بانتظار انبلاج الصبح أمضى ليلة طويلة ، رافق فيها عقارب الساعة في حركتها البلهاء بين الأرقام المحكومة دوما" في ذاك المسار0 رافقها واقفا" على شعرة ، متأرجحا" بهواجسه على الميلين ، هوة الموت السحيقة على يساره ، وهوة الحياة الضحلة على يمينه ، فأصابع من ستتلقفه ؟
المطرب المشهور 0000 المطرب المحبوب كان بانتظار صدور نتيجة تحليل الخزعة المأخوذة من كتلة متوضعة على حباله الصوتية 0
بأصابعه التي لم تعرف سوى الإمساك بالريشة ومداعبة أوتار العود ، كان يتلمس حنجرته وللمرة الأولى يتعرف على أبعادها، يتحسس تفاصيل نتوءاتها ، فتصرخ كل خلية في روحه بالدعاء ، ويغرق في لجة الابتهال
لم تكن مجرد حنجرة ، كانت قلبه النابض وراء مكبر الصوت ، على خشبة المسرح ، حيث يغدو ألحانا" ، كلمات واهتزاز أوتار0 جرب الغناء فأسكتته البحة وخذله صوته الذي أصبح غريبا" عنه ، لكنه ظل يمني نفسه بعودة صوته الجميل على أجنحة الراحة والامتناع عن التدخين والمشروب 0
وعده طبيبه أن يخبره الحقيقة أيا" تكن ، وهون عليه الأمر: حتى لو كان سرطانا" نستأصل الحنجرة ، نركب حنجرة اصطناعية ، وتعيش مئة عام 0 فقط ستفقد صوتك 0
صحح له : قل روحك !
أية لغة هذه التي يتحدث بها طبيبه ! من أين جاء بذاك المنطق ؟ أمن تلك البلاد التي حمل شهادته الكبيرة منها؟! أم من أعماقه التي حولتها المشارط إلى صقيع0
أيا" كان المصدر فإن ذهنيته لم تتهيأ بعد لذاك المنطق 0
في العيادة حاول أن يستبق الأمر لحظات ، ويعرف النتيجة من ملامح وجه الطبيب ، عندما كان يقرأ نتيجة التحليل ، لكنه وجدها خرساء كعادتها 0
وقف أمام المكتب رافضا" الجلوس ، عيناه منغرستان في عيني الطبيب ، وعندما بدأ الكلام تعلقت عيناه بشفتيه ليرى أي الكلمتين ستخرج من بينهما ، سليمة أم 0000 خبيثة 0
قال الطبيب : النتيجة إيجابية 0
قال المطرب : لم أفهم ، ماذا تعني ؟
أجابه : أعني 0000 س
مع انطلاقة الحرف الأول ، لم ينتبه إلى قدرة الأذن البشرية على التقاط المسافة الزمنية بين أحرف الكلمة 0
لم ينتبه إلى السرعة التي يعمل بها العقل البشري 0 في تلك المسافة الزمنية تدلى حبل النجاة أمام عينيه
فأمسك به ليعرش على ما تبقى من أحرف كلمة (سليمة) ويعانق الحياة من جديد ، ليعيشها بابتسامة دائمة مهما كانت الظروف ، لكن حرف الراء هو الذي تلا ، فارتمى وارتطم رأسه في قاع الهوة السحيقة ، وجاءت تكملة الكلمة (طان) صدى للارتطام والتشظي 0
شعر بأصابع الموت القاسية تلتف حول رقبته وتعارك روحه المهشمة 0
تلاشى ما تبقى من صوته ، جف حلقه ، وهربت الدماء من عروقه 0
جلس متهالكا" في المقعد القريب ، بينما الريشة تضرب بجنون على أوتار العود 0
علا صراخ الأوتار في رأسه وأضاع كلام الطبيب وهو يشرح خطة العلاج ويحدد موعد العملية 0
حمل نتيجة التحليل ، شعر أنه يحمل شهادة وفاته 0 خرج وهو يرى أوتار العود تتقطع ، خشبه يت**ر
الريشة تتفتت وأغانيه ومواويله تكنسها الريح 0
في غرفة العمليات بينما أصابع الجراح الماهر تنتزع الحنجرة مما يحيط بها من أنسجة وأوردة وشرايين
كانت أغاني المطرب الشهير تصدح في ذاكرته ، تتبعثر كلمات ودندنة خافتة على شفتيه 0
