أن تـكون وحــدك بالمنزل
للكاتب شريف ثابت
ما أجـمل أن تكون وحدك بالمنزل ..!!..
أن يـغادرك الجميع .. زوجتك الثرثارة .. أطـفالك المزعجين .. جـيرانك الأوغاد .. كل من يحيط بك طيلة الأربعة و عشرين ساعة و يسبب لك – أنت الّذى تعشق الوحدة و تتلذذ بالصمت – إزعاجاً لا يوصف و ضجيجاً لا يـُحتَمل ..
المفروض أن تشعر بشئ من الإمتنان للحاج ( عبد الفضيل ) مُـستـَأجـِر الشقة المقابلة الّذى أصر على دعوة كل سكان البناية لحضور حفل زفـاف نجله الباشمهندس ( بـهاء ) فى إحـدى نوادى ( أسـيوط ) .. الرجل كريم بالفعل بدليل أنـّه إستأجر عربتىّ ( ميكروباص ) خصيصاً لنقل سـكان البناية – الّذين يربو عددهم عن الثلاثين فرداً – من ( ديـروط ) إلى ( أسـيوط ) لحضور الحفل ثم العـودة بهم ..
كنت لتمتنّ حقاً لكرم الرجل لولا أنـّك تعرف جيّداً ما تنطوى عليه نفسه من خبث و لؤم و رغـبة فى إسـتعراض ثراءه على خلق الله يداريها بقناع من التقوى و الورع الزائفين بترديده الدائم لقول الله تعالى : ( و أمـّا بنعمة ربك فحدث ) .. ما علينا .. المهم هو أنـّك ظفرت بساعات من الهدوء و السكون لم تحظى بمثلهم منذ عشرة أعـوام على الأقل .. و ما كنت لتفعل لو لم تـستغل إصـابتك بالأنفلونزا و تعتذر عن الذهاب .. صحيح أنّ ( مـاجدة ) – زوجـتك – مارست عادتها القـميئة فى الإلحاح و " الزن " طـيلة ساعة كاملة كى تضغط على نفسك و تحاول المجئ و لكنّك كنت صلباً هذه المرّة ..
* ( حـانقة ) : نـسوة العـمارة كلّهن يذهبن متأبطات أذرع أزواجهن فـيما عداى ..؟!!..
* و لكننى مريض كما ترين ..
* لن تذهب و ترجع على قدميك .. ستجلس كـ " الباشا " طيلة الفرح و رحلتىّ الذهاب و العودة ..
كذا هى دوماً .. لا تـهمّها سوى مصلحتها و المظاهر الّتى تحرص عليها كما تحرص على الهواء الّذى تتنفسه .. تـعرف جيّداً أنّ " نـَفَسَك قصير" و أنّك ستستجيب لإلحاحها إجتناباً لـ " وجع الدماغ " .. و هو ما تلعب عليه طيلة سنوات زواجكما .. ياللمرأة المقيتة .. لو كان بك مزيداً من سعة نفسيّة لأوسعتها ضرباً بالحذاء عقب كل وجبة ، و لكنّك للأسف تميل دوماً إلى شـراء راحة " دماغك " بأى ثمن حتى و لو كان الإنصياع الدائم لتلك الحيزبون ..
حتى و هى واقفة أمام المرآة ترتدى ثيابها السخيفة الّتى تحفظها دائماً لمثل هذه المناسبات ( الفستان و البونيه أزرقا اللون المرصعان بالترتر ) و تضع ماكياجاً ثقيلاً منفراً ( بودرة حمراء كثيفة و طلاء شفاه فاقع ) على سبيل التزين .. مستمرة فى الإلحاح :
* هذه فرصة لنغير الجو .. سنـُفسح الأولاد و نتناول عشاءً جيّداً .. سـنرى أصـهار الحاج ( عبد الفضيل ) و عـروس ( بـهاء ) الّتى تقول أمـّه أنّها تـشبه ( مـنّة شلبى ) بالضبط .. و لربما أكرمنا الله بعريس لـ ( عـلياء ) و .. و ..
إلحاح .. ثرثرة .. " زن " .. لزوجة .. صـداع ..
لم تـصدق نفسك هذه المرّة و أنت ترقبهم هى و أبناءكما ( يوسف ) و ( خالد ) و ( عـلياء ) – الأخيرة خلعت حجابها و بالغت فى التزين بإيعاز من أمها لأن مثل هذه الحفلات فرص مثاليّة لإجتذاب العرسان كما تعلم - من خلف زجاج النافذة يتخذون مواضعهم فى إحدى عربتىّ الميكروباص بجوار بقيّة الجيران .. أصـوات الثرثرة و ضحكات الأطفال.. تمر الدقائق بطيئة لزجة قبل أن تسمع أصـوات محركات العربتين ، ثم تتابع أضواءهما الخلفيّة و هى تبتعد فى الطريق الترابى المؤدى إلى الطريق السفلتى حتى تختفيا تماماً ..
تـتنفس الصـعداء ..
مركز ( ديــروط ) – الّذى يضم قـرية ( دشـلوط ) حيث تقيمون – هو آخـر مراكز محافظة ( أسـيوط ) ، تبدأ بعده مراكز محافظة ( المـنيا ) .. و المسافة بينه و بين مدينة ( أسـيوط ) لا تـقل عن الساعة و نصف الساعة .. ثلاثة ساعات ذهاباً و عودة ، بالإضافة إلى مالا يقل عن الساعات الأربـع تستغرقها حفلات الزفاف عادة بما تزخر به من زفـّة و أغانى و رقصات و بوفيه و .. و .. إلخ .. يصبح المجموع إذن سـبع ساعات من الصمت و الهدوء أنت فى أمس الحاجة لهما .. حمداً لله العلىّ القدير ..
تشعل سـيجارة .. تتأمّل البيت من حولك .. بيت قديم هو ، يرجع تاريخ بنائه إلى ما يزيد عن السـبعين عاماً .. تلك الأبـنية العتيقة ذوات الأسقف العالية و الحوائط الحجريّة و الشرفات الواسعة و النوافذ الضيّقة .. أنت محظوظ حقاً إذ ورثت هذا البيت القديم عن والدك الحاج ( حـامد الدميرى ) رحمه الله .. أين لك أن تجد مثله فى هذه الأيـّام الصعبة ..؟.. العيب الوحيد فيه هو بـعده النسبى عن العـمران .. لا يربطه بالطريق الأسفلتى سوى طريق ترابى طوله ثلاثة كيلومترات كاملة تقطعها مرتين يوميّاً مع زوجتك و عـيالك فى سيارتك ( البـيجو 504 ) .. المرّة الأولى صباحاً عندما تنقل العيال لمدارسهم – الولدين فى الثانويّة و الإعداديّة و البنت فى السنة الأخيرة من مدرسة التجارة المتوسطة - ثم تذهب أنت و زوجتك إلى عمليكما .. و المرّة الأخرى قبيل العصر عند العودة ..
أنت الآن بـمفردك .. أخيراً صرت بمفردك ..
...................................
...................................
تـنفث دخان السيجارة .. تخلع نعليك .. تسير حـافياً مستمتعاً ببرودة البلاط .. تتجوّل بتمهل بين حجرات البيت الأربـعة .. تتأمّلها كما لو كنت تراها للمرّة الأولى .. تتوقف للحظة أمام صـورة زفافك المثبتة إلى إحدى الجدران .. تتأمّـل الوجه الباسم لتلك الفتاة الشـابة النضرة الرافلة فى ثوب الزفاف الأبيض ، و يتقلص وجهك إذ يقارنه بفرس النهر الّتى صارته بعد عـام واحد من تاريخ إلتقاط الصورة .. لا تنس أنّك أنت أيضاً لم تعد ذلك الشاب القسيم النحيف الّذى يبتسم إلى جـوار عروسه فى بذلة داكنة .. أين ذهب شعر رأسك ..؟.. و ما هذا الكرش الكبير الّذى يتقدمك ..؟.. إنـّه الزمن يا صديقى ، و لا مفر من آثـار مروره ..
...................................
...................................
تنتقل عـيناك إلى البـرواز المجاور .. شهادة تقدير .. يتشرف قصر ثقافة ( أسـيوط ) بمنحها للشاعر ( مصطفى حامد الدمـيرى ) تقديراً لقصيدته المتميّزة ( لـون الفرحـة ) .. تنفث دخـان السيجارة .. متى كانت آخر مرّة قرضت فيها الشعر ..؟.. لم تعد تذكر .. بالواقـع أنت لم تقرض شعراً .. من كان يفعل هو شخص آخـر بعيد عنك كل البعد .. شخص ذو روح هفهافة خالية من الهموم لا تـرى من حولها إلا لون الخضرة المبتلّة بندى الفجر و لون مـياه الترعة إذ تصطبغ كل صباح بزرقة السماء .. بياض حبات الذرة الّذى يستحيل تدريجيّاً إلى الذهبى على نار الشواء .. سـواد شـعر ( جـميلة ) الفاحم كليل بلا قمر ..
...................................
...................................
أنت الآن بـمفردك .. أخيراً صرت بمفردك ..
طـلاء الحائط القديم تساقط فى أكـثر من موضع و بان من خلفه الحجر الّذى بـُنيَت منه الجدران .. البيت قديم فـعلاً .. و كل شبر منه يحمل رائحة ذكرى ما .. على هـذه الأريـكة القديمة كان يتمدد الحـاج ( حـامد الدميرى ) عقب عودته من الجمعيّة الزراعيّة .. شاربه الكث .. تجاعيد وجهه المنهك الصارم ، و رائحة العـرق الممتزجة برائحة السماد المنبعثة من ثيابه .. فى هذا الركن تجلس الحاجة ( فـهيمة ) رحمها الله لتعد القهوة على السبرتاية .. فى هذه الشـرفة وقفت مراراً تدخن السجائر و تراقب الغـروب و تكتب الشعر ..
