قضيتنا
بين الغزو الشرقي والغزو الغربي
الشيخ الدكتور طه حامد الدليمي
المشرف العام لموقع القادسية الثالثة
(5)
محددات القضية
حجم المشكلة وواقعيتها
أمران اثنان مقترنان يجب أن يؤخذا بنظر الاعتبار من أجل تحديد القضية هما:
1.حجم المشكلة في نفسها.
ونعني به أن الاهتمام ينبغي أن ينصب على أكبر وأخطر مشكلة من بين المشاكل المطروحة على طاولة النقاش لتكون هي المرشحة لأن تأخذ عنوان القضية، والمحور الذي يدور حوله العمل الإصلاحي المطلوب.
2.الواقعية
ونعني بها شيئين: المكان والإمكان. أي أن تكون المشكلة الكبرى موجودة فعلاً في الواقع أو المكان، وأن يكون علاجها ممكناً، وليس مستحيلاً في الإمكان. وإلا لم تكن هي القضية، بل موضوعاً نظرياً أو فكرياً مجرداً.
إن الموازنة بين حجم المشكلة أو المسألة وواقعيتها في معادلة (القضية) تفرض أن تكون (القضية) هي أكبر مشكلة ممكنة الحل، أو مسألة ممكنة التحقيق في الظرف المعين، وليست هي الأكبر من حيث الإطلاق والتجريد عن (المكان والإمكان).
فإن كانت المشكلة في ذاتها كبيرة، لكن المجتمع لا يعاني منها، فلا يصح أن تكون هي (القضية). إنما (القضية) هي المشكلة التي يعاني منها المجتمع حقيقة، وإن كانت أقل حجماً في ذاتها. وقد يعاني المجتمع من مشاكل متعددة فأكبرها يتوجه إليه الاهتمام، وتكون هي (القضية) التي تحتل المركز أو المحور، وتتوزع بقية المشاكل حول المحور قريبا أو بعيدا حسب حجمها وإمكانية تحقيقها ضمن المدى المنظور. ولهذا اختلف الأنبياء عليهم السلام في قضاياهم.
بل نجد ما هو أبلغ حين ننظر إلى واقعين أو مكانين مختلفين في زمن واحد لنرى أن القضية تختلف في دعوة واحدة لنبي واحد تبعاً لاختلاف المكان والإمكان! وهذا ما حصل لمهاجري الحبشة، إذ اختلفت دعوة النجاشي في الحبشة - ومعه المهاجرون - في محورها عن محور اهتمام دعوة النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة: ففي الوقت الذي كان اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم منصباً فيه على الأعداء والجهاد من أجل نشر الإسلام، كان اهتمام النجاشي منصباً على كيفية الحفاظ على سلامة المهاجرين في بلده الذي لم يكن من واجبهم الدعوة إلى الإسلام في ذلك البلد، فضلاً عن القتال أو الجهاد في سبيل هذه القضية. ولو جعلوا من ذلك قضية لهم – كما هو شأن الرسول صلى الله عليه وسلم في بلده - لقضي عليهم أجمعين. هل هناك اعظم من قضية يحملها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ كلا ، ولكن اختلاف المكان والإمكان - رغم وحدة الزمان - جعل الفريقين يختلفان في (القضية).
وإن من المسائل ما هي كبيرة أو عظيمة في ذاتها، ولكنها غير ممكنة التحقيق في المكان المعين فهذه لا تصلح أن تكون محور الاهتمام والحركة، أي لا تصلح أن تكون هي (القضية) في اللحظة أو الظرف المعين. مثلاً: تحكيم الشريعة الإسلامية مسألة عظيمة لكنها غير ممكنة التحقيق – في المدى المنظور - في أمريكا أو فرنسا؛ فلا ينبغي أن تكون هي (القضية) المحورية في مثل هذين البلدين. ولذلك لم يكن في حساب النجاشي صلى الله عليه وسلم يومذاك أن يحكم الشريعة الإسلامية أو يكون في الحبشة حكم إسلامي، ولا أراد منه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك. ولقد بلغ نبي الله يوسف عليه السلام رتبة الوزير في دولة مصر لكنه لم يسع إلى تحقيق مثل هذا الهدف.
