لفضيلة الدكتور العلامة محمد راتب النابلسي
السورة : سورة آل عمران (3) .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
أيها الإخوة الكرام ؛ ورد في الحديث الشريف ، عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا فَقَالَ قَائِلٌ وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ قَالَ بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمْ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ فَقَالَ قَائِلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهْنُ قَالَ حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ *
(رواه أبو داود)
أما معنى كثير ، فالمسلمون اليوم يعدون ألفًا ومئتي مليون ، يعني خُمس سكان العالم ، فَقَالَ قَائِلٌ وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ ؟ وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ فَقَالَ قَائِلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهْنُ قَالَ حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ .
ذكرت هذا الحديث تمهيداً لقوله تعالى في الآية التاسعة والأربعين بعد المئة من سورة آل عمران ، قال تعالى :
يعني أنَّ الإنسان حينما يطيع رجلاً غير مؤمن يتردَّى في الهاوية ، وقد قال تعالى: " ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً"
(سورة الكهف : 28 )
فهذا خطأ كبير كبير ، والخطأ الفاحش أن تستنصح إنساناً مقطوعاً عن الله عز وجل ، " ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا ".
والآية المقابلة ، " واتبع سبيل من أناب إليّ " .
(سورة لقمان : 15 )
إذاً في شأن معاشه ، وشأن تجارته ، وشأن تربية أولاده ، وشأن تخطيب بناته ، لا ينبغي أن يستنصح إنساناً بعيداً عن الله عز وجل ، والآية الدقيقة أيها الإخوة ؛ وهي قوله تعالى : "كيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آياته وفيكم رسوله " .
(سورة النساء : 101 )
يروى أن بعض اليهود آلمتهم هذه المحبة التي بين الأوس والخزرج ، فأرسل أحدهم غلاماً له ، بقصيدةٍ قيلت في الجاهلية ليثير بينهم الأحقاد ، والأنصار حديثو عهدٍ بالإسلام ، فلما سمعوا هذه القصيدة تذكروا بعض ما كان بينهم وبين إخوانهم من عداوةٍ وبغضاء ، فكادت تنشب فتنة ، فما كان مِن النبي صلى الله عليه وسلم إلاّ أنْ خرج وقال: أتفعلون هذا وأنا بين أظهركم ، فنزل قوله تعالى : " وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بحبل الله فقد هدي إلى صراطٍ مستقيم" .
حقًّا أن نجتمع ، أن نتحابب ، أن نتوادد ، أن يكون بعضنا دعماً لبعض ، أن نكون كالبنيان المرصوص ، أن نكون كالصف الواحد ، أن نكون كتلة واحدة ، كيف السبيل إليها ؟ يقولون : الآلام مشتركة ، والآمال مشتركة ، واللغة مشتركة ، والتاريخ مشترك، حوالي اثني عشر شيئًا مشتركًا ، ومع ذلك هناك خصومات ، وهناك عداوات ، وهناك تشتت ، وتشرد ، وتبعثر، كيف السبيل إلى وحدة القلوب ؟ قال تعالى :"واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا " .
(سورة النساء : 103 )
هذه الآية نقرؤها كثيراً ، وقلّما نقف عند معانيها الدقيقة ، ما لم يكن هناك إيمانٌ يجمعنا، ما لم يكن هناك منهجٌ يجمعنا ، ما لم يكن هناك كتاب يجمعنا ، ما لم تكن هناك سنةٌ تجمعنا ، ما لم يكن هناك هدف يجمعنا ، ما لم تكن وسائل لهذا الهدف تجمعنا ، إذًا فلن نجتمع ، ولن نكون كتلةً واحدة ، ولن نكون صفاً واحداً ، ولن نكون يداً واحدةً على أعدائنا ، إلاّ إذا أخذنا بقوله سبحانه : " واعتصموا بحبل الله جميعاً " .
تذكروا السُّبحة ؛ هل تجتمع حباتها من دون خيطٍ بداخلها ؟ الخيط الذي بداخل السُّبحة هو الذي يجمعها ، والله سبحانه وتعالى يقول : "واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً " .
