العراق عبر العصور
تأليف : طارق فتحي
العراق تحت حكم البويهيين ( 945 – 1055 م )
بعد عشر سنوات من الفوضى، حين كان ابن رائق وامثاله يتصارعون من اجل السلطة، كانت قد حصلت هناك فترة استقرار في عام 945 م حينما احتلت بغداد من قبل زعيم البويهيين معز الدولة. كان البويهيون قادة شعب الديلم من مناطق جنوب شرق بحر قزوين. لقد استغل اقوام الجبل هؤلاء الفوضى السائدة لاحتلال غرب ايران في عام 934 م وتحركوا الان نحو العراق.
اسس معز الدولة مقره في بغداد، ولكن هذا النظام لم يحكم العراق بكامله. وفي العاصمة ذاتها كان هناك توتر دائم بين الديلم والاتراك الذي كانوا تقليديا يشكلون القوة الرئيسة. وعندما اعلن البويهيون التصاقهم بالشيعة، صار التوتر ياخذ طابع العنف بينهم وبين انصار السنة وهم الاغلبية. بدات بغداد بالتفكك الى عدد من المجتمعات الصغيرة، بين شيعة وسنة وكل بنى جدارا ليحميه من جيرانه. ولقد دمرت مناطق واسعة بضمنها اجزاء من مدينة المنصور المدورة.
وكثرت المشاكل بفقدان السيطرة على الجزيرة في شمال العراق، والتي كانت تجهز بغداد بالحبوب. ولقد كان عدد سكان بغداد كبيرا بحيث لا يمكن اطعامهم من غلة ارض بغداد و عندما اندلع الصراع السياسي فان عجز تجهيز الحبوب من الجزيرة اضاف الى بؤس الشعب بؤسا آخر. قام البويهيون وفي مجال واحد بالابقاء على الطابع القديم بدلا من التغيير الكامل،
فقد سمحوا لخلفاء العباسيين من البقاء حبيسي اماكنهم وقصورهم في بغداد. اما من نسي منهم اين تقبع السلطة الحقيقية فقد كان يذكر بقسوة.
منذ بداية القرن العاشر كان العراق مقسما سياسيا، ونادرا ماسيطر البويهيون الذين كانوا في بغداد على كل المنطقة كما كان اسلافهم من العباسيين. اما الاراضي المحيطة بالبصرة فغالبا ما كانت بيد الامراء البويهيين المنافسين .
وكان الشمال يسير باتجاه اخر. وتدهور الاقتصاد وان آثار مشاريع الري المندرسة والتي كانت تنعش وسط وجنوب العراق لم يكن لها تاثير على الجزيرة، حيث الزراعة هناك كانت تعتمد على الامطار, ولم تكن المنطقة اساسا بغنى الجنوب ولكنها اقل منها تاثرا بالاضطرابات السياسية. كانت الموصل ومنذ الفتح الاسلامي اكثر مدن الجزيرة اهمية، واصبحت الان مركزا اقليميا مهما.
كانت المنطقة تحت سيطرة الحمدانيين. والحمدانيون ( اساسا هم اسياد تغلب العشائر البدوية التي سكنت الجزيرة العربية )، وانظم قسم منهم الى جيش الدولة العباسية.
وفي عام 935 بويع قائدهم ناصر الدولة حاكما على الموصل مقابل ماتبرع به من مال وارزاق وحبوب الى بغداد وسامراء، بالرغم من انه لم يدفع المال او احبوب على اساس منتظم. قوى الحمدانيون موقعهم بتجنيد جنود اتراك في جيشهم وتاسيس علاقات جيدة مع القبائل الكردية في جبال الشمال.
تولى في عام 967 الحكم ابو تغلب ابن الحاكم ناصر الدولة، ولكن في عام 977 احتل عظيم البويهيين عود الدولة الموصل وطرد الحمدانيين خارجها. لم يوحد هذا النصر العراق لفترة طويلة؛ فبعد وفاة عود الدولة في 983 انفلت شمال العراق من يد خلفه الضعيف. وتزايدت قوة شيوخ بني عقيل في الشمال وهم من القبائل البدوية الكبيرة في منطقة الجزيرة.
وفي بدايات القرن الحادي عشر سيطر قرواش قائد العقيليين على الموصل والجزيرة. وعلى نقيض البويهيين والحمدانيين، فقد عاش شيوخ العقيليين في مخيمات في الصحراء بدلا من المدن،
واعتمدوا على رجال قبائلهم بدلا من الاتراك او جنود الديلم. وفي العام 1010 م امتدت سلطة قرواش جنوبا الى الكوفة، مع ان بغداد ذاتها لم تصبح تحت سيطرة البدو، وحاول تدبير حلف مع الخليفة الفاطمي في مصر.
