بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
يقول الله تعالى
(وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ
لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ
عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى
يُؤْفَكُونَ) (المنافقون : 4 )
كما يزداد المعدن
نقاءً من شوائبه كلما ازداد انصهارًا بلهب النار.. كذلك يزداد الصف المسلم
المواجه لعدوِّه نقاءً من شوائب النفاق كلما اشتد لهيب الأزمات والمحن..
ولا تتوقف التنقية حينئذٍ عند حدِّ انكشاف الهلع وضعف اليقين في نفوس
المنافقين.. بل يزداد التمايز وضوحًا عندما يُسارع المنافقون المذعورون –
لا إلى الانزواء فقط – بل إلى الارتماء المشين في أحضان العدو صراحة!!..
وتبنِّي مواقفهم، والشفقة على خسائرهم.. فضلاً عن القيام بدور المتحدِّث
باسمهم والناصح الأمين لهم...!!
ومع مرارة
مواقف أهل النفاق هؤلاء، ومع ما ينتج عادة حيال الخيانة من قلق في الصف
المسلم نتيجة فَقْد بعض القوة والنصرة التي كانت تُرجَى من أمثال هؤلاء..
مع كل ذلك إلا أن الخير يظل دائمًا في أن تتبدَّى هذه الخفايا قبل
المواجهة الفاصلة، حتى لو فقد المسلمون الآن عدد هؤلاء وطاقاتهم.. فما
كانت هذه الطاقات ولا تلك الأعداد بالتي تُغني عن المسلمين شيئًا؛ فما هم
إلا كالطبل الأجوف الذي ربما يلفت الأسماع والأبصار إلى صوته الصاخب، دون
أن يكون منطويًا على كبير فائدة.. حتى إن الله ليصفهم في آية عجيبة من
كتابه بقوله تعالى: [وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ...]
فالشكل الخارجي قد يُعجِب، وقد يوحي بالجدوى والقوة.. [وَإِن يَقُولُوا
تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ!!] فلهم طريقة في الحديث قد تُغْرِي بالإنصات، وقد
توهم أن وراءها حكمة وعقلاً.. وما ذاك إلا "لَحْنُ القَوْلِ" الذي يُميِّز
حديثهم دائمًا، كما أخبر الله تعالى في آية أخرى..
أما
الحقيقة.. أما الوزن وأما القيمة.. فلا شيء!!.. "كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ
مُّسَنَّدَةٌ!!" لا تملك حتى أن تقف بنفسها.. والداخل هواءٌ وجُبْن وهلع:
[يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ..] ويخشون في كل لحظة افتضاح
كذبهم المستور بغشاء رقيق من النفاق..
ما
كان الله ليدع نفوسًا خربة كهذه مستورة بالتظاهر بالإسلام مع كل ما
تُشكِّله من مخاطر على سلامة الصف المسلم الذي لا يُرجى له أن يصمد أمام
عُدوان الباطل فحسْب.. بل أن يهزم الباطل في عُقر داره ليرفع راية الحق..
إن الله
عزَّ وجَلَّ حذَّر المؤمنين من بقاء المنافقين مستترين يوم قال: [لَوْ
خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا
خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ..]
وكان من رحمته أن تُصِيب المحن الجزئية أمة الإسلام حتى تكون لحظات كاشفة
لا يستغني عنها المؤمنون، ولذلك قال تعالى: [مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ
الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ
مِنَ الطَّيِّبِ].
لهم
قدرة عجيبة على تجميل المنكر، وتبرير الخيانة، وتزيين الفضيحة.. ويمتلكون
مهارات فريدة في التلاعب بالألفاظ؛ فيسمُّون الجبن حكمةً، والقعودَ عن
الحق بُعْدَ نَظَرٍ، والخيانةَ ذكاءً.. ويصبح كذلك عندهم الجهادُ تهورًا،
والدفاع عن الحقوق إرهابًا، واسترداد الأراضي المحتلة والأسارى المعذَّبين
مغامراتٍ غير محسوبة!!!..
وبما لهم
من حلاوة لسان وحسن بيان (ولحنٍ في القول!!) يخدعون البسطاء من أبناء
الأمة - وما أكثرهم! – فيحسبونهم حكماء عقلاء.. وأذكياء نجباء، وهم أبعد
ما يكون عن هذه الصفات الجليلة.. روى أحمد عن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.. أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي كُلُّ
مُنَافِقٍ عَلِيمِ اللِّسَانِ"..
ما
تخلَّفت هذه السنَّة قط عن أخلاق المنافقين أمام كل مواجهة مع الباطل، وما
توقَّف لُهاثُهُم يومًا في سبيل المسارعة في موالاة الأعداء، وتبنِّي
مواقفهم.. أكثر مما يتبنَّونها هم أنفسهم..