القضايا جماعية وفردية
ومنها ما يمكن أن نسميه بالقضايا الجماعية. وهي القضايا التي تحتاج إلى جماعة أو دولة من اجل إنجازها. فلا ينبغي أن يطالب الأفراد بتبنيها عملياً. وإلا فإن الأمر لا يعدو أن يكون نوعاً من العبث أو الخيال الجميل غير المستند إلى ارض الواقع. وأهل النظر يقولون: (يسع الفرد ما لا يسع الجماعة، ويسع الجماعة ما لا يسع الفرد).
إن هذا يلزمنا بالتفريق بين القضايا الفردية والقضايا الجماعية: فنشغل الأفراد بما يناسبهم من قضايا ممكنة التحقيق بالنسبة للأفراد، ونترك القضايا الأخرى التي لا يمكن تحقيقها من قبلهم كأفراد؛ لأنها ذات طبيعة جماعية. وأقصد بالإشغال والترك الناحية العملية فقط . أما الناحية النظرية والتثقيفية فلها شأن آخر. أي مطلوب منا أن نثقف الأفراد – بالمقدار المناسب - بما يتعلق بالقضايا الجماعية، على أن نكون واعين بالفرق بين ما هو عملي من القضايا وما هو نظري فكري تثقيفي. ومن دون هذا التفريق تصاب الدعوات بالترف والترهل الفكري، وتنتهي إلى العجز والجمود والانعزال عن الواقع، وعدم تحسس الآلام الحقيقية للجمهور. والسبب أنها قد تسرف في الحديث عن مسائل جماعية مع أنها تخاطب أفراداً عاجزين عن التفاعل عملياً معها. كما فعل صاحبنا المحاضر حين خاطبنا في نهاية المحاضرة ونحن في المسجد فقال: إن أول عمل مطلوب منا أن نحمي بيت المقدس من عمليات الهدم والحفر التي تجري تحته. ثم ركب سيارته وانطلق إلى بيته فكان ذلك أول عمل قام هو به! وقد مر ذكرها. فإشغال الجمهور بالحديث عن العولمة – مثلاً - والماسونية والغزو الغربي ومآسي المسلمين في الشيشان وكشمير…الخ من المسائل المشابهة نوع من الترف الفكري المخالف للمنهج الإسلامي الواقعي. ونوع من الهروب المقنع من الواقع أو الذهول اليائس عنه. وهو ليس أكثر من حركة في فراغ أو قفز عمودي فوق نقطة واحدة وهدر للطاقات وقتل للوقت أو تبذيره فيما يتصور أنه مجد ومطلوب. وحين أقول: (إشغال الجمهور بالحديث) لا أقصد مجرد الحديث الذي به يحصل العلم، وتتكون الثقافة، ويعبر به المسلم عن مشاعره وإسلامه تجاه قضايا أمته، فإن هذا واجب. ولكن أقصد تركيز الحديث بحيث تتحول هذه المسائل إلى (قضايا) في واقع غير واقعها.
إن القوى المنظمة القادرة على علاج هذه المسائل - كالدولة - من حقها أن تجعل لها من الاهتمام ما يوازيها؛ لأن هذا الاهتمام ممكن بالنسبة لها أن يتحول إلى فعل إيجابي وواقع متحرك. أما الآخرون فمن الأجدى لهم أن ينصرفوا إلى الاهتمام بما يمكن تحقيقه بالنسبة إليهم، وإلا فإن من العبث أن يشغل الإنسان نفسه بعمل زائد عن الحاجة. إلا إذا كان يعاني من البطالة فهو يبحث له عن عمل يقتل به فراغه! ودعاة الحق أسمى من أن يكونوا كذلك.
