دمشق
تعد مدينة دمشق عاصمة الجمهورية العربية السورية أقدم مدينة في العالم ما تزال عامرة حتى اليوم. وقد سكنها الإنسان منذ الألف الثانية قبل الميلاد، ومن ذلك الوقت ظلت مركز حياة مدنية مزدهرة.
ورد ذكر المدينة في رسائل تل العمارنة التي تعود إلى القرن الرابع عشر ق.م باسم دمشقا، والمرجح أن أصل التسمية آرامي وهو "مشق" تتقدمه دال النسبة ومعنى العبارة "الأرض المزهرة أو الحديقة الغناء"، وذكرت تفسيرات عديدة لاسمها، لكن التفسير السابق هو أكثرها موضوعية. ويسميها البعض بأسماء أخرى مثل جلّق أو الشام وتلقب أيضاً بالفيحاء (أي واسعة الدور والرياض) وغير ذلك من تسميات.
تقع مدينة دمشق جنوب الجمهورية العربية السورية على الطرف الغربي لحوض دمشق، وتطوقها سلاسل جبال القلمون ولبنان الشرقية من الشمال والغرب، والمرتفعات البركانية لحوران والجولان من الجنوب والشرق. وقد قامت دمشق القديمة على بعد عشرة كيلومترات من خانق الربوة، على الضفة الجنوبية لنهر بردى، الذي يعتبر شريان الحياة في المدينة، إذ لولاه لما عاشت المدينة في موقع تسيطر عليه تأثيرات بادية الشام، وتشكل الجبال الواقعة إلى الغرب منه حاجزاً طبيعياً للمطر القادم من البحر المتوسط.
إن نشأة مدينة دمشق موغلة في القدم، إذ يعود سكناها كما تقدم إلى الألف الثانية ق.م، وورد ذكرها في النصوص المصرية والآشورية بوصفها مركزاً اقتصادياً وسياسياً معروفاً في الشرق القديم. وقد كانت دمشق المملكة الآرامية في وقتها أهم دولة في سورية وأكثرها قوة. قاومت الآشوريين أنفسهم قبل أن يستطيعوا تدميرها عام 732 ق.م. وقد اقترنت هذه السطوة السياسية بالازدهار التجاري، كما كانت أيضاً مركزاً دينياً يتمتع بنفوذ واسع.
وقعت دمشق بعد هذه المرحلة تحت سيطرة الفرس الأخمينيين، ثم الاسكندر المقدوني بعد موقعة إيسوس عام 333 ق. م، واتصلت المدينة عندها اتصالاً وثيقاً بالثقافة اليونانية، لكنها اعتبرت في مدن الدرجة الثانية، وتخلت عن دورها لصالح مدينة أنطاكية التي أخذت المكانة الأولى طوال العهد اليوناني – الروماني. وبعد وفاة الاسكندر أفضى أمر دمشق إلى السلوقيين وظلت في حوزتهم حتى الاحتلال الروماني، عندما ضمها القائد "بومبي" إلى الإمبراطورية الرومانية عام 64 ق.م فالتحقت بالغرب سياسياً وثقافياً طوال سبعة قرون، وخلال هذه المدة أصبحت دمشق أقرب إلى المدن الرومانية شكلاً ومضموناً بسبب سيادة العناصر الرومانية، وقد أعطى الرومان بعض عناصر الاستقلال لدمشق، وأعطوها مميزات دستورية حيث نالت في عهد هدريانوس لقب "متروبول" ثم لقب "مستعمرة رومانية". وشهد العصر الروماني بناء سور يحيط بالمدينة وعمل قناة جديدة لمياه الشرب النقية من نبع الفيجة قرب دمشق والذي ما زالت المدينة تشرب منه حتى اليوم. وعندما انقسمت الإمبراطورية الرومانية إلى شطرين كانت دمشق من نصيب الإمبراطورية البيزنطية التي ظلت تحكمها حتى الفتح الإسلامي.