هل كانت مراقبتك الدائمة للغروب تحمل إسـتبصاراً مّا لما ستُطبع عليه حياتك فيما بعد ..؟..
تتوقف أمام المرآة الدائـريّة المعلقة على الحائط .. تتأمـّل سطحها المتسخ المكسو بالعديد من البقع السـوداء .. غـريب هذا ..هل تتوهم أم أنَّ إنـعكاس صورتك على سطحها غير سليم بالفعل ..؟.. الجبهة عريضة جداً .. الأنف مدبب بشكل مبالغ .. الصـورة كلها شائهة بشكل يكاد يكون مضحك .. لـِمَ لا تشترى مـرآة أخـرى جديدة ..؟.. لـِمَ لا تـ ..
هنا سـاد الظلام بغتة ..
هدئ من روعك .. لماذا أجفلت ..؟.. مـجرد إنـقطاع للتيار الكهربائى كثيراً ما يحدث .. مـا الّذى أفـزعك إلى هذه الدرجة ..؟ .. الظـلام ..؟!!.. منذ متى تـخاف الظلام ..؟؟!!..
أعـلم أنّ هذا المنزل الواسـع الرحـب ، الخالٍي الآن من أى بنى آدم سـواك - بعد أن ذهب الجميع لحضور حفل الزفـاف – يبدو مثيراً للرهبة بعض الشئ .. و أعلم كذلك أنـّه واقـع فى منطقة نائية بعيدة عن العـمران ، و أنّ منظر الغـيطان المظلمة الممتدة على مرمى البصر أمام البناية يبعث الرجفة فى الأجساد .. و لكن ما شأنك أنت بكل هذا ..؟؟.. أنت الآن تجلس آمناً فى بيتك كما كنت أمس و أمس الأوّل و العام الماضى و الّذى قبله .. يالك من خـَرِف ..!..
تتربع على أريـكة والدك المفضلة .. و على ضوء القمر تعمل أصابعك ببراعة .. تنظف الجوزة و تثبت التخشينة جيّداً.. تـُشعِل حجراً و تجذب نَفَساً طويلاً يرتج له صدرك بالسعال .. كل شئ على ما يرام .. لا يتبقى سوى إضافة قرش الحشيش القابع فى جيب جلبابك العلوى ثم تسحب أنفاساً متتالية .. و تنفث سحباً متتالية من الدخان ..
برغم إنـقطاع التيّار إلا أنّ ضـوء القـمر القادم من النافذة يتيح لك رؤيـة جيّدة للمكان لا تخلو من شـاعريّة ما .. المشجب الضخم الموضوع بقرب الباب ( دوماً ما كان يبدو لك كشخص عملاق واقف يرمقك بثبات ) .. إنـعكاس النور الفضى على حـواف أوراق اللبلابة الممتدة من داخل الشـرفة لخارجها .. ذرات التراب السابحة فى الفـراغ تتداخل مع سحب الدخان البيضاء .. الصمت التام المطبق على المكان إلا من أصـوات بعض الحشرات الليليّة و نقيق الضفادع ..
تنفث المـزيد من سحب الدخان ..
( مـصطفى حامد الدميرى ) .. طالب الحقوق الشاب .. الشاعر الموهوب باعتراف العديد من الشـعراء و النـقاد .. الكلمات تتدفق من روحك حاملة تـيّارات من المشاعر الهادرة تغمر السامعين فتلتهب أكفهم بالتصفيق .. موهبة مشرقة و مستقبل واعد .. ( جـميلة ) تبتسم و ترمقك بإعجاب .. لا تتكلّم كثيراً ، و لكن عينيها السـوداويّتين تقولان الكثير .. الحاج ( الدمـيرى ) حانق .. هو لا يـحب الشعر و لا يراه ذى قيمة لأنـّه " لا يـؤكل العيش الحاف .. أدخـلت الحقوق لتصير وكيل نيابة محترم أم بيّاع كلام ..؟؟!! " .. الحـاجة ( فـهيمة ) تمصمص شفتيها متحسرة ..
...................................
...................................
كــرررييييييك ..
ماهـذا الصـوت ..؟..
صفير الـرياح ..؟.. لا طـبعاً .. أى نعم هـذا موسم الخماسين ، ولكن ليس هذا بصوت الرياح بالتأكيد .. هذا صـوت إصطدام شـئ ما قادم من إحـدى الغرف .. بالتحديد غرفة نـومك ..
أمـرك غريب حقاً يا صديقى .. ما سر هذا التوتر الّذى إنـتابك ..؟..شعر ذراعيك منتصب .. دقـات قلبك متسارعة .. لم أتـصَوّرك " خـفيفاً " إلى هذه الدرجة ..
لربما كان هذا فـأراً .. تعرف جيّداً أنّ الغيطان المجاورة للبيت تعج بالفئران و العـِرَس .. هل تخاف الفـئران ..؟.. لـِمَ لا تنهض و ترى بنفسك ..؟.. هـيّا .. ضع الجـوزة على المنضدة الخشبيّة المجاورة .. الظـلام ليس دامساً و قد إعتادته عيناك .. حاذر من الإصطدام بمسند المقعد الموضوع فى أوّل الردهة .. أنت تصطدم به دوماً فى النور فما بالك بالظلام .. تحسس بأصـابعك البوفيه الصغير الموضوع فى منتصف الردهة .. إجذب الدرج العلوى .. إسـحب الشمعة منه .. إشـعلها بالقداحة الراقدة فى جيب جلبابك .. شليك .. شليك .. الشمعة تتوهج بلهب أصفر .. ظلّك يرتسم على الحـائط بجوارك ..
ظـل ( جـميلة ) المرتسم على أرضـيّة الشارع كان بديعاً حـقاً .. واقـفين على سـور كورنيش ( أبـو قير ) بجوار عـمود الإضـاءة .. لو إقتصرت رحلة الجامعة إلى ( الإسـكندريّة ) على هذه اللحظة لكفت .. وجهها المستدير .. عيناها اللامعتان .. شـعرها الأسود الّذى يداعبه نسيم البحر برقة .. جسدها الضئيل المتناسق .. ضحكتها الفاتنة .. صـوت أمواج البحر .. الظل الرشيق لا يكف عن التواثب .. مشاعر العشق المحمومة تمتزج فى أعماقك بلذة المغامرة .. مغامرة تسللك من معسكر الأولاد للقاءها بعد منتصف الليل .. هل هـو حلم ..؟.. يا الله .. لماذا لم يتوقف الزمـن عند هذه اللحظة الفـردوسيّة .. ؟؟..
رُغـماً عنك تتذكر تلك الحكايات المرعبة الّتى يتناقلها الناس فى الآونـة الأخيرة عن مطاريد الجبل الّذين يهاجمون البيوت الآمنة ليلاً لسرقتها .. الحكاية قديمة جداً ، و لكنّها توقفت لفترة طويلة بعد أن شنّت الداخليّة حملات أمنيّة متتابعة إشتركت فيها أسلحة المدرعات و الطائرات الهليوكوبتر و مئات الجنود لمداهمة أوكار هؤلاء المجرمين فى الجبل ، وتمكنت من كسر شوكتهم و القضاء على خطرهم .. تمتع الأهالى بالأمـان لسنوات طويلة ، قبل أن تعاود القصص المخيفة الظهور من جديد .. موجة من الجرائم الوحشيّة فى بلدات و قرى عديدة منتشرة بامتداد الجبل .. مهاجمة بيوت .. سرقة ممتلكات .. قتل الرجال .. هتك أعـراض النساء .. خطف الأطفال .. ثم حرق البيوت قبل مغادرتها .. تـَذكرجيّداً تلك القشعريرة الّتى سرت فى بدنك و أنت تطالع صور جثث الضحايا فى مجلة ( أخـبار الحوادث ) و قد تم تشويهها و التمثيل بها على نحو بشع لا تُقدم عليه حتى الحيوانات المفترسة .. نفس هذه القشعريرة هى الّتى تسرى فى جسدك هذه اللحظة ..
تتقدّم فى الردهة المظلمة بـخطوات واجفة حاملاً الشمعة .. ما الّذى جعلك تتذكر هذه التفاصيل المفزعة الآن ..؟.. نسمة هواء تهب فيتراقص لهيب الشمعة .. تدنو من باب الحجرة مـفتوح ..
كــرررييييييك ..
تـجفل .. قلبك يدق بعنف .. تكاد تستدير لتعدو هارباً .. من أى شئ ..؟!!.. تعقل قليلاً يا رجـل .. ماذا أصابك ..؟.. كل هذا لأجـل فـأر ..؟!!.. تمالك نفسك قليلاً ..
خـُذ نفساً عميقاً لتسيطر على أعـصابك .. غـرفة نـومك بها شـرفة واحدة فسيحة تطل على الغيطان ، لها ضلفتان خشبيّتان و أخريتان زجاجيّتان .. ( ماجدة ) – لو تذكر ـ أوصدت الأخيرتين فقط قبل مـغادرتها حتى لا تتسرّب أتربة الخماسين إلى داخل الغرفة .. إرفـع الشمعة لأعلى كى ترى أكبر مساحة ممكنة .. هل ترى ..؟.. كل شئ فى موضعه .. السـرير الخشبى الضخم .. التسريحة .. الدولاب الهائل الّذى يحتل حائطاً كاملاً .. و الأهم .. ضـلفتا الشرفة الزجاجيّتين موصدتين كما تركتهما زوجتك ..
تـنفس الصعداء .. هل إطـمأننت الآن ..؟.. لو كانت الضلفتان مفتوحتين لقلت لك أنّ من حقك أن تقلق .. و لكن كما ترى .. جرب أن تجذب أكرة الضلفتين الموصدتين بإحكام .. كلينج كلينج .. كل شئ إذن على ما يرام .. كل شـ ..
لا .. إنتظر لحظة ..
دقق النـظر – على ضوء الشمعة - عبر زجاج الضلفة ..