على ذات
الدرب سار من قبل "عبد الله بن أبيٍّ" ورهط النفاق في عهد النبوَّة.. فقد
رأيناهم يوم غزوة بني قينقاع (2هـ) حين أراد الرسول صلى الله عليه وسلَّم
إنزال العقاب باليهود جرَّاء خيانتهم للعهد.. فإذا برأس النفاق ينبري
مدافعًا عن اليهود، وشافعًا لهم – بسوء أدبه!! – عند النبي صلى الله عليه
وسلم قائلاً: "إني امرؤٌ أخشى الدوائر" وسمَّى اليهود: (مواليه!!) أي:
أنصاره.. حتى قال الله تعالى في شأنه وشأن من تبعه بإساءة: [فَتَرَى
الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ.. يَقُولُونَ:
نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ!!..]
ويتكرَّر
نفس الموقف في مواجهة أخرى بعد عامين، في غزوة بني النضير (4هـ).. بعد أن
هَمَّ اليهود بقتل النبي صلى الله عليه وسلم – وهي الغزوة التي ذكرنا
طرفًا منها في المقال السابق – فحاصرهم حصارًا شديدًا، فما أوشكوا على
التسليم حتى جاءتهم رسائل النفاق والخيانة من ابن أُبيٍّ وأصحابه: أن
اثبتوا!!.. نحن معكم!!.. [لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ،
وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا، وَإِنْ قُوتِلْتُمْ
لَنَنْصُرَنَّكُمْ...]
إنها ذات
المواقف!.. بل إن تكرارها يوحي إليك كأن بعض الألفاظ تتكرَّر.. وهي كذلك
بالفعل!!.. ليظل التحذير الإلهي ماثلاً لكل أمة مؤمنة تحمل لواء الحق عبر
التاريخ.. من أوبئة النفاق وشروره؛ حتى يطارد المؤمنون النفاق في نفوسهم
وفي صفوفهم.. كما يجاهدون الباطل من حولهم.. بل أشد!!.. فليست مصادفة أن
تتركَّز إشارة العداء في الآية الكريمة على المنافقين بأسلوب القصر، حيث
يُعَقِّب ربنا بعد استعراض صفاتهم التي توقفنا أمامها آنفًا.. بقوله
سبحانه: [هُمُ الْعَدُوُّ.. فَاحْذَرْهُمْ!! قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ].
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
يقول الله تعالى
(وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ
لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ
عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى
يُؤْفَكُونَ) (المنافقون : 4 )
كما يزداد المعدن
نقاءً من شوائبه كلما ازداد انصهارًا بلهب النار.. كذلك يزداد الصف المسلم
المواجه لعدوِّه نقاءً من شوائب النفاق كلما اشتد لهيب الأزمات والمحن..
ولا تتوقف التنقية حينئذٍ عند حدِّ انكشاف الهلع وضعف اليقين في نفوس
المنافقين.. بل يزداد التمايز وضوحًا عندما يُسارع المنافقون المذعورون –
لا إلى الانزواء فقط – بل إلى الارتماء المشين في أحضان العدو صراحة!!..
وتبنِّي مواقفهم، والشفقة على خسائرهم.. فضلاً عن القيام بدور المتحدِّث
باسمهم والناصح الأمين لهم...!!
ومع مرارة
مواقف أهل النفاق هؤلاء، ومع ما ينتج عادة حيال الخيانة من قلق في الصف
المسلم نتيجة فَقْد بعض القوة والنصرة التي كانت تُرجَى من أمثال هؤلاء..
مع كل ذلك إلا أن الخير يظل دائمًا في أن تتبدَّى هذه الخفايا قبل
المواجهة الفاصلة، حتى لو فقد المسلمون الآن عدد هؤلاء وطاقاتهم.. فما
كانت هذه الطاقات ولا تلك الأعداد بالتي تُغني عن المسلمين شيئًا؛ فما هم
إلا كالطبل الأجوف الذي ربما يلفت الأسماع والأبصار إلى صوته الصاخب، دون
أن يكون منطويًا على كبير فائدة.. حتى إن الله ليصفهم في آية عجيبة من
كتابه بقوله تعالى: [وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ...]
فالشكل الخارجي قد يُعجِب، وقد يوحي بالجدوى والقوة.. [وَإِن يَقُولُوا
تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ!!] فلهم طريقة في الحديث قد تُغْرِي بالإنصات، وقد
توهم أن وراءها حكمة وعقلاً.. وما ذاك إلا "لَحْنُ القَوْلِ" الذي يُميِّز
حديثهم دائمًا، كما أخبر الله تعالى في آية أخرى..