إخواننا الكرام ؛ الأنصار رضي الله عنهم ، حينما وزع النبي عليه الصلاة والسلام الغنائم في معركة حنين ، لم يعطهم لثقته أنهم مؤمنون ، فألَّف بهذه الغنائم قلوبَ أناس ضعاف ، فجاءه زعيم الأنصار سيدنا سعد بن عباده وقال له : يا رسول الله إن قومي وجدوا عليك في أنفسهم ، في شأن هذا الفيء الذي وزعته بين أناس كثيرين ، ولم تعطِ منه الأنصار ، فقال : يا سعد أين أنت من قومك ؟ فقال سيدنا سعد : ما أنا إلا من قومي ، أنا واحد منهم ، يعني متألم مثلهم ، فقال : اجمع لي قومك ، فجمع سعد قومه الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وعندئذٍ وقف النبي صلى الله عليه وسلم وقال : يا معشر الأنصار مقالةٌ بلغتني عنكم ، وجدةٌ وجدتموها عليّ في أنفسكم ، من أجل لعاعة تألفت بها قوماً ليسلموا ، ووكلتكم لإسلامكم ، يا معشر الأنصار – الآن دققوا ، فالنبي صلى الله عليه وسلم حينما انتقده الأنصار كان في أعلى درجات قوته ، فَتَحَ مكة ، وانتهت معركة حنين وانتصر عليهم ، وصار الجيش الذي تحت إمرته أقوى قوةٍ ضاربةٍ في الجزيرة ، والنبي زعيم هذه الأمة ، ونبيها ، ورسولها، وقائدها ، وفئةٌ من الأنصار غمزت ، وانتقدت ، وقالت : يعني نحن أَوْلى ، لم نأخذ شيئاً – فقال صلى الله عليه وسلم : يا معشر الأنصار ، أما إنكم لو قلتم فلصُدقتم ولصدقتم به ، أتيتنا مكذباً فصدقناك ، وطريداً فآويناك ، ومخذولاً فنصرناك ، والنبي صلى الله عليه وسلم ، كان بإمكانه أن يلغي وجودهم ، وكان بإمكانه أن يهدر كرامتهم، وكان بإمكانه أن يعاتبهم لمصلحتهم ، لم يفعل لا هذا ولا هذا ولا ذاك ، ولكن جمعهم - دققوا مرة ثانية - وذكرهم بفضلهم عليه ، وهو في أعلى درجات القوة ، قال : يا معشر الأنصار ألم تكونوا ضلاَّلاً فهداكم الله بي ، وعالةً فأغناكم الله ، وأعداء فألف بين قلوبكم، إذًا ما الذي يؤلف بين القلوب ؟ إنّه الدين ، وما الذي يفرق ؟ المصالح الدنيوية ، الدنيا تفرق والدين يجمع ، والمال يفرق والحق يجمع ، والمعصية تفرق والطاعة تجمع، فإذا أردت لهذه الأمة أن يجتمع أمرُها فعليها أن تأتمر بقوله تعالى : "واعتصموا بحبل الله جميعاً " .
ما لم تكن هناك عقيدة واحدة ، وكتاب واحد ، وسنة واحدة ، وهدف واحد ، ومنطلق واحد ، ووسائل واحدة ، فالقلوب لا تجتمع ، "واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً" .
إذاً ، لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ، ما ألفت بين قلوبهم ، لو أنفقت المال جزافاً، لو أعطيت مساعدات ، لو أعطيت بيوتًا للناس مجانًا ، ما ألفت بين قلوبهم ، ولكن الله ألف بينهم .
إذاً تأليف القلوب شيءٌ يخلقه الله في القلوب ، الذي يجمعنا هو دين الله ، والشيء الخطير أن الله سمى الفرقة والتنابذ والبغضاء والعداوة والطعن والتدابر سماها كفراً ، قال تعالى : " وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آياته وفيكم رسوله" .
كيف تكفرون ؟ وهذه الآية نزلت في هذه القصة ، يعني أسباب نزول الآية تكشف جوانبها الدقيقة ، إذاً هذا الذي يفرق بين المسلمين ويطعن ببعضهم ، وينشئ بينهم العداوة والبغضاء ، هذا وقع بالكفر وهو لا يدري ، هذا الذي يظن أن الله له ، وأن الجنة له ، وما سواه باطل ، هذا إنسان منعزل ، هذا إنسان لا يعرف حقيقة هذا الدين ، " واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً ".