من هذا الشخص الواقف فى ظلام الشرفة يحملق فيك بعينين حـمراويّتين كالدم ..؟؟..
...................................
...................................
عـندما كانت ( جـميلة ) تحادثك كانت تحدق فى عينيك مباشرة .. ذبذبات غير مرئيـّة تنبعث من حدقتيها تـلزمك بمزيج مدهش من الرقة و الحزم أن تتشرّب كلماتها .. تتكلّم فى موضوعات مختلفة .. الأدب الإنجليزى ( و كانت شغوفة به رغم دراستها العلميّة ) .. فيلم ( سـعاد حـسنى ) الجديد .. التاريخ .. زيـارة ( السـادات ) للكنيست الإسرائيلى ( كان وجهها عندئذ يتقلّص باشمئزاز و غضب يضفى عليها رغم كل شئ جمالاً من نوع خاص ) .. و كنت أنت تستمع إليها مبهوراً بهذا الطراز من الفتيات الّذى لا تجد مثله فى قريتك أو حتى محافظتك كلّها .. أيـن تعلمت كل هذا يا فتاة ..؟.. و كيف تواتيك يا ابنة ( القـاهرة ) تلك المقدرة الإيجابيّة الفذة – الّتى أفتقدها أنا الذكر القادم من الصعيد - على المبادرة .. ؟.. حتى القبلة الأولى هى الّتى بادرتك بها – لدهشتك و سعادتك - بين أشـجار حـديقة ( الأندلس ) .. لم تكن مـنحلّة .. و لكن مشاعرها ( و الّتى لم تكن أبداً هادئة ) كانت دوماً هى المحرك الرئيسى لها ..
...................................
...................................
عـندما يدنو الخطر منّا لدرجة تفاجئنا ، فـإن دور العـقل يتراجع ، و تصبح مشاعر الرعـب هى صاحبة القـرار .. هى الّتى تجـعلك ترتد بعنف إلى الخلف .. تشهق بفزع .. ترتطم بمقعد التسريحة و تسقط معه أرضـاً محدثاً جلبة .. الشمعة تسقط من يدك .. تنطفئ .. يسود الظلام .. الهلع يحكم سيطرته عليك .. تتراجع زاحفاً بحركات متشنجة .. تهب واقفاً و تهرع نحو باب الغرفة و أنت تصرخ .. تصطدم بالحائط مرّة قبل أن تعثر على فتحة الباب .. رغم سـنوات عمرك الّتى تقارب السـتّين تـعبر الردهة المظلمة كالعاصفة .. تصطدم بمسند المقعد إيـّاه ( ألم أحذرك ..؟ ) .. الألم يعصف بركبتك و لكنّك لا تبالى .. تبلغ المطبخ .. تـفتح الأدراج بعنف .. تنثر محتوياتها حتى تـعثر على تلك السـكين الضخمة .. تقبض عليها بقوّة و تقف لاهثاً للحظات ..
قـرأت – لو تذكر – تعليقاً لأحـد أسـاتذة الإجتماع عن تلك الجرائم الوحشيّة الّتى تـروع أهالى الريف .. كان الرجل يرى أنّ عـودة تلك الظاهرة راجـع إلى موجات الفقر المتتابعة الّتى عصفت بأغلب قطاعات الشعب المصرى ، و سحقت وطأتها الملايين ممن يـُعرَفوا بسكان العشوائيّات .. هؤلاء الملايين الّذين تعالت التحذيرات من أنّ الفقر و الجوع جعل منهم قنابل موقوتة و وحوشاً شـرسة متأهبة للإفـتراس فى أى وقت .. العرق يسيل على وجهك .. صدرك يعلو يهبط .. أحد هـذه الوحوش الشـرسة إذن يقف فى شرفة دارك متأهباً لإفـتراسك .. أحشاءك تتقلص من فرط الرعب ، و أصابعك تتقلّص لا إراديّاً على مقبض السـكين ..
" ( سـيّد ) بيه يا ( سـيّد ) بيه .. كـيلو اللحمة بقى بجـنيه " ..
" هـمّا بياكلوا لـحوم و فـراخ .. و احـنا بناكل العـيش الحـاف " ...
الهتافات تـدوى كالرعد فى السـماء .. الجـموع تـزحف بأعداد مـهولة .. الأمن يحاول أن يفعل شـيئاً ، و لكن الكتل البشرية الهائلة تكتسحه أمامها .. تطأه بالأحـذية .. إنـّها الإنتفاضة الحـقّة .. تذكر جـيّداً خـروجك من بـوّابة الجامعة محمولاً على أكـتاف زملائك .. الرؤوس من حـولك فى جميع الإتجاهات على مرمى البـصر .. تـهتف من أعـماقك ..
" ( سـيّد ) بيه يا ( سـيّد ) بيه .. كـيلو اللحمة بقى بجـنيه " ..
فـتهدر الأصـوات من آلاف الحـناجر مرددة هـتافك .. المظاهرة تجتاز كـوبرى الجامعة .. تطوف فى الشـوارع ..
" هـمّا بياكلوا لـحوم و فـراخ .. و احـنا بناكل العـيش الحـاف " ...
المبانى على جانبى الشـارع .. ترفع رأسـك .. الشرفات و النوافذ تعج بالنساء و الأطـفال .. الكل يهتف .. الكل يصرخ من أعـماقه ..
فيما بـعد سيلغى ( السـادات ) قـراره برفع الدعم عن السلع الأساسيّة .. سيردد كلاماً كثيراً عن المؤامرة الشيوعيّة و إنتفاضة الحراميّة .. سـتترك إنتفاضة يناير77 أثراً لا يزول فى نفس النظام ، و سيتعلّم بعدها ألا يسمح بأى صورة من صور الإحتجاج سلميّة كانت أو غير ذلك ..
و لكن ايـن أنت يا ( جـميلة ) فى كل هذا ..؟..
...................................
...................................
رجـفة لا إراديّة تسيطر على أصابع يدك اليمنى .. تنقل السكين إلى يدك الأخرى .. تشعر بمغص و رغبة عارمة فى التبرّز .. تصيخ السـمع ..
............
............
............
لا صـوت اللهم إلا صـفير رياح الخماسين القادم من الخارج .. تمسح قطرة ضخمة مزعجة من العرق على جبهتك .. أحقاً ما رأيت ..؟.. أنت متأكد من أنـّك لمحت أحدهم فى الشـرفة .. ملامحه مـخيفة و عينيه حمراويّتين .. كيف صعد إلى شـرفتك ..؟.. بسيطة .. تسلق شجرة المانجو المجاورة و وثب منها إلى الشرفة .. ماذا يريد ..؟.. أهـذا سـؤال ..؟!!.. هل تظنه جـاء ليدخن الحشيش معك ..؟!!.. بالتأكيد راقب البيت و عـَرِف أنّ جميع سكّانه غادروه فقرر أنّ الوقت مناسب للسطو عليه .. لابـُد أنّه بـوغت بوجودك كما فوجئت أنت بوجوده .. السـؤال هو : هل سـيقرر الإسـتمرار أم سيفر هارباً ..؟..
إسـتعاد ذهنك للحظة الصور البشعة الّتى شاهدتها فى المجلة لجثث ضحايا جرائم أولاد الليل .. القشعريرة من جديد .. لا تـخدع نـفسك .. هو لم يأتى ليـفر خاوى اليدين .. و بالتأكيد هو ليس وحـيداً .. ماذا بـيدك أن تفعل ليفكر فى الفـرار هو و من معه ( و هم الّذين قتلوا من قتلوا ) ..؟؟.. الحسبة بسيطة .. البيت ملئ بالمسروقات و الغنائم ( يكفى مصاغ زوجتك الموجود فى الدولاب ) .. هل نتركه و نـفر من أجل كهل لن يستغرق ذبحه ثانية واحدة ..؟؟.. يا الله .. لماذا لم تـذهب معهم إلى حفل الزفـاف بـ ( أسـيوط ) يا أحـمق ..؟..
كــرررييييييك ..
أقـام لك الحاج ( حامد الدمـيرى ) حفل زفاف ضخم بالفعل .. الرجل ليس فقيراً .. و أنت ابـنه الوحيد .. كل شيء تم بسرعة فائقة .. بمجرد الإفـراج عنك إصطحبك إلى الحـاج ( زيـدان أبو محمد ) شيخ البلد و طلب يد إبـنته ( مـاجدة ) لك ( و كان قد أقسم أن يزوجك بمجرد انتهاء القضيّة ) .. لا مشاكل هنالك .. الدار موجود .. و وظيفتك محجوزة فى الجمعيّة الزراعـيّة بمجرد إتمامك لعامك الدراسى الأخير ( كان قد إبتلع ضياع حلمه بتعيينك فى النيابة بعد إلقاء القبض عليك ) .. انطلقت الزغاريد .. دوت الطلقات الناريّة .. الحاج ( الدمـيرى ) يبدو سـعيداً منتشياً فى جـلباب جديد و عباءة سـوداء فاخرة .. يهرع ليرحب بالعمدة و مأمور المركز .. الفرقة تعزف .. الراقـصة تتمايل بخلاعة فيتصايح الحاضرون بحرارة .. أكواب الشربات أحمر اللون .. صـوانى الفتة و اللحم و الخضر مرصوصة على الموائد يسيل لها لعاب أهل البلد ( و قد دعاهم الحاج جميعاً ) .. فى النهاية تجد نفسك واقفاً فى غـرفة النوم .. عروسك تجلس خافضة رأسها و تبتسم بخجل .. بينما أهـليكما واقفين أسـفل البيت ينتظرون أن تقذف إليهم بالفوطة البيضاء المخضبة بالدمـاء ..
كــرررييييييك ..