إن اهتمام الدولة - عندما كانت عندنا دولة، وهذا الكلام كتب قبل زوالها - بالتثقيف ضد أمريكا والصليبية واليهودية والعولمة والغزو العربي ينبغي أن يكون حافراً للآخرين إلى أن يوفروا جهودهم لقضايا أخرى عملية أجدى وأنفع على المستوى العملي لأن هذه الموضوعات تدخل ضمن باب القضايا الجماعية، وتحويل الحديث عنها إلى فعل إيجابي غير ممكن مع الفردية. ومن شروط (القضية) أن تكون عملية واقعية ممكنة الحل أو التحقيق.
لا بأس أن تأخذ هذه المسائل حيزاً من اهتمامنا بالقدر المناسب. على أن لا نعتقد إن اهتمامنا هذا يجعلنا أصحاب (قضية) لا سيما إذا استحضرنا أن الإسلام دين العمل والواقعية وليس دين الفكر المجرد.
إن واقعنا وواقعيتنا و (نجاشيتنا) تفرض علينا أن يكون محور قضيتنا غير هذه المسائل التي قد تكون قريباً من ذلك المحور أو تبتعد قليلاً أو كثيراً. وقد يأتي يوم أو ظرف تزحف إحداها حتى تحتل المركز وتكون هي (القضية) في اللحظة والموقع المعين. فما صلح في مكان وزمان معينين قد لا يصلح حين يفترق المكان وإن حصل الاتحاد في الزمان. والعكس صحيح أي حين يتحد المكان ويفترق الزمان.
ملاحظة :
كتبت هذا قبل أكثر من ثماني سنين. حين كنت أشاهد بعيني ما عليه عامة الدعاة في العراق من ترف فكري، وتنظير تجريدي، واهتمام بقضايا بعيدة عن الواقع. لقد كانوا منصرفين عن المعاناة الواقعية، وذاهلين عن النظر إلى (القضية) الحقيقية، متناسين أن المشكلة الكبرى في بلد مثل العراق هي مشكلة من حيث الأساس مشكلة طائفية (شيعية – سنية)، وأن الخطر أصله شرقي لا غربي. وبدلاً من ذلك كانوا يسرفون في الحديث عن (العولمة) و(الماسونية)، والصليبية وأمريكا و(المنظومة الفكرية الغربية) دون أي توازن وإعطاء كل مسألة مستحقها الموزون من الاهتمام. لقد كنت أعاني من هذه المفارقة بمرارة، وأعبر عنها أحياناً تعبيرات ساخرة. قلت مرة في درس جانبي لبعض طلبة العلم: كفانا كلاماً عن (العولمة)! قالت (العولمة) وحكت (العولمة).. هل تدرون أن المتكلم إذا كرر المقطع الأول من الكلمة (عو) عدة مرات ماذا تكون؟ وماذا هو يكون؟!!!
ولك أن تلاحظ جيداً هذه العبارة التي كتبتها يومذاك: (وقد يأتي يوم أو ظرف تزحف إحداها حتى تحتل المركز وتكون هي (القضية) في اللحظة والموقع المعين). لقد جاء هذا اليوم واحتل العراق من قبل العولميين والصليبيين والمنظومة الغربية كلها، فإذا بنا نفاجأ بأولئك المتعولمين وقد جاء يومهم، ودخل عليهم العدو العولمي بيوتهم: يصافحونه بالأحضان، ويتبادلون معه الابتسامات والقُبَل! بينما الواجب في حقهم أن يجردوا أيديهم وألسنتهم لمقاومة هذا العدو الذي طالما صدعوا رؤوسنا بالحديث عنه؛ فثبت قطعاً ما كنت أظنه حديث من (يعاني من البطالة فهو يبحث له عن عمل يقتل به فراغه)! وتمر الأيام فتكون لهم وسائل إعلام، فإذا هي تسوق خطوة خطوة للعولمة التي كانو يحذروننا منها، وتصدر للجمهور شيئاً فشيئاً إسلاماً أمريكانياً حسب المقاس العولمي!!!