منذ ذلك الوقت بدات سلطته بالهبوط، وفي بدايات العام 1040م وجد بنو عقيل انهم مهددين من قبل عدو جديد، هم الاغوز وهم قبائل تركية زحفت من ايران.
وفي عام 1044 م احتلوا شمال غرب الموصل، واقتتل الاتراك والعرب البدو في معركة فاصلة، حيث انهزم الاتراك شر هزيمة. وبالرغم من ان القليل قد اورده المؤرخون، فمن المحتمل ان هذه المعركة اثبتت ان سكان السهول من شمال العراق بقوا ينطقون العربية، عكس سكان الجبال في الاناضول في الشمال الذين يتكلمون التركية.
وفي الجنوب ايضا اصبح البدو ذوو سلطة واسعة. على حدود الصحراء في منطقة الكوفة يوجد بني مزيد، شيوخ قبيلة بني اسد، الذين اسسوا دولة صغيرة وصلت اوجها في عهد الحكم الطويل لدبيس ( 1018 – 1081 م ). خلال هذا الوقت كان معسكرهم الاساس ( الحلة ) التي اصبحت مدينة مهمة و اصبح اسم الحلة بدل المدينة الاسلامية القديمة الكوفة كاكبر مركز حضري في المنطقة.
بقيت بغداد والمناطق المحيطة بها من اسفل دجلة وحتى الخليج تحت حكم البويهيين. في عام 978 م تم احتلال بغداد من قبل البويهي عود الدولة (حاكم فارس) (جنوب غرب ايران). وفي السنوات الخمسة التي سبقت وفاته في 983 م حاول مرارا إعادة بناء الادارة،
للسيطرة على البدو ولتوحيد الموصل مع باقي اجزاء العراق الجنوبية. اضافة الى كونه نموذجا للتعلم فقد عمل جاهدا لاعادة اعمار انظمة الري المخربة. كان تصميمه هذا فريدا، وللاسف الشديد بعد وفاته قسمت البلاد التي كان يحكمها .
لقي حكام البويهيين التالين صعوبة في فرض حكمهم حتى على بغداد والاراضي المحيطة بها مباشرة. ولقد ضاعف الفقر مشاكلهم؛ فلقد اضطر جلال الدولة ( حكم من 1025 الى 1044 م ) الى اخلاء سبيل خدمه واطلاق خيوله لانه لم يستطع اطعامهم .
مثلت بغداد صورة الدمار في عهده. لقد قام اللصوص وقطاع الطرق بالعيش من خلال الاختطاف والابتزاز واصبح الخلاف بين الشيعة والسنة عنيفا جدا.
فالشيعة ، وان كانوا اقل عددا الا انهم كانوا يلقون تشجيعا من الامراء البويهيين الذين كانوا يبغون دعمهم. هذا مادفع بالسنة للتطلع الى الخلفاء العباسيين لقيادتهم.
الخليفة القادر (991 – 1031 م ) اعلن قيادة السنة واصدر بيانا، سمي بالرسالة القادرية (1029 م ) والتي تتضمن الخطوط الاساسية لمذاهب السنة. ولم يسعى الى اي سلطة سياسية.
وبالرغم من اختلال النظام والفوضى السياسية الا ان بغداد بقيت مركزا ثقافيا. ان عدم وجود سلطة سياسية حازمة كان يعني ان حوارا حرا وتبادل الاراء كان افضل مما لو كان هناك نظام حازم متسلط
. انتهى عهد فوضوي لكنه غزير بالانتاج الثقافي من تاريخ العراق في كانون اول 1055 م حين دخل قائد السلاجقة الاتراك توغرل بيك مدينة بغداد بقواته واسس بسرعة حكومة على معظم اراضي العراق. ولقد شهد العراق تغيرات كثيرة منذ القرن السابع.
ولقد اختفت الكثير من مظاهر الاختلاف العرقي والديني والطائفي في آخر ايام الساسانيين في العراق. ماعدا العسكر الاتراك والاكراد في المناطق الجبلية فمعظم سكان العراق الان يتكلمون العربية.
وكان لايزال هناك مجتمعات مسيحية، وخاصة في المناطق الشمالية حوالي تكريت والموصل، ولكن اغلبية السكان الان هم من المسلمين. وضمن المجتمع المسلم كان هناك تفرقة مهمة بين السنة والشيعة.
وفقد العراق ايضا موقعه كاغنى منطقة في الشرق الاوسط. لا تتيسر ارقام ولكن يمكن افتراض ان عدد السكان قل بشكل كبير، ومن الواضح ان العديد من السكان ممن استطاع الهرب من اوضاع الفوضى قد هاجر الى مصر. لقد فقد العراق موقعه الامبراطوري والى الابد.