إذن فهم فى غـرفة النـوم الآن .. لو أردت رأيى فعليك بالفرار .. أنت ببـُنيتك المترهلة و سنوات عمرك المقاربة للستين لا قدرة لك على التصدى لهم .. صحيح أنّـك تملك مسدساً مرخصاً ، و لكنّه فى دولاب غرفتك .. و لعلهم عـثروا عليه الآن بينما يـفتشون الغرفة .. إهـرب يا رجل و لاتـُضع وقتاً .. إحتفظ بالسكين بين أصابعك .. أخـفِض رأسك .. ازحـف على يديك و ركبتيك نحو باب غرفة الصـالون المجاورة ( هل نسيت أنّ بها باباً يفضى إلى خارج الشقة ..؟ ) .. حذار أن تصدر صوتاً .. لحسن الحظ أنّ الظلام يسود البيت ..
كــرررييييييك .. كــرررييييييك ..
تمالك نفسك و تابع الزحف .. غريب هذا .. مـاداموا قد دخلوا الشقة ، فلماذا لم يهتموا بك و قد رآك أحدهم ..؟.. لا تتوقف أو تنظر خلفك .. لربما هم مشغولون أكثر بـسرقة الأموال و المصاغ من الدولاب .. يا أولاد الكلاب .. لو نجانى الله – تـفكر- فلن أدعكم تهنأون بمالى .. صبراً .. أنا لى صلات كثيرة و ...
شششش .. ألن تتوقف عن الحماقة للحظة واحدة ..؟!.. أنت فى مأزق حقيقى .. لو عـثروا عليك فلن يتركوك حيـّاً لترشد البوليس إليهم .. سـيقتلونك و يمزقوا جـثتك كما فعلوا مع أصحاب الجثث الّتى شاهدتها فى المجلة ... هـيّا .. تحسس حائط غـرفة الصالون .. إستند إلى مسند الأريكة و انهض ببطء دون أن تـُحدث صوتاً .. هـو ذا الرتاج .. إفـتح الباب و غادر الشـقة ..
كــرررييييييك .. كــرررييييييك ..
تـباً .. الباب موصد بالمفتاح .. لا .. تماسك يا رجل و لا تـَنهر .. حياتك متوقفة على قدرتك على التفكير فى اللحظات التالية .. حاول أن تتذكر معى أيـن تترك سلسلة مفاتيحك .. على المنضدة الّتى تتوسط الصالة ..؟.. مممم .. موضع واضح يـُمـَكِنـَهم من رؤيتك بسهولة .. و لكن ليس أمامنا غير المحاولة ، لأنّ بقاءك فى موضعك خطر داهـم .. انتهز فـرصة انشغالهم بنهب محتويات دولاب غرفة نومك و إلتقط مفاتيحك ثم إهـرب بأقصى سرعة ..
ألـق نظرة عبر باب الصـالون نصف المفتوح .. الصـالة غارقة فى الظلام إلا من نـذر من ضوء القمر قادم من الشـرفة .. لا أحد هنالك رغم ضجيجهم القادم من غرفة النـوم .. هيا .. إقـرأ قول الله تعالى ( و جعلنا من بين أيديهم سـداً و من خلفهم سـداً فأغـشيناهم فهم لا يـبصرون ) .. هـيّا .. توكل على الله ..
أخـفض رأسك .. هل مازلت تحتفظ بالسكين ..؟.. حسناً .. لا تـحدث صـوتاً .. تحرّك بخفة على أطـراف أصابعك .. هاهى سـلسلة المفاتيح كما تركتها بجوار الجوزة على المنضدة ..
ضاعت قـطعة الحشيش ..؟!!.. يخرب بيتك .. أهـذا وقته ..؟!!..
إلـتقطها بخفة .. حـِذار أن تـُحدث صـليلاً .. باب الشـقة قريب .. تراجع بحذر ...
كــرررييييييك .. كــرررييييييك ..
بــوووم .. بــوووووووم ...
يا الله .. إنـهم قادمون .. أسـرع يا رجل .. الباب على قيد خطوات منك .. لو أمـسكوا بك فلن يرحموك .. أسـ ..
احـــترس .. أحــدهم خلفك ..
يالضخامته .. الظــلام يـخفى وجهه تماماً ...
طـوح السـكين .. إطـعنه ..
يــتهاوى أرضاً بعد أن أصـابته الطـعنة ..
اهـرب .. أيـن البـاب ..؟.. من هـنا ..
لا .. حــاسب .. هناك من يـسد الطـريق ..
يالبشـاعته .. جبهة عريضة جداً .. أنف مدبب بشكل مبالغ .. ملامح شائهة ..
ضـابط المباحث يرمقك بقسوة .. " هل ستعاوننا أم لا ..؟ " .. لا تـملك خياراً .. الغريب أنّ مقاومتك إنـهارت بعد بضعة صـفعات فقط .. و كنت تظن أنـّك أقـوى من ذلك بكثير .. قـرأت بعد ذلك أنّ الصفعة الأولى تدمر تراثاً هائلاً من الكرامة و إحترام النفس .. هذا حق .. أنت الآن على إسـتعداد للتضحية بأبـيك ذاته - و ليس ( جـميلة ) و رفاقها فحسب - كى تغادر هذا الجحيم ..
إهـرب نحو الشــرفة .. لا .. لا .. إحـترس .. أحـدهم يندفع نـحوك من الشرفة حاملاً سـلاحاً حاداً يلمع فى ضـوء القـمر ..
الأسـتاذ ( مصطفى حامد الدمـيرى ) مدير الجمعيّة الزراعـيّة و عضو المجلس المحلى بمركز ( ديـروط ) .. هذا هو منصبك الرسمى الّذى يمنحك نفوذاً قـويّاً فى البلد .. لا أحد يتساءل عن مصدر ثراءك ، فالكل يعلم أنـّك ورثت طـيناً عن أبـيك .. و الكل كذلك يعلم بالأموال الطائلة الّتى تجنيها من وراء بيع أسـمدة الجمعيّة الزراعيّة فى السـوق السـوداء .. و لكن من يجرؤ على الكلام ( و أنت عضو الحزب القوى صاحب الصلات النافذة ) ..؟؟...
أحـاطوا بـك .. لاااااا ..
تـراجع بسرعة .. احـترس .. المـنضدة خــلفـ ...
بــــووووم
ألم عـنيف يـنتشر فى رأسـك .. ما هذا البلل الدافئ ..؟.. دمـاء ..؟.. يا الله .. إنـها دمـاءك ..
ضـوء القمر يتلاشى من أمامك تدريـجيّاً ..
الظـلام الآن دامـس تماماً ..
...................................
...................................
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
أخــيراً ..
انـصرف الضيوف الّذين جاءوا لمجاملتك و الإطمئنان على صحتك ..
خلا البيت من جموعهم .. أوى الأولاد إلى مضاجعهم .. انـتظمت أنـفاس ( مـاجدة ) النائمة بجوارك على الفـراش .. تتقلّب لتتخذ وضعاً أكـثر راحة .. تتحسس الضمادات المحيطة برأسك .. تنفث دخان السيجارة المشتعلة بين أصـابعك ..
كــرررييييييك .. كــرررييييييك ..
يـجب أن تتذكر غداً أن تجلب أحـداً ليقطع أغـصان شجرة المانجو القريبة من ضلفتىّ الشرفة الخشبيّتين لما يسببه إحتكاك هذه الأغـصان بالضلفتين من ضجيج مزعج ..
الآن يـمكنك تخيل صـورة لما حدث فى تلك الليلة ..
لقد كنت أحـمق بالفعل يا صديقى .. رغم أنّك ستدخل عقدك السابع قريباً إن شاء الله إلا أنـّك مازلت تخشى البـقاء وحيداً .. بـمجرّد أن غادرك من حولك ، و انـقطع عنك التيار الكهربى بدأت تهلوس ..
لا شك أن للحشيش الّذى كنت تدخنه دوراً مـا ..
المـخاوف الّتى سيطرت عليك عندما ذهبت لتبحث عن مصدر الصـوت القادم من غرفة نومك منعتك من إدراك حقيقة بسيطة و هى أنّ الشخص الّذى رأيته يحملق فيك من الشـرفة لم يكن سـوى انعكاس لصورتك على زجاج الضلفة .. كنت لتلاحظ ذلك لولا أنّ الهلع الحيوانى الّذى سيطر عليك لم يمنحك الفرصة .. شل عقلك تماماً و دفعك للفرار ..
كذلك الأشـخاص الّذين أحـاطوا بك فى الصـالة .. أحدهم هو إنـعكاس صورتك فى المرآة ذات الإنـعكاسات المختلة ..
" الجبهة عريضة جداً .. الأنف مدبب بشكل مبالغ .. الصـورة كلها شائهة بشكل يكاد يكون مضحك .. لـِمَ لا تشترى مـرآة أخـرى جديدة ..؟ "..
و الآخـر هو إنـعكاس صـورتك على زجاج ضلفة شرفة الصالة و أنت تندفع نحوها حاملاً سـكين المطبخ ..
" إحـترس .. أحـدهم يندفع نـحوك من الشرفة حاملاً سـلاحاً حاداً يلمع فى ضـوء القـمر " ..
الحكاية كلّها إذن لا تعدو أنّ مجموعة من الهلاوس إنتابتك لبقاءك وحيداً فى الظلام .. و لو تقمصنا دور أساتذة علم النفس لقلنا أنـّك لم تكن تواجـه سوى نفسك .. و يبدو أنـّك فى جزء من أعمق أعماقك غير راضٍ عنها .. تمقتها .. تشمئز منها .. تـخافها بشدة .. لذا فـَزِعت من مواجهتها عند إنـفرادك بها – للمرّة الأولى منذ زمن طويل - بعيداً عن المحيطين بك ...
لا تبتئِس .. حل مشكلتك بسيط يا صديقى .. فقط حـاول أن تنسى زمـان و أيـّام زمـان .. أنت اخترت حياتك بنفسك فابتعد تماماً عن الماضى .. و الأهـم ..