أما
الحقيقة.. أما الوزن وأما القيمة.. فلا شيء!!.. "كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ
مُّسَنَّدَةٌ!!" لا تملك حتى أن تقف بنفسها.. والداخل هواءٌ وجُبْن وهلع:
[يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ..] ويخشون في كل لحظة افتضاح
كذبهم المستور بغشاء رقيق من النفاق..
ما
كان الله ليدع نفوسًا خربة كهذه مستورة بالتظاهر بالإسلام مع كل ما
تُشكِّله من مخاطر على سلامة الصف المسلم الذي لا يُرجى له أن يصمد أمام
عُدوان الباطل فحسْب.. بل أن يهزم الباطل في عُقر داره ليرفع راية الحق..
إن الله
عزَّ وجَلَّ حذَّر المؤمنين من بقاء المنافقين مستترين يوم قال: [لَوْ
خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا
خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ..]
وكان من رحمته أن تُصِيب المحن الجزئية أمة الإسلام حتى تكون لحظات كاشفة
لا يستغني عنها المؤمنون، ولذلك قال تعالى: [مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ
الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ
مِنَ الطَّيِّبِ].
لهم
قدرة عجيبة على تجميل المنكر، وتبرير الخيانة، وتزيين الفضيحة.. ويمتلكون
مهارات فريدة في التلاعب بالألفاظ؛ فيسمُّون الجبن حكمةً، والقعودَ عن
الحق بُعْدَ نَظَرٍ، والخيانةَ ذكاءً.. ويصبح كذلك عندهم الجهادُ تهورًا،
والدفاع عن الحقوق إرهابًا، واسترداد الأراضي المحتلة والأسارى المعذَّبين
مغامراتٍ غير محسوبة!!!..
وبما لهم
من حلاوة لسان وحسن بيان (ولحنٍ في القول!!) يخدعون البسطاء من أبناء
الأمة - وما أكثرهم! – فيحسبونهم حكماء عقلاء.. وأذكياء نجباء، وهم أبعد
ما يكون عن هذه الصفات الجليلة.. روى أحمد عن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.. أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي كُلُّ
مُنَافِقٍ عَلِيمِ اللِّسَانِ"..
ما
تخلَّفت هذه السنَّة قط عن أخلاق المنافقين أمام كل مواجهة مع الباطل، وما
توقَّف لُهاثُهُم يومًا في سبيل المسارعة في موالاة الأعداء، وتبنِّي
مواقفهم.. أكثر مما يتبنَّونها هم أنفسهم..
على ذات
الدرب سار من قبل "عبد الله بن أبيٍّ" ورهط النفاق في عهد النبوَّة.. فقد
رأيناهم يوم غزوة بني قينقاع (2هـ) حين أراد الرسول صلى الله عليه وسلَّم
إنزال العقاب باليهود جرَّاء خيانتهم للعهد.. فإذا برأس النفاق ينبري
مدافعًا عن اليهود، وشافعًا لهم – بسوء أدبه!! – عند النبي صلى الله عليه
وسلم قائلاً: "إني امرؤٌ أخشى الدوائر" وسمَّى اليهود: (مواليه!!) أي:
أنصاره.. حتى قال الله تعالى في شأنه وشأن من تبعه بإساءة: [فَتَرَى
الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ.. يَقُولُونَ:
نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ!!..]
ويتكرَّر
نفس الموقف في مواجهة أخرى بعد عامين، في غزوة بني النضير (4هـ).. بعد أن
هَمَّ اليهود بقتل النبي صلى الله عليه وسلم – وهي الغزوة التي ذكرنا
طرفًا منها في المقال السابق – فحاصرهم حصارًا شديدًا، فما أوشكوا على
التسليم حتى جاءتهم رسائل النفاق والخيانة من ابن أُبيٍّ وأصحابه: أن
اثبتوا!!.. نحن معكم!!.. [لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ،
وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا، وَإِنْ قُوتِلْتُمْ
لَنَنْصُرَنَّكُمْ...]
إنها ذات
المواقف!.. بل إن تكرارها يوحي إليك كأن بعض الألفاظ تتكرَّر.. وهي كذلك
بالفعل!!.. ليظل التحذير الإلهي ماثلاً لكل أمة مؤمنة تحمل لواء الحق عبر
التاريخ.. من أوبئة النفاق وشروره؛ حتى يطارد المؤمنون النفاق في نفوسهم
وفي صفوفهم.. كما يجاهدون الباطل من حولهم.. بل أشد!!.. فليست مصادفة أن
تتركَّز إشارة العداء في الآية الكريمة على المنافقين بأسلوب القصر، حيث
يُعَقِّب ربنا بعد استعراض صفاتهم التي توقفنا أمامها آنفًا.. بقوله
سبحانه: [هُمُ الْعَدُوُّ.. فَاحْذَرْهُمْ!! قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ].