جسر الموت جسد بلا روح. جسد من الأسمنت المسلّح. أنهكته الدبابات
والمجنزرات والأقدام العارية. مشت بين جنباته جموع بشرية في الذهاب والإياب
من سن الفيل إلى بقية أجزاء بيروت الشرقية.... وجوه تائهة، غضبى، حزينة،
ثكلى، فقدْت قلوبها، لاتعرف الفرح، ولا الهدوء والاستقرار، وأين ترسو وأين
تكون المحطات الأخيرة.
كل مَنْ يساوره الشجن أو تهمس في روحه رغبة أو يشتهي أن يخطو على هذا الجسر
يتلو الصلوات. يتضرّع بخشوع إلى السماء. يمكن أن يكون الحظ حليفه، وتنحرف
عنه قنصة أو قذيفة.. يتنفس الصعداء عند نهاية الجسر، وما يكاد يقطعه حتى
يبدأ يلعن الحياة، والحرب، والقتال، والتدمير. يلعن أسرار المدينة، وقدسية
حضارتها، وعراقتها التي دفعته، قذفته من أحضان بيته غير الآمن....
هذا هو " الجسر الواطي" الجسر الذي يربط بين البيروتين الشرقية والغربية.
سمي بـ " جسر الموت" لأن آلاف الأرواح زهَقَت فوقه. تحوّل إلى مدفن في عراء
الموت!
صورة تتشبث بروحي، تضغط كآلة كلما حملت المنظار، ووجهته إليه أبحث عن
أشيائي المفقودة.. أبحث عن حيّان الذي لا أستطيع القيام بأي عمل دونه..
كنت أبحر في نهر عريض، أقلّب التداعيات، فينهرس بعضها، ويتقطع بعضها، وتخرج
أجزاء ملونة، أو محروقة، تلّف أذيالها حول عنقي، تربط لساني، تقيّد
أفكاري، تحاصرها، تمنعها من المشي في أوردتي.
الآن توقفتُ هنيهة، حسمت موقفي، بعد أن بدا حيّان، وظهر يحمل فَرَحاً.
سألته بتودد وشوق ومحبة : لماذا تأخرت حتى هذا الوقت؟ ألا تعلم أن "قا.ك"
كاد أن يوجه برقية إلى جميع النقاط في برج حمود وسن الفيل، وبيروت
الغربية
ليلتان كاملتان تغيب عنّا. ألا نستحق منك خبراً تكتبه في ورقة صغيرة أو
تكلف أحد العناصر بإبلاغنا! سألت أبا سركيس عنك. لم يجب أبداً! كنت
متأكداً - الحاسة السادسة همست بالجواب- انه أوصلك، أنت وعائشة إلى بوابة
المتحف. أمّنَ عليكما من الأخطار. وضعكما في سيارة صديقه، وغبتما ليلتين
كانتا حالكتي الظلمة.
أنت الآن ليس كما عرفتك. أشعر أنك تغيرت، وتبدلت أفكارك وأحلامك. وجهك يقطر
من الوجنتين. تساؤلات مخزونة في داخلك. .. تكلم يا حيّان أين عائشة؟
لماذا لم تَعَد معك؟ أين هي الآن؟ هل كرهتنا.
ولماذا التجأت إلى بيروت الغربية؟ لماذا اختارتها في هذه اللحظات الحاسمة من حياتها؟.
"كشف عن أسنانه، بابتسامة لوّنت ثغره بالألم، والتعب والخوف !"
- لاأريد أن أنقل آلامها إليك. يكفيك كل هذه الشهور، وأنت تحميها وتحافظ
عليها كأنها جزء منك. . الآن! قررت عائشة أن تدافع عن نفسها، وتتحمل
المسؤولية كاملة. حملت المنظار معها. ستنضم إلى إحدى فصائل المقاومة
المسلّحة في بيروت الغربية. لقد قسّمت جسدها وروحها. تريد أن تجتاز جسر
الموت ثانية. وكذلك عشاقها أرادوا العبور وراءها. رغبات مجنونة تلحّ عليهم
لملاحقتها أينما ذهبت. بيروت الغربية أكثر أماناً من بيروت الشرقية. هناك
القوى الوطنية تسند ظهرها، وتحميها وعدد من القطع العسكرية التابعة
لقواتنا.تدافع عن هذا القسم من بيروت، تتوزع في الشوارع والأحياء،
والمخيمات. . هكذا أرادت وهكذا كانت رغبتها. أن تنزع من قلبها ومن جسدها
الأوجاع التي أدمتها، وأن تصلي دائماً وأبداً، ناظرة دائماً إلى الأمام دون
أية التفاتة إلى خلفها.
وعندما وصلنا إلى الجسر، ولامست أقدامنا أرضه، تمسّكت عائشة بحافته
المصدّعة، وضعت المنظار إلى رأسها. ثبتته جيداً، وبدأت تمسح ببصرها المناطق
كافة. مرت على جميع الدوائر والأقواس الباردة والحامية، ابتداء من برج
حمود، والدورة. بقيت دقائق تدوّر منظارها، بينما كان أبو سركيس يلّح عليها
للصعود إلى السيارة. " أسرعي يا عائشة، القناصة فوقنا، وهاهم يصوبون
بنادقهم إلينا، ولم يمهلونا أبداً. انهم يراقبون السيارة بدقة،
ويتابعونها).
تحركت سيارة تحمل رشاشاً من عيار"500"، يدور باتجاهنا. كانت عائشة تحيا،
وتعيش وتنبض في داخلها لحظات الوداع المرّ بعدما صبرت وقاست، وعانت من
التشرد والفواجع التي تكلّست في قلبها... رغم ذلك لم تفارقها الابتسامة.
- تجمدّت الكلمات في حلقي - قلت: لماذا تخاطر، وتغامر بهذا المشوار؟...
- الآن يصعب وداعها. لوبقيت معي لما تنفست غباراً ورماداً، ولما كانت هذه
الشهقات من التعجب والاستفسار ولما تحفزت أنت يا محمود وأهدرت الوقت في
البحث عنَّا!
تمنيت أن تكون معنا، ترافقنا، وأن ترى من قرب جسر الموت، هذا الجسر "
اللعين". إنه يسكر بالدماء. لكنتَ لا تقترب من مائدته العامرة بالجثث،
والعظام وأقسام من رؤوس تتبعثر فوقه أو تتدثر في الحفر. والسيارات ترتاح،
تنام معطوبة، تتكئ على جوانبها، أو تستلقي على ظهرها، تطلّ من نوافذها رؤوس
أطفال وشباب وأمّهات. . عيون نفدت مياهها، وقطرات دماء غيّرت ألوانها
الدموع. كل شيء أسود...وما أدهشني ذاك الرأس المطحون. أعتقد أن صاحبه حاول
أن يدفع رأسه للخروج، ولكن باب السيارة أطبق عليه فظلَّ محصوراً، سقطت (
وجبة ) أسنانه السفلى على الأرض، وقطعة من لسانه مازالت طرية تمتصها
الديدان والحشرات.
ماذا أقول عن جسر الموت! أعجز عن الوصف، وتعجز أحدث الكاميرات أن تقترب منه، وتأخذ صوراً، كشواهد للتاريخ.
جسر الموت مصيدة، كل مَنْ حاول السير فوقه، أو الاقتراب منه اصطيد بقذيفة
أو قنصة. هل تذكر تلك الأيام، ومرارتها حينما اضطررنا إلى اللجوء لفصيلة
الكيمياء القريبة منه؟.
- طال بنا السهر، وحيّان يزداد شوقاً للحديث عن هذا المشوار، وعن جسرٍ تحدث
عنه العالم. رحم الله منظارك يا حيّان! لقد فقدت قطعة من حياتك، فكيف
تستطيع الآن العيش بدونه؟ والبحث عن أنوار البيوت، ووجوه النساء، وعن
أجسادهنَّ الراقصة أو النائمة فوق أسرّة حُبلى بالليل والغنج والهمس
والمطاردة!
سألته : - متى تعود عروس البحر؟ متى تمشي فوق رمال الساحل، وتختال عند
الغروب ضاحكة للماء والموج والشمس؟ تتفرّس بالوجوه الغريبة، بعد أن تعوّدت
وجوهنا، وارتاحت لها، وإلى أحاديثنا وقصصنا، وحكاياتنا، وسهراتنا،
وخلواتنا، وضحكنا، وقهوة أبي سركيس. رغم بشاعة الأحداث التي طُبعت بخاتم
الازدراء، وغُمست بالدماء البريئة، رغم تصدّعه وتفككه وألمه، وحفره وتهشمّه
وتكسّره وتآكل. وانهيار جوانبه، ظلَّ جسر الموت نقطه اتصال وتلاقٍ بين
الفرح والحزن، وبين الموت والحياة.
فوق جسر الموت عبرت شاحنات كتيبتنا، القادمة من جسر " الباشا"، سن الفيل،
فجسر الموت، وصولاً إلى نهر بيروت، أوالسيارات العائدة ستمر فوقه أرادت أو
لم ترد ، رغبت أو لم ترغب: يشرف على نهر بيروت الجاف ذي الذقن الملساء.
كل الأشياء مكروهة. كل الأشياء تنتهي فوق هذا الجسر. يتواصل القنص، وتصوّب
الرشاشات والمدافع والراجمات سبطاناتها إليه، ورغم ذلك كان بصيص الأمل
يتقافز، وينطُّ. كان بصري، يصعد ويتسلق الدرب الناهضة، كأنها تتسلق السماء.
يشرئب عنقي حاملاً رأساً ثقيلاً، دائخاً.. إلى هناك أُحدّق بعينيَّ..
تتسمر عيناي في فوهات كبيرة تشكيلية. تتابع عائشة الرصد، هناك، وفوق سطح
بناية عالية، بجوار خط التماس. وأولى النقاط التي تمدّ بصرها نحوها
مواقعنا، وتدقق في مرابض أسلحتنا، وأمكنة منا ماتنا تهزها أوجاع الدروب.
تتسلق قلبها أحلام الأيام القادمة.
كنّا نسستمع إليها ونصغي إلى شفافية حديثها. تتوهج أفئدتنا. تضمر شهواتنا وتضمحل رغباتنا حين تجلس بينا. نحترم صمودها وصبرها.
عائشة جسد ممزّق واهن. لم تبرحها الآلام المتجمعة في ظهرها وفخذيها
وذراعيها ووجهها، آلام لا تزول بهذه السرعة، ستظل آثار الرضوض زرقاء، وبقع
الدماء المحبوسة تحت جلدها مكللة بالسواد إلى فترة قد تطول.
آلام تتداخل وتتشابك مع المتاريس وسواتر الأكياس في الشوارع والأزقة.
أقسمتْ ألاَّ تعود إلى الحي القديم إلاَّ بعد أن يتوحد الجسد والروح
ويندمجا في كتلة واحدة. إلاَّ بعد أن تُعيد أنفاس البحر إلى قلبها الحياة،
وتنظف الشواطئ والأقبية، ويخرج التلاميذ إلى مدارسهم دون خوف، ويعود
الصيّادون يحملون شباكهم وصنانيرهم، ويعودون إلى أكواخ القش وإلى زوارقهم،
وتُصفر البواخر حاملة الأغذية بدلاً من الذخائر والأسلحة.
قال حيّان: فقدتُ كل شيء. فقدت غرفتي وحبيبتي، وخسرت عائشة. اعتقدت أني
سأرافقها حتى نهاية المشوار! رفضت، ورفضت. إنها عنيدة، واليوم أُصيبت بمرض،
ولاتستطيع المقاومة كما كانت من قبل.
- لا نريد أن نهدر الوقت، لأن الغيوم تتكاثف في سماء بيروت.
- ألا تلاحظ أن عناصرنا يعبئون الرمال في أكياس، ويرتبونها فوق بعضها.
- تتكرر الأخبار والصور، ولا شيء جديد.
- تعزيزات جديدة في مقارّ القوى المناوئة.
- وسفن وزوارق ترسو في الموانئ.
- ستكون آخر المعارك، وبعدها الموت أو الرحيل!
- عناوين استفزازية، وكتّاب يشوهون الواقع، والإذاعات " الغربية" تبثّ عبر نشرات الأخبار سموماً، وأحابيل من الدجل والتهديد.
صدرت تعليمات جديدة بإيقاف الإجازات ومنع مغادرة المواقع مهما كانت
الأسباب. وتؤكد هذه البرقية المستعجلة على ذلك " إلى جميع السرايا
والفصائل. كونوا على أهبة الاستعداد. ويمنع مغادرة المكان".
- تبدو الاستعدادات في هذه الليلة كبيرة!
- انتبه. اسمع جيداً. ألا تلاحظ مثلي أن الأجواء مكهربة.
- أصوات طرقات صناديق خشبية، وتنزيل أسلحة وذخائر من الشاحنات.
- اعتقد أنها البدايات، وسنتلقى في الساعات القادمة تعليمات جديدة، وربما ستكون ساعات الحسم النهائي.
- تعقّدت الأمور، وآخر الأنباء. " بوارج فرنسية، وقوات المارينز تحطّ
رحالها قرب البحر. وساطات جديدة. ومتابعات حثيثة من الفاتيكان. دور جديد
(للسوفييت)، واقتراحات ومبادرات".
- المسألة أكثر تعقيداً من ذلك.