دخل العرب المسلمون دمشق صلحاً عام 14 هـ/ 635م، تحت قيادة أبي عبيدة بن الجراح، ولكن دمشق لم تتبوأ مكانتها في العهد الإسلامي حتى عهد معاوية، الذي اختار دمشق عاصمة له عام 36 هـ / 656م، بعد أن كان والياً عليها طوال العهد الراشدي. وقد عادت دمشق في العهد الأموي مركزاً سياسياً واقتصادياً مرموقاً، وأدى ذلك إلى نمو المدينة واتساعها، فبدأت منذ ذلك العهد تنشأ أحياء جديدة في أطراف المدينة، كما كثرت قصور الأمراء والوجهاء الذين اتخذوا من بساتينها إقطاعات تدر عليهم دخلاً وفيراً.
بظهور الدولة العباسية، انتهى عصر دمشق الذهبي، بعد أن نقل العباسيون عاصمتهم إلى بغداد، وغدت دمشق مجرد ولاية، شأنها شأن بقية المدن. وقد تأثرت دمشق كغيرها بالأحداث التي أعقبت انحطاط الدولة العباسية، فقد بسط أحمد بن طولون سيطرته عليها بعد أن حكم مصر عام 265 هـ/ 878م ودام حكمه 25 عاماً، وجاء بعدهم الإخشيديون في مصر والشام، ثم ظهرت الخلافة الفاطمية في مصر واستولى الفاطميون على دمشق عام 358 هـ/ 999م، ثم هاجمها القرامطة وحدثت فيها فتن كبيرة، حتى أن الجامع الأموي نفسه احترق حريقاً كبيراً عام 458 هـ / 1068م.
في عام 468 هـ / 1076م، احتل القائد التركي أتسز المدينة، بعد هزيمته للفاطميين ووطد فيها حكم السلاجقة مع الاعتراف اسمياً بالخليفة العباسي، وقد حكم السلاجقة المدينة مباشرة أو بواسطة أتابكهم. وكان أشهر هؤلاء محمود بن زنكي الشهير بنور الدين الشهيد الذي استولى على المدينة، عام 549هـ /1154م، وأسس الدولة الزنكية، وجاء بعده صلاح الدين الأيوبي من مصر فأسس الدولة الأيوبية التي دامت حتى الغزو المغولي عام 658هـ / 1260م. وفي عهد هاتين الدولتين شهدت دمشق عودة لأيام العز والمجد القديمة، فانتعشت فيها الحياة العمرانية، وازداد تحصين أسوارها وأبوابها وأبراجها، وبنيت فيها المساجد والمدارس الدينية وأضاف نور الدين زنكي إليها باب الفرج، وغدت دمشق بعد ذلك عاصمة للحكم الأيوبي.
وفي ربيع الأول عام 658 هـ/ آذار 1260م، قضى المغول بقيادة هولاكو على الدولة الأيوبية في دمشق، فنهبوها وأحرقوها وقتلوا الكثير من سكانها، غير أن انتصار مماليك مصر الكبير على المغول في معركة عين جالوت 659 هـ/1260م جعل منهم سادة الشام وأصبحت سورية بكاملها مقاطعة ملحقة بدولة مصر التي كان يحكمها المماليك الترك. وقد ظهرت هذه الدولة المملوكية المصرية السورية في أول عهدها وعلى يد سلاطين مثل بيبرس وقلاوون بارزة القوة وعدت مركزاً للسياسة والثقافة في العالم الإسلامي آنذاك. على أن المماليك الأتراك أخذوا يجمعون في مرحلة لاحقة مماليك جدد حولهم، وما لبث هؤلاء أن ثاروا على سادتهم، وسادت البلاد فترة من الفتن والحروب الداخلية وفلتان الأمور وزاد الأمر سوءاً مهاجمة تيمورلنك للشام ودخوله دمشق عام 803هـ/ 1400م، حيث أباح المدينة لجنده الذين عاثوا فيها خراباً وفساداً، واستمرت هذه الأوضاع إلى مجيء العثمانيين.