كم كان يحبه ! كم كان يحب صوته ويردد أغانيه التي حفظها 0
في لحظة انتزاع الحنجرة ارتبكت أصابعه خجلا" أمام مطر الأغاني المنهمر من سماء الذاكرة 0
تذكر مقطعا" من إحدى الأغاني 0 فصرخ بصمت معاتبا" القدر الذي لم يترك المطرب المسكين على شاطئ السعادة بل ابتلعه إلى أعاصيره و**ر كل مجاديفه ، وبصمت انسالت دمعة ذوبت جليد أعماقه 0
بحركة واحدة بأصابعه التي تحمل المشرط وتكتب دائما" باللون الأحمر فوق أجساد المرضى أخرج الحنجرة من مكانها0
احتضنها بين يديه ، تراءت له عصفورا" صريعا"0 راح يداعب الحبال الصوتية بالطرف الكليل من المشرط
رأى الأغاني والمواويل متغلغلة في نسيجها ، ترتجف من مصيرها المحتوم 0
تمنى لو أن سحرا" ينبثق من المشرط وينسكب على الحبال ليحيلها أوتارا" ذهبية لا تصدأ ، وتبقى منيعة على السرطان 0
فكر بالملايين التي طربت لاهتزازها ، بالأكف التي صفقت لها ، وبالخصور التي تمايلت على إيقاعاتها 0
عندما رمى تلك الكتلة الغضروفية في سلة القمامة ، كانت حروف الكلمات تبكي ، مفردات الأغاني تنوح وأوتار العود وريشته تعزف لحن الوداع 0
على شفتي الجرح الذي كان يخيطه الجراح ، ولدت الأحرف الأولى من أبجدية الصمت والصبر ، تلك الأبجدية التي تعب كثيرا" في تعلمها0 كانت أحرفا" من شوك ، كلما جرب نطقها تنغرز أشواكها عميقا"
فتقطر عيونه دما" ودمعا" 0
أما أحرف الصبر فكانت أحرفا" من جمر أشعلت الكثير من الحرائق في فضاءات روحه 0
كثيرا" ما كانت أغانيه التي تتصاعد من آلة التسجيل قرب سريره ، تنسكب عزاء" حينا" فوق الحرائق فتطفئها ، وحينا" آخر تتساقط فوقها زيتا" فتزيدها سعيرا" 0
تلك الحرائق جارت على كثير من المساحات الخضراء في حياته فأحالتها يباسا" ، لكن عوده الذي كان معلقا" بجانبه على الحائط بقي أخضر ، منيعا" على ألسنة اللهب 0
من تلك المساحة الخضراء تسلل اللون الأخضر إلى أصابعه ثانية" ، وشيئا" فشيئا" تعلم تلك اللغة الصماء حتى أتقنها فكان يشدو بها على خشبة المسرح ، عندما صعد ليتسلم درع التكريم 0
ومن جديد عادت الملايين تطرب ، الأكف تلتهب ، والخصور تتمايل وهو يحضن عوده وحنجرة بديلة
تنتقل ريشته بنشوة فوق أوتارها 0
المطرب المشهور 0000 المطرب المحبوب كان بانتظار صدور نتيجة تحليل الخزعة المأخوذة من كتلة متوضعة على حباله الصوتية 0
بأصابعه التي لم تعرف سوى الإمساك بالريشة ومداعبة أوتار العود ، كان يتلمس حنجرته وللمرة الأولى يتعرف على أبعادها، يتحسس تفاصيل نتوءاتها ، فتصرخ كل خلية في روحه بالدعاء ، ويغرق في لجة الابتهال
لم تكن مجرد حنجرة ، كانت قلبه النابض وراء مكبر الصوت ، على خشبة المسرح ، حيث يغدو ألحانا" ، كلمات واهتزاز أوتار0 جرب الغناء فأسكتته البحة وخذله صوته الذي أصبح غريبا" عنه ، لكنه ظل يمني نفسه بعودة صوته الجميل على أجنحة الراحة والامتناع عن التدخين والمشروب 0
وعده طبيبه أن يخبره الحقيقة أيا" تكن ، وهون عليه الأمر: حتى لو كان سرطانا" نستأصل الحنجرة ، نركب حنجرة اصطناعية ، وتعيش مئة عام 0 فقط ستفقد صوتك 0
صحح له : قل روحك !