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
23 تموز2009
بين الغزو الشرقي والغزو الغربي
الشيخ الدكتور طه حامد الدليمي
المشرف العام لموقع القادسية الثالثة
(5)
محددات القضية
حجم المشكلة وواقعيتها
أمران اثنان مقترنان يجب أن يؤخذا بنظر الاعتبار من أجل تحديد القضية هما:
1.حجم المشكلة في نفسها.
ونعني به أن الاهتمام ينبغي أن ينصب على أكبر وأخطر مشكلة من بين المشاكل المطروحة على طاولة النقاش لتكون هي المرشحة لأن تأخذ عنوان القضية، والمحور الذي يدور حوله العمل الإصلاحي المطلوب.
2.الواقعية
ونعني بها شيئين: المكان والإمكان. أي أن تكون المشكلة الكبرى موجودة فعلاً في الواقع أو المكان، وأن يكون علاجها ممكناً، وليس مستحيلاً في الإمكان. وإلا لم تكن هي القضية، بل موضوعاً نظرياً أو فكرياً مجرداً.
إن الموازنة بين حجم المشكلة أو المسألة وواقعيتها في معادلة (القضية) تفرض أن تكون (القضية) هي أكبر مشكلة ممكنة الحل، أو مسألة ممكنة التحقيق في الظرف المعين، وليست هي الأكبر من حيث الإطلاق والتجريد عن (المكان والإمكان).
فإن كانت المشكلة في ذاتها كبيرة، لكن المجتمع لا يعاني منها، فلا يصح أن تكون هي (القضية). إنما (القضية) هي المشكلة التي يعاني منها المجتمع حقيقة، وإن كانت أقل حجماً في ذاتها. وقد يعاني المجتمع من مشاكل متعددة فأكبرها يتوجه إليه الاهتمام، وتكون هي (القضية) التي تحتل المركز أو المحور، وتتوزع بقية المشاكل حول المحور قريبا أو بعيدا حسب حجمها وإمكانية تحقيقها ضمن المدى المنظور. ولهذا اختلف الأنبياء عليهم السلام في قضاياهم.
بل نجد ما هو أبلغ حين ننظر إلى واقعين أو مكانين مختلفين في زمن واحد لنرى أن القضية تختلف في دعوة واحدة لنبي واحد تبعاً لاختلاف المكان والإمكان! وهذا ما حصل لمهاجري الحبشة، إذ اختلفت دعوة النجاشي في الحبشة - ومعه المهاجرون - في محورها عن محور اهتمام دعوة النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة: ففي الوقت الذي كان اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم منصباً فيه على الأعداء والجهاد من أجل نشر الإسلام، كان اهتمام النجاشي منصباً على كيفية الحفاظ على سلامة المهاجرين في بلده الذي لم يكن من واجبهم الدعوة إلى الإسلام في ذلك البلد، فضلاً عن القتال أو الجهاد في سبيل هذه القضية. ولو جعلوا من ذلك قضية لهم – كما هو شأن الرسول صلى الله عليه وسلم في بلده - لقضي عليهم أجمعين. هل هناك اعظم من قضية يحملها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ كلا ، ولكن اختلاف المكان والإمكان - رغم وحدة الزمان - جعل الفريقين يختلفان في (القضية).
وإن من المسائل ما هي كبيرة أو عظيمة في ذاتها، ولكنها غير ممكنة التحقيق في المكان المعين فهذه لا تصلح أن تكون محور الاهتمام والحركة، أي لا تصلح أن تكون هي (القضية) في اللحظة أو الظرف المعين. مثلاً: تحكيم الشريعة الإسلامية مسألة عظيمة لكنها غير ممكنة التحقيق – في المدى المنظور - في أمريكا أو فرنسا؛ فلا ينبغي أن تكون هي (القضية) المحورية في مثل هذين البلدين. ولذلك لم يكن في حساب النجاشي صلى الله عليه وسلم يومذاك أن يحكم الشريعة الإسلامية أو يكون في الحبشة حكم إسلامي، ولا أراد منه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك. ولقد بلغ نبي الله يوسف عليه السلام رتبة الوزير في دولة مصر لكنه لم يسع إلى تحقيق مثل هذا الهدف.
