-(6/28).
وعلى
الرغم من ذلك يحرص هذا الحرص كله، ولذلك لم يقف الشيطان له في هذا الطريق
لعلمه بحرصه عليه، ويقظته وتنبهه من أن يؤتى من قبله، فوقف له في طريق
آخر، فأغواه وأغراه بالغيبة والنميمة، وأغراه بإطلاق اللسان في الآخرين
يشتم هذا، ويقذف هذا دون أدنى حرج، وهو لا يعلم أن طعامه وشرابه ناسيا لا
يقارن بما يقترفه من الكبائر الموبقة التي تذهب بأجر الصيام.
وفي أواخر الشهر
يسن الاعتكاف حيث يترك الناس الدنيا وزخرفها وضجيجها وضوضائها، ولهوها
وزينتها وينقطعون للعبادة والذكر والقيام والقرآن، وفي هذه الخلوة تتسامى
أرواحهم، وتصفو نفسهم وتعلو هممهم، ويستمدون الطاقة من الله حتى يستعينوا
بهذا الخير وبهذا الزاد طوال عامهم -كما كان حال السلف حيث كانوا يتشوقون
ويستعدون لرمضان ستة أشهر وينتفعون به ستة شهر- وبهذا تتحقق التقوى في أتم
صورها كما أمر الله تعالى المسلمين بقوله: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون}
(آل عمران: 102).. ومن أراد أن يموت على الإسلام فليعش دائما على الإسلام،
وليكن جل دعائه، اللهم أحينا على الإسلام وتوفنا على الإيمان.
وفي هذا الشهر
فرضت زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين، وإغناء لهم
عن ذل الحاجة والسؤال في يوم العيد, وبإعطائها للفقراء يتدرب المرء على
البذل والعطاء حتى ولو كان معسرا ويصدق فيه قول الله تعالى: {الذين ينفقون في السراء والضراء}
(آل عمران: 134).. وفي هذا البذل والعطاء الذي يأخذ هذه الطريقة المنظمة
الشاملة العامة لأثر طيب في خلق الغني وخلق الفقير فيطهر نفس الغني من
الشح والبخل، ويطهر نفس الفقير من الحقد والحسد، يعلم الغني أن المال مال
الله وهو مستخلف فيه، ينفق حيث أمر الله ويمسك حيث نهى الله، ويعلم الفقير
أن الله لم يتركه هملا ولن يضيع في وسط مجتمع مسلم يعرف حق الله في ماله.
عبادة الصيام
تكسب صاحبها خلق المراقبة لله تعالى، فهو يستطيع أن يأكل ويشرب لكنه لا
يفعل طاعة لله تعالى ولذلك لا يدخله الرياء، يقول الله تعالى في الحديث
القدسي: ((إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به))
رواه البخاري -5472- (18/293) ومسلم -1945- (6/18).. وإذا صحت المراقبة
لله تعالى فسيصلح بصلاحها الشيء الكثير وسينعكس ذلك على سلوك المسلم،
وسيتضح ذلك في أخلاقه، وإذا راقب الإنسان الله في عباداته ومعاملاته،
وأخذه وعطائه، وعلم أن الله لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء {وعنده
مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة
إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين} (الأنعام: 59)..
{ألم
تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا
هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم
أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم} (المجادلة: 7).. إذا علم هذا كله واستشعر التوجيه النبوي القائل: ((أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك)) رواه البخاري -4404- (14/452) ومسلم -9- (1/87). فقد حاز خيرا كثيرا، وارتقى في سلم الأخلاق والسلوك إلى مدى بعيد.
عبادة الصيام
تكسب صاحبها خلق الصبر، فيصبر على الجوع والعطش والشهوات طاعة لله، والصبر
نوعان: صبر على الطاعة حتى يفعلها، فإن العبد لا يكاد يفعل المأمور به إلا
بعد صبر ومصابرة ومجاهدة لعدوه الباطن والظاهر، فبحسب هذا الصبر يكون
أداؤه للمأمورات وفعله للمستحبات, وصبر عن المنهي عنه حتى لا يفعله، فإن
النفس ودواعيها وتزيين الشيطان، وقرناء السوء تأمره بالمعصية وتجرئه
عليها، فبحسب قوة صبره يكون تركه لها. ويكفي أن الله جعل الصبر طريقا لنيل
الإمامة في الدنيا والدين يقول الله تعالى: {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون} (السجدة: 24).
والصوم
يقوي في نفس المسلم الارتباط بالجماعة، ويرسخ في نفسه معنى الاتحاد
للتعاون والتناصر؛ فالمسلمون يصومون عند رؤية الهلال، ويفطرون عن رؤيته،
ويمسكون عند أذان الفجر ويفطرون عند أذان المغرب، ولسان حاله يردد مع قول
الله تعالى: {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون} (الأنبياء: 92)..
{واعتصموا
بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف
بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم
منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون} (آل عمران: 103)..
والصوم
يعود المسلم على احترام الوقت والنظام؛ فتأخير الإفطار بعد الأذان بفترة
طويلة مكروه، والإفطار قبل المغرب يبطل الصيام، كما أن تأخير ر السحور من
السنة ولكن إذا أكل أو شرب الصائم بعد الأذان ولو بوقت يسير فصيامه باطل،
فللوقت أهميته، والناس يفطرون في وقت واحد ويمسكون في وقت واحد، ولو أخذ
المسلمون من هذه الدروس وعاشوا بها في حياتهم ومعاملاتهم لفاقوا أمما
كثيرة من الغرب أو الشرق ننبهر عندما نرى احترامهم للوقت وتقديسهم للنظام،
ونحن أولى بهذه الأخلاق منهم .
وأصدق منه قول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون* كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون} (الصف: 2- 3)..
وفي شهر رمضان بدأ نزول القرآن: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان} (البقرة: 185).. {إنا أنزلناه في ليلة القدر} (القدر: 1)..
فلا
عجب أن يلتف الناس طوال شهر رمضان حول حلق القرآن وأن ترتفع أصواتهم به في
البيوت ووسائل المواصلات؛ فهو شهر القرآن، ولا عجب أن يعيشوا معه قراءة في
النهار وأن يطيلوا القيام به في الليل، وحبذا لو قرءوا فتدبروا ففهموا
وعملوا ولا يكونون كمن يقرأ القرآن والقرآن يلعنه، يقرأ: ألا لعنة الله
على الظالمين، وهو من الظالمين!.
وفي شهر رمضان
يكون الدعاء مستجابا بإذن الله، وللصائم دعوة مستجابة، فليدع بالخير لنفسه
وأهله وإخوانه، وليدع بالنصر لهذه الأمة المنكوبة المكلومة، عسى الله أن
يقيلها من عثرتها، ويبدل ذلها عزا، وخوفها أمنا. ولا عجب أن يرشد الله
عباده إلى دعائه وسؤاله أثناء الحديث عن أحكام الصيام بقوله تعالى: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون} (البقرة: 186)..
وفي نهاية هذا الشهر
جعل الله عيدا يفرح الناس فيه لأداء هذه الطاعة ولتوفيق الله وهدايته لهم
ليعلموا كيف يفرحون ومتى يفرحون، يعرف المسلم أنه يفرح يوم أن يوفق لأداء
عبادة من عبادات الله تعالى، ويحزن يوم أن يقترف إثما مما نهى الله عنه،
وإذا فرح فرح على مراد الله لا على مراد نفسه: {قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون} (يونس: 58).
وهكذا أضحى العيد وكأنه تتويج لهؤلاء الذين نجحوا في الاختبار فحصلوا على الجائزة عند نهاية هذا الشهر .