أية لغة هذه التي يتحدث بها طبيبه ! من أين جاء بذاك المنطق ؟ أمن تلك البلاد التي حمل شهادته الكبيرة منها؟! أم من أعماقه التي حولتها المشارط إلى صقيع0
أيا" كان المصدر فإن ذهنيته لم تتهيأ بعد لذاك المنطق 0
في العيادة حاول أن يستبق الأمر لحظات ، ويعرف النتيجة من ملامح وجه الطبيب ، عندما كان يقرأ نتيجة التحليل ، لكنه وجدها خرساء كعادتها 0
وقف أمام المكتب رافضا" الجلوس ، عيناه منغرستان في عيني الطبيب ، وعندما بدأ الكلام تعلقت عيناه بشفتيه ليرى أي الكلمتين ستخرج من بينهما ، سليمة أم 0000 خبيثة 0
قال الطبيب : النتيجة إيجابية 0
قال المطرب : لم أفهم ، ماذا تعني ؟
أجابه : أعني 0000 س
مع انطلاقة الحرف الأول ، لم ينتبه إلى قدرة الأذن البشرية على التقاط المسافة الزمنية بين أحرف الكلمة 0
لم ينتبه إلى السرعة التي يعمل بها العقل البشري 0 في تلك المسافة الزمنية تدلى حبل النجاة أمام عينيه
فأمسك به ليعرش على ما تبقى من أحرف كلمة (سليمة) ويعانق الحياة من جديد ، ليعيشها بابتسامة دائمة مهما كانت الظروف ، لكن حرف الراء هو الذي تلا ، فارتمى وارتطم رأسه في قاع الهوة السحيقة ، وجاءت تكملة الكلمة (طان) صدى للارتطام والتشظي 0
شعر بأصابع الموت القاسية تلتف حول رقبته وتعارك روحه المهشمة 0
تلاشى ما تبقى من صوته ، جف حلقه ، وهربت الدماء من عروقه 0
جلس متهالكا" في المقعد القريب ، بينما الريشة تضرب بجنون على أوتار العود 0
علا صراخ الأوتار في رأسه وأضاع كلام الطبيب وهو يشرح خطة العلاج ويحدد موعد العملية 0
حمل نتيجة التحليل ، شعر أنه يحمل شهادة وفاته 0 خرج وهو يرى أوتار العود تتقطع ، خشبه يت**ر
الريشة تتفتت وأغانيه ومواويله تكنسها الريح 0
في غرفة العمليات بينما أصابع الجراح الماهر تنتزع الحنجرة مما يحيط بها من أنسجة وأوردة وشرايين
كانت أغاني المطرب الشهير تصدح في ذاكرته ، تتبعثر كلمات ودندنة خافتة على شفتيه 0
كم كان يحبه ! كم كان يحب صوته ويردد أغانيه التي حفظها 0
في لحظة انتزاع الحنجرة ارتبكت أصابعه خجلا" أمام مطر الأغاني المنهمر من سماء الذاكرة 0
تذكر مقطعا" من إحدى الأغاني 0 فصرخ بصمت معاتبا" القدر الذي لم يترك المطرب المسكين على شاطئ السعادة بل ابتلعه إلى أعاصيره و**ر كل مجاديفه ، وبصمت انسالت دمعة ذوبت جليد أعماقه 0
بحركة واحدة بأصابعه التي تحمل المشرط وتكتب دائما" باللون الأحمر فوق أجساد المرضى أخرج الحنجرة من مكانها0
احتضنها بين يديه ، تراءت له عصفورا" صريعا"0 راح يداعب الحبال الصوتية بالطرف الكليل من المشرط
رأى الأغاني والمواويل متغلغلة في نسيجها ، ترتجف من مصيرها المحتوم 0
تمنى لو أن سحرا" ينبثق من المشرط وينسكب على الحبال ليحيلها أوتارا" ذهبية لا تصدأ ، وتبقى منيعة على السرطان 0
فكر بالملايين التي طربت لاهتزازها ، بالأكف التي صفقت لها ، وبالخصور التي تمايلت على إيقاعاتها 0
عندما رمى تلك الكتلة الغضروفية في سلة القمامة ، كانت حروف الكلمات تبكي ، مفردات الأغاني تنوح وأوتار العود وريشته تعزف لحن الوداع 0
على شفتي الجرح الذي كان يخيطه الجراح ، ولدت الأحرف الأولى من أبجدية الصمت والصبر ، تلك الأبجدية التي تعب كثيرا" في تعلمها0 كانت أحرفا" من شوك ، كلما جرب نطقها تنغرز أشواكها عميقا"
فتقطر عيونه دما" ودمعا" 0
أما أحرف الصبر فكانت أحرفا" من جمر أشعلت الكثير من الحرائق في فضاءات روحه 0
كثيرا" ما كانت أغانيه التي تتصاعد من آلة التسجيل قرب سريره ، تنسكب عزاء" حينا" فوق الحرائق فتطفئها ، وحينا" آخر تتساقط فوقها زيتا" فتزيدها سعيرا" 0
تلك الحرائق جارت على كثير من المساحات الخضراء في حياته فأحالتها يباسا" ، لكن عوده الذي كان معلقا" بجانبه على الحائط بقي أخضر ، منيعا" على ألسنة اللهب 0
من تلك المساحة الخضراء تسلل اللون الأخضر إلى أصابعه ثانية" ، وشيئا" فشيئا" تعلم تلك اللغة الصماء حتى أتقنها فكان يشدو بها على خشبة المسرح ، عندما صعد ليتسلم درع التكريم 0
ومن جديد عادت الملايين تطرب ، الأكف تلتهب ، والخصور تتمايل وهو يحضن عوده وحنجرة بديلة
تنتقل ريشته بنشوة فوق أوتارها 0