دخل العثمانيون دمشق بعد بضعة أسابيع من هزيمة المماليك في معركة مرج دابق قرب حلب عام 1516م، ولم يغيروا شيئاً في نواحي الحياة العامة إلا فيما يتعلق بنظام الحكم، وقد استمر حكم العثمانيين الظالم المليء بالنهب وسلب الخيرات وفرض الأتاوات طوال خمسة قرون، حتى قيام الثورة العربية الكبرى عام 1916م، وتحرير دمشق من سيطرة الأتراك، وقيام الحكومة الفيصلية التي لم تعمر طويلاً، إذ سرعان ما داهمها الفرنسيون واحتلوها بعد معركة ميسلون غير المتكافئة في 24 تموز 1920م، وخضعت دمشق بعدها للانتداب الفرنسي، وكان لها دور أساسي في أعمال الثورة السورية الكبرى التي انطلقت عام 1925. وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية وجلاء الفرنسيين عن سورية، شهدت دمشق نهضة واسعة، واستعادت أهميتها كعاصمة لسورية، ثم عادت إلى دورها الريادي العربي والدولي في سبعينيات القرن العشرين.
كانت دمشق في أول نشأتها قرية تعتمد على الزراعة، ثم أخذت تتحول إلى مدينة ذات شكل مستطيل مدور الزوايا يمتد من الشرق إلى الغرب، وفي مركزه تل بارتفاع ستة أمتار، من المرجح أنه كان يضم تحته موقع قلعة دمشق الأولية وقصور الملوك الآراميين، غير بعيد عن معبد حدد، الذي أخذ مكانه الجامع الأموي اليوم.
ازدهرت المدينة عمرانياً في العهد الهلنستي حيث شيد فيها حيان جديدان عن الأحياء الآرامية، وفي العهد الروماني أحيطت بسور دفاعي ذي سبعة أبواب، لازالت قائمة حتى اليوم مع قسم من السور. واعتمد في العهد اليوناني-الروماني المخطط الشطرنجي في عمران المدينة والذي لايزال ماثلاً في الشارع المستقيم الذي يخترق المدينة من باب الجابية في الغرب إلى الباب الشرقي في الشرق بطول 1500 متر، ويسميه أهالي دمشق "السوق الطويل"، أما الشارع المتقاطع معه فلم يبقَ له أثر. أما أبواب دمشق السبعة فهي باب الجابية، الباب الصغير، باب كيسان، باب شرقي، باب توما، باب السلام، وباب الفرج الذي بناه نور الدين زنكي.
ابتدأت الدراسات الشاملة عن بناء المدينة ونقوشها وآثارها بدءاً من العام 1908م على يد علماء غربيين، إضافة إلى أعمال ترميم ودراسات عمرانية، واستمرت على مدى السنين باكتشاف معالم هذه المدينة التاريخية المذهلة، وكان آخرها ما قام به علماء آثار سوريون في المديرية العامة للآثار والمتاحف من مسح شامل يغطي كل مساحات ومواقع الأبنية التاريخية والتقليدية القديمة، وذلك في إطار عمل لجنة دولية لصيانة المدينة القديمة في دمشق. وفي عام 1979 تم تسجيل قلب العاصمة القديم على لائحة اليونيسكو في عداد الممتلكات الثقافية العالمية. ويوجد اليوم في دمشق القديمة حوالي مائتي بناء أثري يعود معظمها إلى القرون الوسطى، ولا يزال حتى الآن عدد من المساكن التقليدية قائماً فيها، كما أن السوق الكبير لم يفقد شيئاً من نشاطه الذي استمر عبر العصور، مما يجعل المدينة القديمة واحدة من المراكز الحضارية القديمة القائمة في العالم الإسلامي والتي تعطي مثالاً رائعاً عن النشاط الاقتصادي والتجاري والاجتماعي والثقافي في هذا العالم.