القضايا جماعية وفردية
ومنها ما يمكن أن نسميه بالقضايا الجماعية. وهي القضايا التي تحتاج إلى جماعة أو دولة من اجل إنجازها. فلا ينبغي أن يطالب الأفراد بتبنيها عملياً. وإلا فإن الأمر لا يعدو أن يكون نوعاً من العبث أو الخيال الجميل غير المستند إلى ارض الواقع. وأهل النظر يقولون: (يسع الفرد ما لا يسع الجماعة، ويسع الجماعة ما لا يسع الفرد).
إن هذا يلزمنا بالتفريق بين القضايا الفردية والقضايا الجماعية: فنشغل الأفراد بما يناسبهم من قضايا ممكنة التحقيق بالنسبة للأفراد، ونترك القضايا الأخرى التي لا يمكن تحقيقها من قبلهم كأفراد؛ لأنها ذات طبيعة جماعية. وأقصد بالإشغال والترك الناحية العملية فقط . أما الناحية النظرية والتثقيفية فلها شأن آخر. أي مطلوب منا أن نثقف الأفراد – بالمقدار المناسب - بما يتعلق بالقضايا الجماعية، على أن نكون واعين بالفرق بين ما هو عملي من القضايا وما هو نظري فكري تثقيفي. ومن دون هذا التفريق تصاب الدعوات بالترف والترهل الفكري، وتنتهي إلى العجز والجمود والانعزال عن الواقع، وعدم تحسس الآلام الحقيقية للجمهور. والسبب أنها قد تسرف في الحديث عن مسائل جماعية مع أنها تخاطب أفراداً عاجزين عن التفاعل عملياً معها. كما فعل صاحبنا المحاضر حين خاطبنا في نهاية المحاضرة ونحن في المسجد فقال: إن أول عمل مطلوب منا أن نحمي بيت المقدس من عمليات الهدم والحفر التي تجري تحته. ثم ركب سيارته وانطلق إلى بيته فكان ذلك أول عمل قام هو به! وقد مر ذكرها. فإشغال الجمهور بالحديث عن العولمة – مثلاً - والماسونية والغزو الغربي ومآسي المسلمين في الشيشان وكشمير…الخ من المسائل المشابهة نوع من الترف الفكري المخالف للمنهج الإسلامي الواقعي. ونوع من الهروب المقنع من الواقع أو الذهول اليائس عنه. وهو ليس أكثر من حركة في فراغ أو قفز عمودي فوق نقطة واحدة وهدر للطاقات وقتل للوقت أو تبذيره فيما يتصور أنه مجد ومطلوب. وحين أقول: (إشغال الجمهور بالحديث) لا أقصد مجرد الحديث الذي به يحصل العلم، وتتكون الثقافة، ويعبر به المسلم عن مشاعره وإسلامه تجاه قضايا أمته، فإن هذا واجب. ولكن أقصد تركيز الحديث بحيث تتحول هذه المسائل إلى (قضايا) في واقع غير واقعها.
إن القوى المنظمة القادرة على علاج هذه المسائل - كالدولة - من حقها أن تجعل لها من الاهتمام ما يوازيها؛ لأن هذا الاهتمام ممكن بالنسبة لها أن يتحول إلى فعل إيجابي وواقع متحرك. أما الآخرون فمن الأجدى لهم أن ينصرفوا إلى الاهتمام بما يمكن تحقيقه بالنسبة إليهم، وإلا فإن من العبث أن يشغل الإنسان نفسه بعمل زائد عن الحاجة. إلا إذا كان يعاني من البطالة فهو يبحث له عن عمل يقتل به فراغه! ودعاة الحق أسمى من أن يكونوا كذلك.