أيها الإخوة الكرام ؛ هذه الآيات في سورة آل عمران تتلوها آيات بعد قليل يقول الله عز وجل : " ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير " - الآية الأولى - " وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بحبل الله فقد هُدِيَ إلى صراط مستقيم يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ، وهناك عداوة ، وهناك بغضاء واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ، عن حبل الله ، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا .
هذه المحبة التي تراها بينك وبين أخيك ، هذه من خلق الله ، هذه علامة الإيمان .
فاسمع إلى الحديث القدسي ؛ عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ قَالَ دَخَلْتُ مَسْجِدَ دِمَشْقِ الشَّامِ فَإِذَا أَنَا بِفَتًى بَرَّاقِ الثَّنَايَا وَإِذَا النَّاسُ حَوْلَهُ إِذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ أَسْنَدُوهُ إِلَيْهِ وَصَدَرُوا عَنْ رَأْيِهِ فَسَأَلْتُ عَنْهُ فَقِيلَ هَذَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ هَجَّرْتُ فَوَجَدْتُ قَدْ سَبَقَنِي بِالْهَجِيرِ وَقَالَ إِسْحَاقُ بِالتَّهْجِيرِ وَوَجَدْتُهُ يُصَلِّي فَانْتَظَرْتُهُ حَتَّى إِذَا قَضَى صَلَاتَهُ جِئْتُهُ مِنْ قِبَلِ وَجْهِهِ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَقُلْتُ لَهُ وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ أَاللَّهِ فَقُلْتُ أَاللَّهِ فَقَالَ أَاللَّهِ فَقُلْتُ أَاللَّهِ فَأَخَذَ بِحُبْوَةِ رِدَائِي فَجَبَذَنِي إِلَيْهِ وَقَالَ أَبْشِرْ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ وَالْمُتَجَالِسِينَ فِيَّ وَالْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ وَالْمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ *
(رواه أحمد)
وعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُتَحَابُّونَ فِي جَلَالِي لَهُمْ مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ يَغْبِطُهُمْ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ*
(رواه الترمذي)
يعني أرقى علاقة بين شخصين علاقة الإيمان ، الحب في الله ، والبغض في الله ، فنسأل الله أنْ يؤلِّف بين قلوب هذه الأمة على الخير ، و الحمد لله رب العالمين .
السورة : سورة آل عمران (3) .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
أيها الإخوة الكرام ؛ ورد في الحديث الشريف ، عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا فَقَالَ قَائِلٌ وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ قَالَ بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمْ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ فَقَالَ قَائِلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهْنُ قَالَ حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ *
(رواه أبو داود)
أما معنى كثير ، فالمسلمون اليوم يعدون ألفًا ومئتي مليون ، يعني خُمس سكان العالم ، فَقَالَ قَائِلٌ وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ ؟ وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ فَقَالَ قَائِلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهْنُ قَالَ حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ .
ذكرت هذا الحديث تمهيداً لقوله تعالى في الآية التاسعة والأربعين بعد المئة من سورة آل عمران ، قال تعالى :
يعني أنَّ الإنسان حينما يطيع رجلاً غير مؤمن يتردَّى في الهاوية ، وقد قال تعالى: " ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً"
(سورة الكهف : 28 )
فهذا خطأ كبير كبير ، والخطأ الفاحش أن تستنصح إنساناً مقطوعاً عن الله عز وجل ، " ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا ".
والآية المقابلة ، " واتبع سبيل من أناب إليّ " .
(سورة لقمان : 15 )
إذاً في شأن معاشه ، وشأن تجارته ، وشأن تربية أولاده ، وشأن تخطيب بناته ، لا ينبغي أن يستنصح إنساناً بعيداً عن الله عز وجل ، والآية الدقيقة أيها الإخوة ؛ وهي قوله تعالى : "كيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آياته وفيكم رسوله " .
(سورة النساء : 101 )
يروى أن بعض اليهود آلمتهم هذه المحبة التي بين الأوس والخزرج ، فأرسل أحدهم غلاماً له ، بقصيدةٍ قيلت في الجاهلية ليثير بينهم الأحقاد ، والأنصار حديثو عهدٍ بالإسلام ، فلما سمعوا هذه القصيدة تذكروا بعض ما كان بينهم وبين إخوانهم من عداوةٍ وبغضاء ، فكادت تنشب فتنة ، فما كان مِن النبي صلى الله عليه وسلم إلاّ أنْ خرج وقال: أتفعلون هذا وأنا بين أظهركم ، فنزل قوله تعالى : " وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بحبل الله فقد هدي إلى صراطٍ مستقيم" .