تـجنّب بشدة .. أن تـبقى وحـدك فى المنزل
للكاتب شريف ثابت
ما أجـمل أن تكون وحدك بالمنزل ..!!..
أن يـغادرك الجميع .. زوجتك الثرثارة .. أطـفالك المزعجين .. جـيرانك الأوغاد .. كل من يحيط بك طيلة الأربعة و عشرين ساعة و يسبب لك – أنت الّذى تعشق الوحدة و تتلذذ بالصمت – إزعاجاً لا يوصف و ضجيجاً لا يـُحتَمل ..
المفروض أن تشعر بشئ من الإمتنان للحاج ( عبد الفضيل ) مُـستـَأجـِر الشقة المقابلة الّذى أصر على دعوة كل سكان البناية لحضور حفل زفـاف نجله الباشمهندس ( بـهاء ) فى إحـدى نوادى ( أسـيوط ) .. الرجل كريم بالفعل بدليل أنـّه إستأجر عربتىّ ( ميكروباص ) خصيصاً لنقل سـكان البناية – الّذين يربو عددهم عن الثلاثين فرداً – من ( ديـروط ) إلى ( أسـيوط ) لحضور الحفل ثم العـودة بهم ..
كنت لتمتنّ حقاً لكرم الرجل لولا أنـّك تعرف جيّداً ما تنطوى عليه نفسه من خبث و لؤم و رغـبة فى إسـتعراض ثراءه على خلق الله يداريها بقناع من التقوى و الورع الزائفين بترديده الدائم لقول الله تعالى : ( و أمـّا بنعمة ربك فحدث ) .. ما علينا .. المهم هو أنـّك ظفرت بساعات من الهدوء و السكون لم تحظى بمثلهم منذ عشرة أعـوام على الأقل .. و ما كنت لتفعل لو لم تـستغل إصـابتك بالأنفلونزا و تعتذر عن الذهاب .. صحيح أنّ ( مـاجدة ) – زوجـتك – مارست عادتها القـميئة فى الإلحاح و " الزن " طـيلة ساعة كاملة كى تضغط على نفسك و تحاول المجئ و لكنّك كنت صلباً هذه المرّة ..
* ( حـانقة ) : نـسوة العـمارة كلّهن يذهبن متأبطات أذرع أزواجهن فـيما عداى ..؟!!..
* و لكننى مريض كما ترين ..
* لن تذهب و ترجع على قدميك .. ستجلس كـ " الباشا " طيلة الفرح و رحلتىّ الذهاب و العودة ..
كذا هى دوماً .. لا تـهمّها سوى مصلحتها و المظاهر الّتى تحرص عليها كما تحرص على الهواء الّذى تتنفسه .. تـعرف جيّداً أنّ " نـَفَسَك قصير" و أنّك ستستجيب لإلحاحها إجتناباً لـ " وجع الدماغ " .. و هو ما تلعب عليه طيلة سنوات زواجكما .. ياللمرأة المقيتة .. لو كان بك مزيداً من سعة نفسيّة لأوسعتها ضرباً بالحذاء عقب كل وجبة ، و لكنّك للأسف تميل دوماً إلى شـراء راحة " دماغك " بأى ثمن حتى و لو كان الإنصياع الدائم لتلك الحيزبون ..
حتى و هى واقفة أمام المرآة ترتدى ثيابها السخيفة الّتى تحفظها دائماً لمثل هذه المناسبات ( الفستان و البونيه أزرقا اللون المرصعان بالترتر ) و تضع ماكياجاً ثقيلاً منفراً ( بودرة حمراء كثيفة و طلاء شفاه فاقع ) على سبيل التزين .. مستمرة فى الإلحاح :
* هذه فرصة لنغير الجو .. سنـُفسح الأولاد و نتناول عشاءً جيّداً .. سـنرى أصـهار الحاج ( عبد الفضيل ) و عـروس ( بـهاء ) الّتى تقول أمـّه أنّها تـشبه ( مـنّة شلبى ) بالضبط .. و لربما أكرمنا الله بعريس لـ ( عـلياء ) و .. و ..
إلحاح .. ثرثرة .. " زن " .. لزوجة .. صـداع ..
لم تـصدق نفسك هذه المرّة و أنت ترقبهم هى و أبناءكما ( يوسف ) و ( خالد ) و ( عـلياء ) – الأخيرة خلعت حجابها و بالغت فى التزين بإيعاز من أمها لأن مثل هذه الحفلات فرص مثاليّة لإجتذاب العرسان كما تعلم - من خلف زجاج النافذة يتخذون مواضعهم فى إحدى عربتىّ الميكروباص بجوار بقيّة الجيران .. أصـوات الثرثرة و ضحكات الأطفال.. تمر الدقائق بطيئة لزجة قبل أن تسمع أصـوات محركات العربتين ، ثم تتابع أضواءهما الخلفيّة و هى تبتعد فى الطريق الترابى المؤدى إلى الطريق السفلتى حتى تختفيا تماماً ..
تـتنفس الصـعداء ..
مركز ( ديــروط ) – الّذى يضم قـرية ( دشـلوط ) حيث تقيمون – هو آخـر مراكز محافظة ( أسـيوط ) ، تبدأ بعده مراكز محافظة ( المـنيا ) .. و المسافة بينه و بين مدينة ( أسـيوط ) لا تـقل عن الساعة و نصف الساعة .. ثلاثة ساعات ذهاباً و عودة ، بالإضافة إلى مالا يقل عن الساعات الأربـع تستغرقها حفلات الزفاف عادة بما تزخر به من زفـّة و أغانى و رقصات و بوفيه و .. و .. إلخ .. يصبح المجموع إذن سـبع ساعات من الصمت و الهدوء أنت فى أمس الحاجة لهما .. حمداً لله العلىّ القدير ..
تشعل سـيجارة .. تتأمّل البيت من حولك .. بيت قديم هو ، يرجع تاريخ بنائه إلى ما يزيد عن السـبعين عاماً .. تلك الأبـنية العتيقة ذوات الأسقف العالية و الحوائط الحجريّة و الشرفات الواسعة و النوافذ الضيّقة .. أنت محظوظ حقاً إذ ورثت هذا البيت القديم عن والدك الحاج ( حـامد الدميرى ) رحمه الله .. أين لك أن تجد مثله فى هذه الأيـّام الصعبة ..؟.. العيب الوحيد فيه هو بـعده النسبى عن العـمران .. لا يربطه بالطريق الأسفلتى سوى طريق ترابى طوله ثلاثة كيلومترات كاملة تقطعها مرتين يوميّاً مع زوجتك و عـيالك فى سيارتك ( البـيجو 504 ) .. المرّة الأولى صباحاً عندما تنقل العيال لمدارسهم – الولدين فى الثانويّة و الإعداديّة و البنت فى السنة الأخيرة من مدرسة التجارة المتوسطة - ثم تذهب أنت و زوجتك إلى عمليكما .. و المرّة الأخرى قبيل العصر عند العودة ..
أنت الآن بـمفردك .. أخيراً صرت بمفردك ..
...................................
...................................
تـنفث دخان السيجارة .. تخلع نعليك .. تسير حـافياً مستمتعاً ببرودة البلاط .. تتجوّل بتمهل بين حجرات البيت الأربـعة .. تتأمّلها كما لو كنت تراها للمرّة الأولى .. تتوقف للحظة أمام صـورة زفافك المثبتة إلى إحدى الجدران .. تتأمّـل الوجه الباسم لتلك الفتاة الشـابة النضرة الرافلة فى ثوب الزفاف الأبيض ، و يتقلص وجهك إذ يقارنه بفرس النهر الّتى صارته بعد عـام واحد من تاريخ إلتقاط الصورة .. لا تنس أنّك أنت أيضاً لم تعد ذلك الشاب القسيم النحيف الّذى يبتسم إلى جـوار عروسه فى بذلة داكنة .. أين ذهب شعر رأسك ..؟.. و ما هذا الكرش الكبير الّذى يتقدمك ..؟.. إنـّه الزمن يا صديقى ، و لا مفر من آثـار مروره ..
...................................
...................................
تنتقل عـيناك إلى البـرواز المجاور .. شهادة تقدير .. يتشرف قصر ثقافة ( أسـيوط ) بمنحها للشاعر ( مصطفى حامد الدمـيرى ) تقديراً لقصيدته المتميّزة ( لـون الفرحـة ) .. تنفث دخـان السيجارة .. متى كانت آخر مرّة قرضت فيها الشعر ..؟.. لم تعد تذكر .. بالواقـع أنت لم تقرض شعراً .. من كان يفعل هو شخص آخـر بعيد عنك كل البعد .. شخص ذو روح هفهافة خالية من الهموم لا تـرى من حولها إلا لون الخضرة المبتلّة بندى الفجر و لون مـياه الترعة إذ تصطبغ كل صباح بزرقة السماء .. بياض حبات الذرة الّذى يستحيل تدريجيّاً إلى الذهبى على نار الشواء .. سـواد شـعر ( جـميلة ) الفاحم كليل بلا قمر ..
...................................
...................................
أنت الآن بـمفردك .. أخيراً صرت بمفردك ..
طـلاء الحائط القديم تساقط فى أكـثر من موضع و بان من خلفه الحجر الّذى بـُنيَت منه الجدران .. البيت قديم فـعلاً .. و كل شبر منه يحمل رائحة ذكرى ما .. على هـذه الأريـكة القديمة كان يتمدد الحـاج ( حـامد الدميرى ) عقب عودته من الجمعيّة الزراعيّة .. شاربه الكث .. تجاعيد وجهه المنهك الصارم ، و رائحة العـرق الممتزجة برائحة السماد المنبعثة من ثيابه .. فى هذا الركن تجلس الحاجة ( فـهيمة ) رحمها الله لتعد القهوة على السبرتاية .. فى هذه الشـرفة وقفت مراراً تدخن السجائر و تراقب الغـروب و تكتب الشعر ..