إن اهتمام الدولة - عندما كانت عندنا دولة، وهذا الكلام كتب قبل زوالها - بالتثقيف ضد أمريكا والصليبية واليهودية والعولمة والغزو العربي ينبغي أن يكون حافراً للآخرين إلى أن يوفروا جهودهم لقضايا أخرى عملية أجدى وأنفع على المستوى العملي لأن هذه الموضوعات تدخل ضمن باب القضايا الجماعية، وتحويل الحديث عنها إلى فعل إيجابي غير ممكن مع الفردية. ومن شروط (القضية) أن تكون عملية واقعية ممكنة الحل أو التحقيق.
لا بأس أن تأخذ هذه المسائل حيزاً من اهتمامنا بالقدر المناسب. على أن لا نعتقد إن اهتمامنا هذا يجعلنا أصحاب (قضية) لا سيما إذا استحضرنا أن الإسلام دين العمل والواقعية وليس دين الفكر المجرد.
إن واقعنا وواقعيتنا و (نجاشيتنا) تفرض علينا أن يكون محور قضيتنا غير هذه المسائل التي قد تكون قريباً من ذلك المحور أو تبتعد قليلاً أو كثيراً. وقد يأتي يوم أو ظرف تزحف إحداها حتى تحتل المركز وتكون هي (القضية) في اللحظة والموقع المعين. فما صلح في مكان وزمان معينين قد لا يصلح حين يفترق المكان وإن حصل الاتحاد في الزمان. والعكس صحيح أي حين يتحد المكان ويفترق الزمان.
ملاحظة :
كتبت هذا قبل أكثر من ثماني سنين. حين كنت أشاهد بعيني ما عليه عامة الدعاة في العراق من ترف فكري، وتنظير تجريدي، واهتمام بقضايا بعيدة عن الواقع. لقد كانوا منصرفين عن المعاناة الواقعية، وذاهلين عن النظر إلى (القضية) الحقيقية، متناسين أن المشكلة الكبرى في بلد مثل العراق هي مشكلة من حيث الأساس مشكلة طائفية (شيعية – سنية)، وأن الخطر أصله شرقي لا غربي. وبدلاً من ذلك كانوا يسرفون في الحديث عن (العولمة) و(الماسونية)، والصليبية وأمريكا و(المنظومة الفكرية الغربية) دون أي توازن وإعطاء كل مسألة مستحقها الموزون من الاهتمام. لقد كنت أعاني من هذه المفارقة بمرارة، وأعبر عنها أحياناً تعبيرات ساخرة. قلت مرة في درس جانبي لبعض طلبة العلم: كفانا كلاماً عن (العولمة)! قالت (العولمة) وحكت (العولمة).. هل تدرون أن المتكلم إذا كرر المقطع الأول من الكلمة (عو) عدة مرات ماذا تكون؟ وماذا هو يكون؟!!!
ولك أن تلاحظ جيداً هذه العبارة التي كتبتها يومذاك: (وقد يأتي يوم أو ظرف تزحف إحداها حتى تحتل المركز وتكون هي (القضية) في اللحظة والموقع المعين). لقد جاء هذا اليوم واحتل العراق من قبل العولميين والصليبيين والمنظومة الغربية كلها، فإذا بنا نفاجأ بأولئك المتعولمين وقد جاء يومهم، ودخل عليهم العدو العولمي بيوتهم: يصافحونه بالأحضان، ويتبادلون معه الابتسامات والقُبَل! بينما الواجب في حقهم أن يجردوا أيديهم وألسنتهم لمقاومة هذا العدو الذي طالما صدعوا رؤوسنا بالحديث عنه؛ فثبت قطعاً ما كنت أظنه حديث من (يعاني من البطالة فهو يبحث له عن عمل يقتل به فراغه)! وتمر الأيام فتكون لهم وسائل إعلام، فإذا هي تسوق خطوة خطوة للعولمة التي كانو يحذروننا منها، وتصدر للجمهور شيئاً فشيئاً إسلاماً أمريكانياً حسب المقاس العولمي!!!
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
23 تموز2009