حقًّا أن نجتمع ، أن نتحابب ، أن نتوادد ، أن يكون بعضنا دعماً لبعض ، أن نكون كالبنيان المرصوص ، أن نكون كالصف الواحد ، أن نكون كتلة واحدة ، كيف السبيل إليها ؟ يقولون : الآلام مشتركة ، والآمال مشتركة ، واللغة مشتركة ، والتاريخ مشترك، حوالي اثني عشر شيئًا مشتركًا ، ومع ذلك هناك خصومات ، وهناك عداوات ، وهناك تشتت ، وتشرد ، وتبعثر، كيف السبيل إلى وحدة القلوب ؟ قال تعالى :"واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا " .
(سورة النساء : 103 )
هذه الآية نقرؤها كثيراً ، وقلّما نقف عند معانيها الدقيقة ، ما لم يكن هناك إيمانٌ يجمعنا، ما لم يكن هناك منهجٌ يجمعنا ، ما لم يكن هناك كتاب يجمعنا ، ما لم تكن هناك سنةٌ تجمعنا ، ما لم يكن هناك هدف يجمعنا ، ما لم تكن وسائل لهذا الهدف تجمعنا ، إذًا فلن نجتمع ، ولن نكون كتلةً واحدة ، ولن نكون صفاً واحداً ، ولن نكون يداً واحدةً على أعدائنا ، إلاّ إذا أخذنا بقوله سبحانه : " واعتصموا بحبل الله جميعاً " .
تذكروا السُّبحة ؛ هل تجتمع حباتها من دون خيطٍ بداخلها ؟ الخيط الذي بداخل السُّبحة هو الذي يجمعها ، والله سبحانه وتعالى يقول : "واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً " .
إخواننا الكرام ؛ الأنصار رضي الله عنهم ، حينما وزع النبي عليه الصلاة والسلام الغنائم في معركة حنين ، لم يعطهم لثقته أنهم مؤمنون ، فألَّف بهذه الغنائم قلوبَ أناس ضعاف ، فجاءه زعيم الأنصار سيدنا سعد بن عباده وقال له : يا رسول الله إن قومي وجدوا عليك في أنفسهم ، في شأن هذا الفيء الذي وزعته بين أناس كثيرين ، ولم تعطِ منه الأنصار ، فقال : يا سعد أين أنت من قومك ؟ فقال سيدنا سعد : ما أنا إلا من قومي ، أنا واحد منهم ، يعني متألم مثلهم ، فقال : اجمع لي قومك ، فجمع سعد قومه الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وعندئذٍ وقف النبي صلى الله عليه وسلم وقال : يا معشر الأنصار مقالةٌ بلغتني عنكم ، وجدةٌ وجدتموها عليّ في أنفسكم ، من أجل لعاعة تألفت بها قوماً ليسلموا ، ووكلتكم لإسلامكم ، يا معشر الأنصار – الآن دققوا ، فالنبي صلى الله عليه وسلم حينما انتقده الأنصار كان في أعلى درجات قوته ، فَتَحَ مكة ، وانتهت معركة حنين وانتصر عليهم ، وصار الجيش الذي تحت إمرته أقوى قوةٍ ضاربةٍ في الجزيرة ، والنبي زعيم هذه الأمة ، ونبيها ، ورسولها، وقائدها ، وفئةٌ من الأنصار غمزت ، وانتقدت ، وقالت : يعني نحن أَوْلى ، لم نأخذ شيئاً – فقال صلى الله عليه وسلم : يا معشر الأنصار ، أما إنكم لو قلتم فلصُدقتم ولصدقتم به ، أتيتنا مكذباً فصدقناك ، وطريداً فآويناك ، ومخذولاً فنصرناك ، والنبي صلى الله عليه وسلم ، كان بإمكانه أن يلغي وجودهم ، وكان بإمكانه أن يهدر كرامتهم، وكان بإمكانه أن يعاتبهم لمصلحتهم ، لم يفعل لا هذا ولا هذا ولا ذاك ، ولكن جمعهم - دققوا مرة ثانية - وذكرهم بفضلهم عليه ، وهو في أعلى درجات القوة ، قال : يا معشر الأنصار ألم تكونوا ضلاَّلاً فهداكم الله بي ، وعالةً فأغناكم الله ، وأعداء فألف بين قلوبكم، إذًا ما الذي يؤلف بين القلوب ؟ إنّه الدين ، وما الذي يفرق ؟ المصالح الدنيوية ، الدنيا تفرق والدين يجمع ، والمال يفرق والحق يجمع ، والمعصية تفرق والطاعة تجمع، فإذا أردت لهذه الأمة أن يجتمع أمرُها فعليها أن تأتمر بقوله تعالى : "واعتصموا بحبل الله جميعاً " .