ويعد الجامع الأموي المعلم الحضاري الأبرز الذي تمحورت حوله تاريخياً النشاطات الدينية والثقافية والاقتصادية والسياسية لسكان المدينة. وتاريخ هذا المكان موغل في القدم إذ تعود أهمية الموقع إلى عهد الآراميين حيث جعلوا منه معبداً للإله حدد ثم أصبح معبداً لجوبيتيرر في عهد الرومان وكنيسة في عهد البيزنطيين. وفي العهد الإسلامي تقاسم المسلمون والمسيحيون العبادة في هذا المكان، حتى اشترى الوليد بن عبد الملك الكنيسة من أصحابها وضمت أرضها إلى أرض المسجد الكبير الذي بناه، وكان على غير مثال سابق، ولكنه أصبح نموذجاً أساسياً للمساجد التي أقيمت معه أو بعده مباشرة، كالمسجد الأقصى وجامع حلب وجامع القيروان وجامع قرطبة وغيرهم. كما أصبحت مئذنته قدوة في بناء المآذن في المغرب العربي والحجاز والأندلس. وقد بني قصر الحكم الأموي في عهد معاوية بقرب هذا الموقع، وبناء على ذلك اتخذت المدينة اتجاهاً عمرانياً جديداً، فالمتاجر التي كانت في السابق قائمة في ساحتها العامة في النصف الشرقي من المدينة، تحولت أكثر فأكثر نحو الغرب على مقربة من محور الشوارع التي يشتد التردد عليها بين المسجد وقلعتها القديمة، التي توسعت وصارت قلعة كبيرة. وحتى الآن يمتد في هذا المكان الجزء التجاري من المدينة، الشديد التفرع، والذي يعرض سلعاً متنوعة في طرقات تجارية تغلي بالحياة والناس، وتوجد فيه خانات كبيرة ترتفع فوقها القباب.
إن المعنى الديني للمسجد الأموي دفع الحكام اللاحقين إلى تشييد مقامات دينية بالقرب منه، وبهذا نشأ خلال القرون مركز للمدينة مؤلف من أبنية ذات طابع ديني مقدس ومهام مختلفة (مساجد، مدارس، معاهد دينية وزوايا)، وأخرى مكرسة للخدمات الاجتماعية العامة (مستشفيات وحمامات وسبل مياه). كما أصبح المسجد الأموي بفضل مكانته الدينية هدفاً للحكام الذين أرادوا تشييد أضرحتهم بجانبه، ومن هذه الأبنية المدرسة التي تضم ضريح نور الدين بن زنكي، وبناء الضريح ذو القبة المحززة، الذي يضم رفات مؤسس دولة الأيوبيين الناصر صلاح الدين، والمدرسة التي تحولت اليوم إلى المجمع العلمي والتي تضم ضريح خلفه العادل سيف الدين، ثم المدرسة التي تحولت اليوم إلى المكتبة وهي تحتوي على قبة الضريح الضخمة للحاكم المملوكي الأول الظاهر بيبرس. كما أن قلب المدينة الشريف الذي يحيط بالمسجد الكبير قد غدا أيضاً الحي السكني المفضل للمسلمين. وهكذا شيد أهم حاكم مملوكي في دمشق تنكز الناصري قصره المنيف بجانب المسجد. والجدير بالذكر أن الحاكم العثماني أسعد باشا العظم قد بنى في المكان نفسه قصراً عظيماً شهيراً، كان في أواسط القرن التاسع عشر مقراً للقنصل الألماني (وهو الآن متحف التقاليد الشعبية).