تأليف : طارق فتحي
العراق تحت حكم البويهيين ( 945 – 1055 م )
بعد عشر سنوات من الفوضى، حين كان ابن رائق وامثاله يتصارعون من اجل السلطة، كانت قد حصلت هناك فترة استقرار في عام 945 م حينما احتلت بغداد من قبل زعيم البويهيين معز الدولة. كان البويهيون قادة شعب الديلم من مناطق جنوب شرق بحر قزوين. لقد استغل اقوام الجبل هؤلاء الفوضى السائدة لاحتلال غرب ايران في عام 934 م وتحركوا الان نحو العراق.
اسس معز الدولة مقره في بغداد، ولكن هذا النظام لم يحكم العراق بكامله. وفي العاصمة ذاتها كان هناك توتر دائم بين الديلم والاتراك الذي كانوا تقليديا يشكلون القوة الرئيسة. وعندما اعلن البويهيون التصاقهم بالشيعة، صار التوتر ياخذ طابع العنف بينهم وبين انصار السنة وهم الاغلبية. بدات بغداد بالتفكك الى عدد من المجتمعات الصغيرة، بين شيعة وسنة وكل بنى جدارا ليحميه من جيرانه. ولقد دمرت مناطق واسعة بضمنها اجزاء من مدينة المنصور المدورة.
وكثرت المشاكل بفقدان السيطرة على الجزيرة في شمال العراق، والتي كانت تجهز بغداد بالحبوب. ولقد كان عدد سكان بغداد كبيرا بحيث لا يمكن اطعامهم من غلة ارض بغداد و عندما اندلع الصراع السياسي فان عجز تجهيز الحبوب من الجزيرة اضاف الى بؤس الشعب بؤسا آخر. قام البويهيون وفي مجال واحد بالابقاء على الطابع القديم بدلا من التغيير الكامل،
فقد سمحوا لخلفاء العباسيين من البقاء حبيسي اماكنهم وقصورهم في بغداد. اما من نسي منهم اين تقبع السلطة الحقيقية فقد كان يذكر بقسوة.
منذ بداية القرن العاشر كان العراق مقسما سياسيا، ونادرا ماسيطر البويهيون الذين كانوا في بغداد على كل المنطقة كما كان اسلافهم من العباسيين. اما الاراضي المحيطة بالبصرة فغالبا ما كانت بيد الامراء البويهيين المنافسين .
وكان الشمال يسير باتجاه اخر. وتدهور الاقتصاد وان آثار مشاريع الري المندرسة والتي كانت تنعش وسط وجنوب العراق لم يكن لها تاثير على الجزيرة، حيث الزراعة هناك كانت تعتمد على الامطار, ولم تكن المنطقة اساسا بغنى الجنوب ولكنها اقل منها تاثرا بالاضطرابات السياسية. كانت الموصل ومنذ الفتح الاسلامي اكثر مدن الجزيرة اهمية، واصبحت الان مركزا اقليميا مهما.
كانت المنطقة تحت سيطرة الحمدانيين. والحمدانيون ( اساسا هم اسياد تغلب العشائر البدوية التي سكنت الجزيرة العربية )، وانظم قسم منهم الى جيش الدولة العباسية.
وفي عام 935 بويع قائدهم ناصر الدولة حاكما على الموصل مقابل ماتبرع به من مال وارزاق وحبوب الى بغداد وسامراء، بالرغم من انه لم يدفع المال او احبوب على اساس منتظم. قوى الحمدانيون موقعهم بتجنيد جنود اتراك في جيشهم وتاسيس علاقات جيدة مع القبائل الكردية في جبال الشمال.
تولى في عام 967 الحكم ابو تغلب ابن الحاكم ناصر الدولة، ولكن في عام 977 احتل عظيم البويهيين عود الدولة الموصل وطرد الحمدانيين خارجها. لم يوحد هذا النصر العراق لفترة طويلة؛ فبعد وفاة عود الدولة في 983 انفلت شمال العراق من يد خلفه الضعيف. وتزايدت قوة شيوخ بني عقيل في الشمال وهم من القبائل البدوية الكبيرة في منطقة الجزيرة.
وفي بدايات القرن الحادي عشر سيطر قرواش قائد العقيليين على الموصل والجزيرة. وعلى نقيض البويهيين والحمدانيين، فقد عاش شيوخ العقيليين في مخيمات في الصحراء بدلا من المدن،
واعتمدوا على رجال قبائلهم بدلا من الاتراك او جنود الديلم. وفي العام 1010 م امتدت سلطة قرواش جنوبا الى الكوفة، مع ان بغداد ذاتها لم تصبح تحت سيطرة البدو، وحاول تدبير حلف مع الخليفة الفاطمي في مصر.