هل كانت مراقبتك الدائمة للغروب تحمل إسـتبصاراً مّا لما ستُطبع عليه حياتك فيما بعد ..؟..
تتوقف أمام المرآة الدائـريّة المعلقة على الحائط .. تتأمـّل سطحها المتسخ المكسو بالعديد من البقع السـوداء .. غـريب هذا ..هل تتوهم أم أنَّ إنـعكاس صورتك على سطحها غير سليم بالفعل ..؟.. الجبهة عريضة جداً .. الأنف مدبب بشكل مبالغ .. الصـورة كلها شائهة بشكل يكاد يكون مضحك .. لـِمَ لا تشترى مـرآة أخـرى جديدة ..؟.. لـِمَ لا تـ ..
هنا سـاد الظلام بغتة ..
هدئ من روعك .. لماذا أجفلت ..؟.. مـجرد إنـقطاع للتيار الكهربائى كثيراً ما يحدث .. مـا الّذى أفـزعك إلى هذه الدرجة ..؟ .. الظـلام ..؟!!.. منذ متى تـخاف الظلام ..؟؟!!..
أعـلم أنّ هذا المنزل الواسـع الرحـب ، الخالٍي الآن من أى بنى آدم سـواك - بعد أن ذهب الجميع لحضور حفل الزفـاف – يبدو مثيراً للرهبة بعض الشئ .. و أعلم كذلك أنـّه واقـع فى منطقة نائية بعيدة عن العـمران ، و أنّ منظر الغـيطان المظلمة الممتدة على مرمى البصر أمام البناية يبعث الرجفة فى الأجساد .. و لكن ما شأنك أنت بكل هذا ..؟؟.. أنت الآن تجلس آمناً فى بيتك كما كنت أمس و أمس الأوّل و العام الماضى و الّذى قبله .. يالك من خـَرِف ..!..
تتربع على أريـكة والدك المفضلة .. و على ضوء القمر تعمل أصابعك ببراعة .. تنظف الجوزة و تثبت التخشينة جيّداً.. تـُشعِل حجراً و تجذب نَفَساً طويلاً يرتج له صدرك بالسعال .. كل شئ على ما يرام .. لا يتبقى سوى إضافة قرش الحشيش القابع فى جيب جلبابك العلوى ثم تسحب أنفاساً متتالية .. و تنفث سحباً متتالية من الدخان ..
برغم إنـقطاع التيّار إلا أنّ ضـوء القـمر القادم من النافذة يتيح لك رؤيـة جيّدة للمكان لا تخلو من شـاعريّة ما .. المشجب الضخم الموضوع بقرب الباب ( دوماً ما كان يبدو لك كشخص عملاق واقف يرمقك بثبات ) .. إنـعكاس النور الفضى على حـواف أوراق اللبلابة الممتدة من داخل الشـرفة لخارجها .. ذرات التراب السابحة فى الفـراغ تتداخل مع سحب الدخان البيضاء .. الصمت التام المطبق على المكان إلا من أصـوات بعض الحشرات الليليّة و نقيق الضفادع ..
تنفث المـزيد من سحب الدخان ..
( مـصطفى حامد الدميرى ) .. طالب الحقوق الشاب .. الشاعر الموهوب باعتراف العديد من الشـعراء و النـقاد .. الكلمات تتدفق من روحك حاملة تـيّارات من المشاعر الهادرة تغمر السامعين فتلتهب أكفهم بالتصفيق .. موهبة مشرقة و مستقبل واعد .. ( جـميلة ) تبتسم و ترمقك بإعجاب .. لا تتكلّم كثيراً ، و لكن عينيها السـوداويّتين تقولان الكثير .. الحاج ( الدمـيرى ) حانق .. هو لا يـحب الشعر و لا يراه ذى قيمة لأنـّه " لا يـؤكل العيش الحاف .. أدخـلت الحقوق لتصير وكيل نيابة محترم أم بيّاع كلام ..؟؟!! " .. الحـاجة ( فـهيمة ) تمصمص شفتيها متحسرة ..
...................................
...................................
كــرررييييييك ..
ماهـذا الصـوت ..؟..
صفير الـرياح ..؟.. لا طـبعاً .. أى نعم هـذا موسم الخماسين ، ولكن ليس هذا بصوت الرياح بالتأكيد .. هذا صـوت إصطدام شـئ ما قادم من إحـدى الغرف .. بالتحديد غرفة نـومك ..
أمـرك غريب حقاً يا صديقى .. ما سر هذا التوتر الّذى إنـتابك ..؟..شعر ذراعيك منتصب .. دقـات قلبك متسارعة .. لم أتـصَوّرك " خـفيفاً " إلى هذه الدرجة ..
لربما كان هذا فـأراً .. تعرف جيّداً أنّ الغيطان المجاورة للبيت تعج بالفئران و العـِرَس .. هل تخاف الفـئران ..؟.. لـِمَ لا تنهض و ترى بنفسك ..؟.. هـيّا .. ضع الجـوزة على المنضدة الخشبيّة المجاورة .. الظـلام ليس دامساً و قد إعتادته عيناك .. حاذر من الإصطدام بمسند المقعد الموضوع فى أوّل الردهة .. أنت تصطدم به دوماً فى النور فما بالك بالظلام .. تحسس بأصـابعك البوفيه الصغير الموضوع فى منتصف الردهة .. إجذب الدرج العلوى .. إسـحب الشمعة منه .. إشـعلها بالقداحة الراقدة فى جيب جلبابك .. شليك .. شليك .. الشمعة تتوهج بلهب أصفر .. ظلّك يرتسم على الحـائط بجوارك ..
ظـل ( جـميلة ) المرتسم على أرضـيّة الشارع كان بديعاً حـقاً .. واقـفين على سـور كورنيش ( أبـو قير ) بجوار عـمود الإضـاءة .. لو إقتصرت رحلة الجامعة إلى ( الإسـكندريّة ) على هذه اللحظة لكفت .. وجهها المستدير .. عيناها اللامعتان .. شـعرها الأسود الّذى يداعبه نسيم البحر برقة .. جسدها الضئيل المتناسق .. ضحكتها الفاتنة .. صـوت أمواج البحر .. الظل الرشيق لا يكف عن التواثب .. مشاعر العشق المحمومة تمتزج فى أعماقك بلذة المغامرة .. مغامرة تسللك من معسكر الأولاد للقاءها بعد منتصف الليل .. هل هـو حلم ..؟.. يا الله .. لماذا لم يتوقف الزمـن عند هذه اللحظة الفـردوسيّة .. ؟؟..
رُغـماً عنك تتذكر تلك الحكايات المرعبة الّتى يتناقلها الناس فى الآونـة الأخيرة عن مطاريد الجبل الّذين يهاجمون البيوت الآمنة ليلاً لسرقتها .. الحكاية قديمة جداً ، و لكنّها توقفت لفترة طويلة بعد أن شنّت الداخليّة حملات أمنيّة متتابعة إشتركت فيها أسلحة المدرعات و الطائرات الهليوكوبتر و مئات الجنود لمداهمة أوكار هؤلاء المجرمين فى الجبل ، وتمكنت من كسر شوكتهم و القضاء على خطرهم .. تمتع الأهالى بالأمـان لسنوات طويلة ، قبل أن تعاود القصص المخيفة الظهور من جديد .. موجة من الجرائم الوحشيّة فى بلدات و قرى عديدة منتشرة بامتداد الجبل .. مهاجمة بيوت .. سرقة ممتلكات .. قتل الرجال .. هتك أعـراض النساء .. خطف الأطفال .. ثم حرق البيوت قبل مغادرتها .. تـَذكرجيّداً تلك القشعريرة الّتى سرت فى بدنك و أنت تطالع صور جثث الضحايا فى مجلة ( أخـبار الحوادث ) و قد تم تشويهها و التمثيل بها على نحو بشع لا تُقدم عليه حتى الحيوانات المفترسة .. نفس هذه القشعريرة هى الّتى تسرى فى جسدك هذه اللحظة ..
تتقدّم فى الردهة المظلمة بـخطوات واجفة حاملاً الشمعة .. ما الّذى جعلك تتذكر هذه التفاصيل المفزعة الآن ..؟.. نسمة هواء تهب فيتراقص لهيب الشمعة .. تدنو من باب الحجرة مـفتوح ..
كــرررييييييك ..
تـجفل .. قلبك يدق بعنف .. تكاد تستدير لتعدو هارباً .. من أى شئ ..؟!!.. تعقل قليلاً يا رجـل .. ماذا أصابك ..؟.. كل هذا لأجـل فـأر ..؟!!.. تمالك نفسك قليلاً ..
خـُذ نفساً عميقاً لتسيطر على أعـصابك .. غـرفة نـومك بها شـرفة واحدة فسيحة تطل على الغيطان ، لها ضلفتان خشبيّتان و أخريتان زجاجيّتان .. ( ماجدة ) – لو تذكر ـ أوصدت الأخيرتين فقط قبل مـغادرتها حتى لا تتسرّب أتربة الخماسين إلى داخل الغرفة .. إرفـع الشمعة لأعلى كى ترى أكبر مساحة ممكنة .. هل ترى ..؟.. كل شئ فى موضعه .. السـرير الخشبى الضخم .. التسريحة .. الدولاب الهائل الّذى يحتل حائطاً كاملاً .. و الأهم .. ضـلفتا الشرفة الزجاجيّتين موصدتين كما تركتهما زوجتك ..
تـنفس الصعداء .. هل إطـمأننت الآن ..؟.. لو كانت الضلفتان مفتوحتين لقلت لك أنّ من حقك أن تقلق .. و لكن كما ترى .. جرب أن تجذب أكرة الضلفتين الموصدتين بإحكام .. كلينج كلينج .. كل شئ إذن على ما يرام .. كل شـ ..
لا .. إنتظر لحظة ..
دقق النـظر – على ضوء الشمعة - عبر زجاج الضلفة ..