بانتقال مركز الخلافة إلى بغداد في زمن العباسيين، بدأت تغييرات جديدة تطرأ على المدينة بدءاً من القرن العاشر الميلادي، إذ تخلت عن الطرقات المستقيمة والمتقاطعة عمودياً التي حافظ عليها الأمويون كما وجدوها قبلهم، وحل محلها أحياء سكنية تصل بينها الممرات والأزقة الضيقة وتغلق ببوابات بين الشوارع الرئيسية، وبذلك بدأت المدينة تتخذ طابع المدينة الإسلامية، وطبعت هذه البنية ملامح الأحياء الجديدة التي نشأت خارج أسوار المدينة القديمة. وفي منتصف القرن الثاني عشر بنى مهاجرون هاربون من الهجمات الصليبية مايسمى بالصالحية في شمالي المدينة على سفح جبل قاسيون، وقد تطورت هذه المنطقة خلال القرون إلى مجتمع مدني ذي أسواق خاصة ومساجد كبيرة وأبنية ذات مسحة دينية مكرمة وأضرحة وأحياء سكنية. وشهدت دمشق امتداداً هاماً آخر في الاتجاه الجنوبي حيث نشأت وتطورت في ظل حكم المماليك والعثمانيين، وحتى أواخر القرن السادس عشر ضاحية حي الميدان، وذلك على طريق الحج إلى شبه الجزيرة العربية، إذ شهد الحي أبنية عديدة ذات طابع ديني وأبنية رائعة فخمة. وهذا التوسع المستمر في المدينة يدل بوضوح على الازدهار الجديد المتواصل لدمشق في العصر الحديث.
ونجد في المدينة أيضاً عدداً كبيراً من المعالم المميزة الأخرى، فعلى صعيد المساجد نجد جامع المدرسة النورية من الفترة الزنكية، وجامع التوبة وجامع الحنابلة من العصر الأيوبي، ومازالت قائمة معالم جامع تنكز المملوكي إلى جانب عدد من المساجد المملوكية، مثل جامع التيروزي، ومن المساجد العثمانية التكية السليمانية وجامع محي الدين بن عربي وجامع درويش باشا وجامع سنان باشا.
أما على صعيد المدارس فنجد المدرسة النورية والمدرسة الركنية والمدرسة العادلية والمدرسة الظاهرية والمدرسة الجقمقية والمدرسة السيبائية ثم المدرسة السليمانية. وفي المدينة الحديثة نجد المدارس التاريخية مثل المدارس الأجنبية كالمدرسة العازارية واللاييك (العلمانية) والفرنسيسكان، ومدرسة الطب ومدرسة دار المعلمين (وزارة السياحة اليوم) والمدرسة التجهيزية (ثانوية جودت الهاشمي) ومبنى دار المعلمين الابتدائية (مقر القيادة القطرية اليوم).
أما المشافي فنجد بيمارستان نور الدين والبيمارستان القيمري. وعلى صعيد الخانات التي كانت وظيفتها في العصر العثماني إيواء المسافرين والقوافل واحتواء بضائع التجار، ومن أهمها خان أسعد باشا العظم والذي رمم وأصبح سوقاً سياحياً. وتشتهر دمشق بحماماتها العامة ومن أشهرها حمام التيروزي وحمام الجوزي والسروجي والورد.
تتمتع دمشق أيضاً بتاريخ في عمارة المباني الرسمية، ويعد مقر الحكم الأموي الذي أنشئ غربي الجامع الأموي ومتداخلاً معه في الصالات التي تسمى اليوم "مشهد" وضم قديماً دواوين الدولة التي تنامت في عهد عبد الملك بن مروان وابنه الوليد، ومازالت آثارها واضحة إلى الآن في منطقة المسكية. كما أن سلطة الدولة كانت محصنة منذ القرن الثاني عشر في بناء ضخم مازال ماثلاً وهو قلعة دمشق، أهم معالم دمشق المعمارية، وتقع في الزاوية الشمالية من دمشق القديمة، وكان الملك العادل الأيوبي قد أنشأها عام 615هـ /1218م على أنقاض قلعة سلجوقية أنشئت عام 469هـ/ 1076م، ولها أربعة أبواب واثنا عشر برجاً، ويحيطها خندق مائي، وفيها مسجد وقصر ودور.