منذ ذلك الوقت بدات سلطته بالهبوط، وفي بدايات العام 1040م وجد بنو عقيل انهم مهددين من قبل عدو جديد، هم الاغوز وهم قبائل تركية زحفت من ايران.
وفي عام 1044 م احتلوا شمال غرب الموصل، واقتتل الاتراك والعرب البدو في معركة فاصلة، حيث انهزم الاتراك شر هزيمة. وبالرغم من ان القليل قد اورده المؤرخون، فمن المحتمل ان هذه المعركة اثبتت ان سكان السهول من شمال العراق بقوا ينطقون العربية، عكس سكان الجبال في الاناضول في الشمال الذين يتكلمون التركية.
وفي الجنوب ايضا اصبح البدو ذوو سلطة واسعة. على حدود الصحراء في منطقة الكوفة يوجد بني مزيد، شيوخ قبيلة بني اسد، الذين اسسوا دولة صغيرة وصلت اوجها في عهد الحكم الطويل لدبيس ( 1018 – 1081 م ). خلال هذا الوقت كان معسكرهم الاساس ( الحلة ) التي اصبحت مدينة مهمة و اصبح اسم الحلة بدل المدينة الاسلامية القديمة الكوفة كاكبر مركز حضري في المنطقة.
بقيت بغداد والمناطق المحيطة بها من اسفل دجلة وحتى الخليج تحت حكم البويهيين. في عام 978 م تم احتلال بغداد من قبل البويهي عود الدولة (حاكم فارس) (جنوب غرب ايران). وفي السنوات الخمسة التي سبقت وفاته في 983 م حاول مرارا إعادة بناء الادارة،
للسيطرة على البدو ولتوحيد الموصل مع باقي اجزاء العراق الجنوبية. اضافة الى كونه نموذجا للتعلم فقد عمل جاهدا لاعادة اعمار انظمة الري المخربة. كان تصميمه هذا فريدا، وللاسف الشديد بعد وفاته قسمت البلاد التي كان يحكمها .
لقي حكام البويهيين التالين صعوبة في فرض حكمهم حتى على بغداد والاراضي المحيطة بها مباشرة. ولقد ضاعف الفقر مشاكلهم؛ فلقد اضطر جلال الدولة ( حكم من 1025 الى 1044 م ) الى اخلاء سبيل خدمه واطلاق خيوله لانه لم يستطع اطعامهم .
مثلت بغداد صورة الدمار في عهده. لقد قام اللصوص وقطاع الطرق بالعيش من خلال الاختطاف والابتزاز واصبح الخلاف بين الشيعة والسنة عنيفا جدا.
فالشيعة ، وان كانوا اقل عددا الا انهم كانوا يلقون تشجيعا من الامراء البويهيين الذين كانوا يبغون دعمهم. هذا مادفع بالسنة للتطلع الى الخلفاء العباسيين لقيادتهم.
الخليفة القادر (991 – 1031 م ) اعلن قيادة السنة واصدر بيانا، سمي بالرسالة القادرية (1029 م ) والتي تتضمن الخطوط الاساسية لمذاهب السنة. ولم يسعى الى اي سلطة سياسية.
وبالرغم من اختلال النظام والفوضى السياسية الا ان بغداد بقيت مركزا ثقافيا. ان عدم وجود سلطة سياسية حازمة كان يعني ان حوارا حرا وتبادل الاراء كان افضل مما لو كان هناك نظام حازم متسلط
. انتهى عهد فوضوي لكنه غزير بالانتاج الثقافي من تاريخ العراق في كانون اول 1055 م حين دخل قائد السلاجقة الاتراك توغرل بيك مدينة بغداد بقواته واسس بسرعة حكومة على معظم اراضي العراق. ولقد شهد العراق تغيرات كثيرة منذ القرن السابع.
ولقد اختفت الكثير من مظاهر الاختلاف العرقي والديني والطائفي في آخر ايام الساسانيين في العراق. ماعدا العسكر الاتراك والاكراد في المناطق الجبلية فمعظم سكان العراق الان يتكلمون العربية.
وكان لايزال هناك مجتمعات مسيحية، وخاصة في المناطق الشمالية حوالي تكريت والموصل، ولكن اغلبية السكان الان هم من المسلمين. وضمن المجتمع المسلم كان هناك تفرقة مهمة بين السنة والشيعة.
وفقد العراق ايضا موقعه كاغنى منطقة في الشرق الاوسط. لا تتيسر ارقام ولكن يمكن افتراض ان عدد السكان قل بشكل كبير، ومن الواضح ان العديد من السكان ممن استطاع الهرب من اوضاع الفوضى قد هاجر الى مصر. لقد فقد العراق موقعه الامبراطوري والى الابد.