من هذا الشخص الواقف فى ظلام الشرفة يحملق فيك بعينين حـمراويّتين كالدم ..؟؟..
...................................
...................................
عـندما كانت ( جـميلة ) تحادثك كانت تحدق فى عينيك مباشرة .. ذبذبات غير مرئيـّة تنبعث من حدقتيها تـلزمك بمزيج مدهش من الرقة و الحزم أن تتشرّب كلماتها .. تتكلّم فى موضوعات مختلفة .. الأدب الإنجليزى ( و كانت شغوفة به رغم دراستها العلميّة ) .. فيلم ( سـعاد حـسنى ) الجديد .. التاريخ .. زيـارة ( السـادات ) للكنيست الإسرائيلى ( كان وجهها عندئذ يتقلّص باشمئزاز و غضب يضفى عليها رغم كل شئ جمالاً من نوع خاص ) .. و كنت أنت تستمع إليها مبهوراً بهذا الطراز من الفتيات الّذى لا تجد مثله فى قريتك أو حتى محافظتك كلّها .. أيـن تعلمت كل هذا يا فتاة ..؟.. و كيف تواتيك يا ابنة ( القـاهرة ) تلك المقدرة الإيجابيّة الفذة – الّتى أفتقدها أنا الذكر القادم من الصعيد - على المبادرة .. ؟.. حتى القبلة الأولى هى الّتى بادرتك بها – لدهشتك و سعادتك - بين أشـجار حـديقة ( الأندلس ) .. لم تكن مـنحلّة .. و لكن مشاعرها ( و الّتى لم تكن أبداً هادئة ) كانت دوماً هى المحرك الرئيسى لها ..
...................................
...................................
عـندما يدنو الخطر منّا لدرجة تفاجئنا ، فـإن دور العـقل يتراجع ، و تصبح مشاعر الرعـب هى صاحبة القـرار .. هى الّتى تجـعلك ترتد بعنف إلى الخلف .. تشهق بفزع .. ترتطم بمقعد التسريحة و تسقط معه أرضـاً محدثاً جلبة .. الشمعة تسقط من يدك .. تنطفئ .. يسود الظلام .. الهلع يحكم سيطرته عليك .. تتراجع زاحفاً بحركات متشنجة .. تهب واقفاً و تهرع نحو باب الغرفة و أنت تصرخ .. تصطدم بالحائط مرّة قبل أن تعثر على فتحة الباب .. رغم سـنوات عمرك الّتى تقارب السـتّين تـعبر الردهة المظلمة كالعاصفة .. تصطدم بمسند المقعد إيـّاه ( ألم أحذرك ..؟ ) .. الألم يعصف بركبتك و لكنّك لا تبالى .. تبلغ المطبخ .. تـفتح الأدراج بعنف .. تنثر محتوياتها حتى تـعثر على تلك السـكين الضخمة .. تقبض عليها بقوّة و تقف لاهثاً للحظات ..
قـرأت – لو تذكر – تعليقاً لأحـد أسـاتذة الإجتماع عن تلك الجرائم الوحشيّة الّتى تـروع أهالى الريف .. كان الرجل يرى أنّ عـودة تلك الظاهرة راجـع إلى موجات الفقر المتتابعة الّتى عصفت بأغلب قطاعات الشعب المصرى ، و سحقت وطأتها الملايين ممن يـُعرَفوا بسكان العشوائيّات .. هؤلاء الملايين الّذين تعالت التحذيرات من أنّ الفقر و الجوع جعل منهم قنابل موقوتة و وحوشاً شـرسة متأهبة للإفـتراس فى أى وقت .. العرق يسيل على وجهك .. صدرك يعلو يهبط .. أحد هـذه الوحوش الشـرسة إذن يقف فى شرفة دارك متأهباً لإفـتراسك .. أحشاءك تتقلص من فرط الرعب ، و أصابعك تتقلّص لا إراديّاً على مقبض السـكين ..
" ( سـيّد ) بيه يا ( سـيّد ) بيه .. كـيلو اللحمة بقى بجـنيه " ..
" هـمّا بياكلوا لـحوم و فـراخ .. و احـنا بناكل العـيش الحـاف " ...
الهتافات تـدوى كالرعد فى السـماء .. الجـموع تـزحف بأعداد مـهولة .. الأمن يحاول أن يفعل شـيئاً ، و لكن الكتل البشرية الهائلة تكتسحه أمامها .. تطأه بالأحـذية .. إنـّها الإنتفاضة الحـقّة .. تذكر جـيّداً خـروجك من بـوّابة الجامعة محمولاً على أكـتاف زملائك .. الرؤوس من حـولك فى جميع الإتجاهات على مرمى البـصر .. تـهتف من أعـماقك ..
" ( سـيّد ) بيه يا ( سـيّد ) بيه .. كـيلو اللحمة بقى بجـنيه " ..
فـتهدر الأصـوات من آلاف الحـناجر مرددة هـتافك .. المظاهرة تجتاز كـوبرى الجامعة .. تطوف فى الشـوارع ..
" هـمّا بياكلوا لـحوم و فـراخ .. و احـنا بناكل العـيش الحـاف " ...
المبانى على جانبى الشـارع .. ترفع رأسـك .. الشرفات و النوافذ تعج بالنساء و الأطـفال .. الكل يهتف .. الكل يصرخ من أعـماقه ..
فيما بـعد سيلغى ( السـادات ) قـراره برفع الدعم عن السلع الأساسيّة .. سيردد كلاماً كثيراً عن المؤامرة الشيوعيّة و إنتفاضة الحراميّة .. سـتترك إنتفاضة يناير77 أثراً لا يزول فى نفس النظام ، و سيتعلّم بعدها ألا يسمح بأى صورة من صور الإحتجاج سلميّة كانت أو غير ذلك ..
و لكن ايـن أنت يا ( جـميلة ) فى كل هذا ..؟..
...................................
...................................
رجـفة لا إراديّة تسيطر على أصابع يدك اليمنى .. تنقل السكين إلى يدك الأخرى .. تشعر بمغص و رغبة عارمة فى التبرّز .. تصيخ السـمع ..
............
............
............
لا صـوت اللهم إلا صـفير رياح الخماسين القادم من الخارج .. تمسح قطرة ضخمة مزعجة من العرق على جبهتك .. أحقاً ما رأيت ..؟.. أنت متأكد من أنـّك لمحت أحدهم فى الشـرفة .. ملامحه مـخيفة و عينيه حمراويّتين .. كيف صعد إلى شـرفتك ..؟.. بسيطة .. تسلق شجرة المانجو المجاورة و وثب منها إلى الشرفة .. ماذا يريد ..؟.. أهـذا سـؤال ..؟!!.. هل تظنه جـاء ليدخن الحشيش معك ..؟!!.. بالتأكيد راقب البيت و عـَرِف أنّ جميع سكّانه غادروه فقرر أنّ الوقت مناسب للسطو عليه .. لابـُد أنّه بـوغت بوجودك كما فوجئت أنت بوجوده .. السـؤال هو : هل سـيقرر الإسـتمرار أم سيفر هارباً ..؟..
إسـتعاد ذهنك للحظة الصور البشعة الّتى شاهدتها فى المجلة لجثث ضحايا جرائم أولاد الليل .. القشعريرة من جديد .. لا تـخدع نـفسك .. هو لم يأتى ليـفر خاوى اليدين .. و بالتأكيد هو ليس وحـيداً .. ماذا بـيدك أن تفعل ليفكر فى الفـرار هو و من معه ( و هم الّذين قتلوا من قتلوا ) ..؟؟.. الحسبة بسيطة .. البيت ملئ بالمسروقات و الغنائم ( يكفى مصاغ زوجتك الموجود فى الدولاب ) .. هل نتركه و نـفر من أجل كهل لن يستغرق ذبحه ثانية واحدة ..؟؟.. يا الله .. لماذا لم تـذهب معهم إلى حفل الزفـاف بـ ( أسـيوط ) يا أحـمق ..؟..
كــرررييييييك ..
أقـام لك الحاج ( حامد الدمـيرى ) حفل زفاف ضخم بالفعل .. الرجل ليس فقيراً .. و أنت ابـنه الوحيد .. كل شيء تم بسرعة فائقة .. بمجرد الإفـراج عنك إصطحبك إلى الحـاج ( زيـدان أبو محمد ) شيخ البلد و طلب يد إبـنته ( مـاجدة ) لك ( و كان قد أقسم أن يزوجك بمجرد انتهاء القضيّة ) .. لا مشاكل هنالك .. الدار موجود .. و وظيفتك محجوزة فى الجمعيّة الزراعـيّة بمجرد إتمامك لعامك الدراسى الأخير ( كان قد إبتلع ضياع حلمه بتعيينك فى النيابة بعد إلقاء القبض عليك ) .. انطلقت الزغاريد .. دوت الطلقات الناريّة .. الحاج ( الدمـيرى ) يبدو سـعيداً منتشياً فى جـلباب جديد و عباءة سـوداء فاخرة .. يهرع ليرحب بالعمدة و مأمور المركز .. الفرقة تعزف .. الراقـصة تتمايل بخلاعة فيتصايح الحاضرون بحرارة .. أكواب الشربات أحمر اللون .. صـوانى الفتة و اللحم و الخضر مرصوصة على الموائد يسيل لها لعاب أهل البلد ( و قد دعاهم الحاج جميعاً ) .. فى النهاية تجد نفسك واقفاً فى غـرفة النوم .. عروسك تجلس خافضة رأسها و تبتسم بخجل .. بينما أهـليكما واقفين أسـفل البيت ينتظرون أن تقذف إليهم بالفوطة البيضاء المخضبة بالدمـاء ..
كــرررييييييك ..