يعد البيت الدمشقي القديم من أنجح ما توصل إليه المعمار لخدمة الوظيفة السكنية وشروطها الاجتماعية، ويتألف البيت الدمشقي القديم من قسمين واحد للاستقبال وآخر للمبيت، وقد يضم قسماً للخدم واصطبلاً، وتتألف هذه البيوت من طابقين، في كل منها عدد من الغرف وتنفتح كلها على فناء الدار "أرض الديار" الذي يلعب دوراً مهماً في حماية المسكن من المؤثرات الخارجية، وفي الطابق السفلي ينهض إيوان ضخم ينفتح على مشهد الفناء المزين، والمعطر بأنواع النباتات العطرية والفل والياسمين وأشجار النارنج والليمون، وفي قلب هذا كله بحرات تسقي هذه الحديقة الغناء، وإلى جانبي الإيوان قاعة أو قاعتان تزين جدرانها كتبيات خشبية تتصل بزخارف السقف، وتحيط الأثاث الدمشقي المؤلف من آرائك وسجاجيد وقطع نفيسة. ومن أهم نماذج البيوت الدمشقية، قصر العظم في سوق البزورية، وبيت نظام وبيت السباعي وبيت خالد العظم وبيت السقا أميني وبيوت الدحداح، والمجلد وجبري والصفدي وبيت عنبر، وكلها بيوت لعائلات دمشقية معروفة.
إن التراث المعماري الضخم كان لا بد وأن يترافق مع إرث فني وحرفي هائل امتلكته هذه المدينة العريقة بفسيفسائها وصناعة الخزف وخصوصاً الألواح الخزفية الملونة التي تسمى "القيشاني"، أو الزخارف الخشبية التي تسمى "العجمي" أو الزخرفة بتنزيل الملاط على الحجر والتي تسمى "الأبلق" أو الفسيفساء الحجري المسمى "المشقّف". أضف إلى ذلك ترصيع الأواني النحاسية أو زخرفتها بزخارف بارزة أو غائرة أو مرصعة بقضبان من الذهب والفضة بأشكال هندسية ونباتية أو زخرفة الأثاث الخشبي بالذهب والفضة والمسمى "موزاييك". أما في مجال النسيج فقد برع الدمشقيون قديماً بصناعة السجاد الدمشقي وإنتاج نسيج "الدامسكو" والأقمشة الحريرية. ومن الصناعات الفنية نفخ الزجاج الذي تجمع في منطقة الشاغور بالإضافة إلى الإبداع في الصناعات الزجاجية وتزيينها. ولا ننسى الفن التشكيلي الذي انتشر على شكل الرقش "أرابيسك". إلا أن أكثر الصناعات الفنية الدمشقية شهرة هي صناعة السيف الدمشقي المؤلف من قبضته المزخرفة والمرصعة، ومن شفرته المصنوعة من الفولاذ الدمشقي المرن ذي التمشيح الطيفي اللون والذي يطلق عليه اسم "الجوهر". وما زالت صناعة الفولاذ الدمشقي وتمشيح الجوهر من خصائص الصناعة الدمشقية الأصيلة.
يدلنا كل ما ذكرناه على الدور العريق الذي لعبته دمشق كقلب للنشاط السياسي والاقتصادي والفكري والثقافي والفني والحرفي الذي استمر منذ أكثر من أربعة آلاف سنة، مرت فيها على المدينة العديد من الأحداث الساخنة وفترات ازدهار أو مراحل صعبة إلا أنها حافظت على سماتها الحضارية الأساسية كمركز للإبداع الإنساني الرحب الأصيل.