ما لم تكن هناك عقيدة واحدة ، وكتاب واحد ، وسنة واحدة ، وهدف واحد ، ومنطلق واحد ، ووسائل واحدة ، فالقلوب لا تجتمع ، "واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً" .
إذاً ، لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ، ما ألفت بين قلوبهم ، لو أنفقت المال جزافاً، لو أعطيت مساعدات ، لو أعطيت بيوتًا للناس مجانًا ، ما ألفت بين قلوبهم ، ولكن الله ألف بينهم .
إذاً تأليف القلوب شيءٌ يخلقه الله في القلوب ، الذي يجمعنا هو دين الله ، والشيء الخطير أن الله سمى الفرقة والتنابذ والبغضاء والعداوة والطعن والتدابر سماها كفراً ، قال تعالى : " وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آياته وفيكم رسوله" .
كيف تكفرون ؟ وهذه الآية نزلت في هذه القصة ، يعني أسباب نزول الآية تكشف جوانبها الدقيقة ، إذاً هذا الذي يفرق بين المسلمين ويطعن ببعضهم ، وينشئ بينهم العداوة والبغضاء ، هذا وقع بالكفر وهو لا يدري ، هذا الذي يظن أن الله له ، وأن الجنة له ، وما سواه باطل ، هذا إنسان منعزل ، هذا إنسان لا يعرف حقيقة هذا الدين ، " واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً ".
أيها الإخوة الكرام ؛ هذه الآيات في سورة آل عمران تتلوها آيات بعد قليل يقول الله عز وجل : " ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير " - الآية الأولى - " وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بحبل الله فقد هُدِيَ إلى صراط مستقيم يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ، وهناك عداوة ، وهناك بغضاء واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ، عن حبل الله ، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا .
هذه المحبة التي تراها بينك وبين أخيك ، هذه من خلق الله ، هذه علامة الإيمان .
فاسمع إلى الحديث القدسي ؛ عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ قَالَ دَخَلْتُ مَسْجِدَ دِمَشْقِ الشَّامِ فَإِذَا أَنَا بِفَتًى بَرَّاقِ الثَّنَايَا وَإِذَا النَّاسُ حَوْلَهُ إِذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ أَسْنَدُوهُ إِلَيْهِ وَصَدَرُوا عَنْ رَأْيِهِ فَسَأَلْتُ عَنْهُ فَقِيلَ هَذَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ هَجَّرْتُ فَوَجَدْتُ قَدْ سَبَقَنِي بِالْهَجِيرِ وَقَالَ إِسْحَاقُ بِالتَّهْجِيرِ وَوَجَدْتُهُ يُصَلِّي فَانْتَظَرْتُهُ حَتَّى إِذَا قَضَى صَلَاتَهُ جِئْتُهُ مِنْ قِبَلِ وَجْهِهِ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَقُلْتُ لَهُ وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ أَاللَّهِ فَقُلْتُ أَاللَّهِ فَقَالَ أَاللَّهِ فَقُلْتُ أَاللَّهِ فَأَخَذَ بِحُبْوَةِ رِدَائِي فَجَبَذَنِي إِلَيْهِ وَقَالَ أَبْشِرْ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ وَالْمُتَجَالِسِينَ فِيَّ وَالْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ وَالْمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ *
(رواه أحمد)
وعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُتَحَابُّونَ فِي جَلَالِي لَهُمْ مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ يَغْبِطُهُمْ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ*
(رواه الترمذي)
يعني أرقى علاقة بين شخصين علاقة الإيمان ، الحب في الله ، والبغض في الله ، فنسأل الله أنْ يؤلِّف بين قلوب هذه الأمة على الخير ، و الحمد لله رب العالمين .