إذن فهم فى غـرفة النـوم الآن .. لو أردت رأيى فعليك بالفرار .. أنت ببـُنيتك المترهلة و سنوات عمرك المقاربة للستين لا قدرة لك على التصدى لهم .. صحيح أنّـك تملك مسدساً مرخصاً ، و لكنّه فى دولاب غرفتك .. و لعلهم عـثروا عليه الآن بينما يـفتشون الغرفة .. إهـرب يا رجل و لاتـُضع وقتاً .. إحتفظ بالسكين بين أصابعك .. أخـفِض رأسك .. ازحـف على يديك و ركبتيك نحو باب غرفة الصـالون المجاورة ( هل نسيت أنّ بها باباً يفضى إلى خارج الشقة ..؟ ) .. حذار أن تصدر صوتاً .. لحسن الحظ أنّ الظلام يسود البيت ..
كــرررييييييك .. كــرررييييييك ..
تمالك نفسك و تابع الزحف .. غريب هذا .. مـاداموا قد دخلوا الشقة ، فلماذا لم يهتموا بك و قد رآك أحدهم ..؟.. لا تتوقف أو تنظر خلفك .. لربما هم مشغولون أكثر بـسرقة الأموال و المصاغ من الدولاب .. يا أولاد الكلاب .. لو نجانى الله – تـفكر- فلن أدعكم تهنأون بمالى .. صبراً .. أنا لى صلات كثيرة و ...
شششش .. ألن تتوقف عن الحماقة للحظة واحدة ..؟!.. أنت فى مأزق حقيقى .. لو عـثروا عليك فلن يتركوك حيـّاً لترشد البوليس إليهم .. سـيقتلونك و يمزقوا جـثتك كما فعلوا مع أصحاب الجثث الّتى شاهدتها فى المجلة ... هـيّا .. تحسس حائط غـرفة الصالون .. إستند إلى مسند الأريكة و انهض ببطء دون أن تـُحدث صوتاً .. هـو ذا الرتاج .. إفـتح الباب و غادر الشـقة ..
كــرررييييييك .. كــرررييييييك ..
تـباً .. الباب موصد بالمفتاح .. لا .. تماسك يا رجل و لا تـَنهر .. حياتك متوقفة على قدرتك على التفكير فى اللحظات التالية .. حاول أن تتذكر معى أيـن تترك سلسلة مفاتيحك .. على المنضدة الّتى تتوسط الصالة ..؟.. مممم .. موضع واضح يـُمـَكِنـَهم من رؤيتك بسهولة .. و لكن ليس أمامنا غير المحاولة ، لأنّ بقاءك فى موضعك خطر داهـم .. انتهز فـرصة انشغالهم بنهب محتويات دولاب غرفة نومك و إلتقط مفاتيحك ثم إهـرب بأقصى سرعة ..
ألـق نظرة عبر باب الصـالون نصف المفتوح .. الصـالة غارقة فى الظلام إلا من نـذر من ضوء القمر قادم من الشـرفة .. لا أحد هنالك رغم ضجيجهم القادم من غرفة النـوم .. هيا .. إقـرأ قول الله تعالى ( و جعلنا من بين أيديهم سـداً و من خلفهم سـداً فأغـشيناهم فهم لا يـبصرون ) .. هـيّا .. توكل على الله ..
أخـفض رأسك .. هل مازلت تحتفظ بالسكين ..؟.. حسناً .. لا تـحدث صـوتاً .. تحرّك بخفة على أطـراف أصابعك .. هاهى سـلسلة المفاتيح كما تركتها بجوار الجوزة على المنضدة ..
ضاعت قـطعة الحشيش ..؟!!.. يخرب بيتك .. أهـذا وقته ..؟!!..
إلـتقطها بخفة .. حـِذار أن تـُحدث صـليلاً .. باب الشـقة قريب .. تراجع بحذر ...
كــرررييييييك .. كــرررييييييك ..
بــوووم .. بــوووووووم ...
يا الله .. إنـهم قادمون .. أسـرع يا رجل .. الباب على قيد خطوات منك .. لو أمـسكوا بك فلن يرحموك .. أسـ ..
احـــترس .. أحــدهم خلفك ..
يالضخامته .. الظــلام يـخفى وجهه تماماً ...
طـوح السـكين .. إطـعنه ..
يــتهاوى أرضاً بعد أن أصـابته الطـعنة ..
اهـرب .. أيـن البـاب ..؟.. من هـنا ..
لا .. حــاسب .. هناك من يـسد الطـريق ..
يالبشـاعته .. جبهة عريضة جداً .. أنف مدبب بشكل مبالغ .. ملامح شائهة ..
ضـابط المباحث يرمقك بقسوة .. " هل ستعاوننا أم لا ..؟ " .. لا تـملك خياراً .. الغريب أنّ مقاومتك إنـهارت بعد بضعة صـفعات فقط .. و كنت تظن أنـّك أقـوى من ذلك بكثير .. قـرأت بعد ذلك أنّ الصفعة الأولى تدمر تراثاً هائلاً من الكرامة و إحترام النفس .. هذا حق .. أنت الآن على إسـتعداد للتضحية بأبـيك ذاته - و ليس ( جـميلة ) و رفاقها فحسب - كى تغادر هذا الجحيم ..
إهـرب نحو الشــرفة .. لا .. لا .. إحـترس .. أحـدهم يندفع نـحوك من الشرفة حاملاً سـلاحاً حاداً يلمع فى ضـوء القـمر ..
الأسـتاذ ( مصطفى حامد الدمـيرى ) مدير الجمعيّة الزراعـيّة و عضو المجلس المحلى بمركز ( ديـروط ) .. هذا هو منصبك الرسمى الّذى يمنحك نفوذاً قـويّاً فى البلد .. لا أحد يتساءل عن مصدر ثراءك ، فالكل يعلم أنـّك ورثت طـيناً عن أبـيك .. و الكل كذلك يعلم بالأموال الطائلة الّتى تجنيها من وراء بيع أسـمدة الجمعيّة الزراعيّة فى السـوق السـوداء .. و لكن من يجرؤ على الكلام ( و أنت عضو الحزب القوى صاحب الصلات النافذة ) ..؟؟...
أحـاطوا بـك .. لاااااا ..
تـراجع بسرعة .. احـترس .. المـنضدة خــلفـ ...
بــــووووم
ألم عـنيف يـنتشر فى رأسـك .. ما هذا البلل الدافئ ..؟.. دمـاء ..؟.. يا الله .. إنـها دمـاءك ..
ضـوء القمر يتلاشى من أمامك تدريـجيّاً ..
الظـلام الآن دامـس تماماً ..
...................................
...................................
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
أخــيراً ..
انـصرف الضيوف الّذين جاءوا لمجاملتك و الإطمئنان على صحتك ..
خلا البيت من جموعهم .. أوى الأولاد إلى مضاجعهم .. انـتظمت أنـفاس ( مـاجدة ) النائمة بجوارك على الفـراش .. تتقلّب لتتخذ وضعاً أكـثر راحة .. تتحسس الضمادات المحيطة برأسك .. تنفث دخان السيجارة المشتعلة بين أصـابعك ..
كــرررييييييك .. كــرررييييييك ..
يـجب أن تتذكر غداً أن تجلب أحـداً ليقطع أغـصان شجرة المانجو القريبة من ضلفتىّ الشرفة الخشبيّتين لما يسببه إحتكاك هذه الأغـصان بالضلفتين من ضجيج مزعج ..
الآن يـمكنك تخيل صـورة لما حدث فى تلك الليلة ..
لقد كنت أحـمق بالفعل يا صديقى .. رغم أنّك ستدخل عقدك السابع قريباً إن شاء الله إلا أنـّك مازلت تخشى البـقاء وحيداً .. بـمجرّد أن غادرك من حولك ، و انـقطع عنك التيار الكهربى بدأت تهلوس ..
لا شك أن للحشيش الّذى كنت تدخنه دوراً مـا ..
المـخاوف الّتى سيطرت عليك عندما ذهبت لتبحث عن مصدر الصـوت القادم من غرفة نومك منعتك من إدراك حقيقة بسيطة و هى أنّ الشخص الّذى رأيته يحملق فيك من الشـرفة لم يكن سـوى انعكاس لصورتك على زجاج الضلفة .. كنت لتلاحظ ذلك لولا أنّ الهلع الحيوانى الّذى سيطر عليك لم يمنحك الفرصة .. شل عقلك تماماً و دفعك للفرار ..
كذلك الأشـخاص الّذين أحـاطوا بك فى الصـالة .. أحدهم هو إنـعكاس صورتك فى المرآة ذات الإنـعكاسات المختلة ..
" الجبهة عريضة جداً .. الأنف مدبب بشكل مبالغ .. الصـورة كلها شائهة بشكل يكاد يكون مضحك .. لـِمَ لا تشترى مـرآة أخـرى جديدة ..؟ "..
و الآخـر هو إنـعكاس صـورتك على زجاج ضلفة شرفة الصالة و أنت تندفع نحوها حاملاً سـكين المطبخ ..
" إحـترس .. أحـدهم يندفع نـحوك من الشرفة حاملاً سـلاحاً حاداً يلمع فى ضـوء القـمر " ..
الحكاية كلّها إذن لا تعدو أنّ مجموعة من الهلاوس إنتابتك لبقاءك وحيداً فى الظلام .. و لو تقمصنا دور أساتذة علم النفس لقلنا أنـّك لم تكن تواجـه سوى نفسك .. و يبدو أنـّك فى جزء من أعمق أعماقك غير راضٍ عنها .. تمقتها .. تشمئز منها .. تـخافها بشدة .. لذا فـَزِعت من مواجهتها عند إنـفرادك بها – للمرّة الأولى منذ زمن طويل - بعيداً عن المحيطين بك ...
لا تبتئِس .. حل مشكلتك بسيط يا صديقى .. فقط حـاول أن تنسى زمـان و أيـّام زمـان .. أنت اخترت حياتك بنفسك فابتعد تماماً عن الماضى .. و الأهـم ..
تـجنّب بشدة .. أن تـبقى وحـدك فى المنزل