- طبعاً! عودة بيروت إلى أمّها الحقيقية، وعائشة إلى والديها أمر كثير التعقيد.
لن يكون بهذه السهولة، نزع فتيل الاقتتال، وتشكيل حكومة ائتلاف وطني، وإلغاء الطائفية!
- دخلت في السياسة !
- في الطعام سياسة! ألا تعلم!
- نحن نقول شيئاً والصحف تكتب وتحلل، وتخطط وتتم المشاورات وراء الكواليس.
- أتركنا يا محمود. "قا.ك" أرسل يطلب حضورك لأمر هام.
- تطابقت تصوراتي، "بريد عاجل وسرّي للغاية من " قا.ل" تماماً مع احتمال عودة القتال.
فككت برقية مرمزّة بالشيفرة. أعلمت " قا.ك" بها، ثم سلمته نصها مكتوباً، وطلب مني إحضار الخرائط في حالتي الدفاع والهجوم...
انهمك ( رئيس الأركان) في تحديد المواقع الدفاعية. كنت أراقب انشغاله،
والعرق يتصبّب منه، وهو يُنقّل ويحرك ( مسطرة القائد). مستخدماً أقلاماً
حمراء وزرقاء في تعيين أنواع الأسلحة الممكن استخدامها في قتال الشوارع،
وراسماً الخنادق للمشاة والـ " م ر د"، ومواقع الدبابات ومرابض المدفعية.
...
تنفّس قائلاً: ينبغي أن توزع عناصرنا وقواتنا توزيعاً جديداً وبسرعة، وأن
نعزّز مواقعنا الأمامية باتجاه الجسور والأشرفية والدورة. فهناك خطة
عدوانية تُحاك ضدنا. نحن هنا. كغيمة صغيرة في سماء واسعة! علينا أن نحسب
ألف حساب، وأن نأخذ الاحتياطات اللازمة وخصوصاً إمكان محاصرتنا من ثلاث
جهات، عدا البحر فهو يحمينا ويسند ظهرنا. .والجسور فهي حامية لصدورنا. .
وخلفنا ( الدورة )، ويمكن أن يكون تسلل القوى المناوئة منها. لذلك سنرسل
فوراً جماعة الهندسة كي يلغموا منطقة الجسور والدورة، وبعض المنافذ
الأخرى.
أكدّ " قا.ك" أن القوات المناوئة عُززت بخبراء إسرائيليين. إن الأفق
المنظور، وكل الحسابات تدل أو تؤشر إلى أن احتمالات عودة القتال واردة وفي
القريب العاجل.
صباح أسود. تمزقه القذائف. تنهمر غزيرة من كل صوب. تتراقص الأمواج على موسيقا جنائزية. ترتجّ الأبنية وتنهار السطوح.
فتحت الأرض أفواهها النتنة. ابتسمت الطرقات المتآكلة. الأشعة الخريفية تمرر
أصابعها، وتندسّ بين بيوت بيروت الشرقية. وحين تلتقي عينيَّ وترافق
الأدخنة المحزّمة بألسنة اللهب، يتلاشى نور الشمس. كأنني ألقي آخر نظرة على
هذا الموقع. وهذا ما كنت أتمنّاه!
كنت أتمنى أن نترك هذه الجسور إلى جهة ما. فالسماء تُنزل علينا مطراً
وحليّاً، وموتاً. يقذف البحر أوساخه وتتعالى أمواج المدّ. تغوز الأبنية في
جوف الأرض وتبتلعها النيران. تدوي الانفجارات. تدوّخ الفضاء. تفرغ خزانات
المحروقات أجوافها من البنزين والمازوت والكيروسين. سيارات محروقة. أكوام
اللحم البشري والعظام الممصوصة. تتدحرج الرؤوس وتقطع كالبطيخ..
لن تباغتنا القذائف. دخلنا العام الثاني. تعودنا دوّيها، وكذالك الرطوبة
المالحة. والنوم في الأقبية والزوايا. كنّا نتصور أن القذائف لن تصلها.
وبينما تختلط الأشياء أمامنا وتدور معارك ضروس حامية الوطيس، كان حيّان
متفائلاً، يخفف عنّا هذه الأعباء. يقول: يضيء الانفراج ساعات ما بعد
الظهيرة. يصدق أحياناً، وأحياناً أخرى تخيب نظرته وحدسه ويضمر تفاؤله. وفي
هذا اليوم بالذات كان صامتاً يتحسّس رأسه، معتقداً أن المنظار يتلبس رأسه
وعينيه، ورغم ذلك تشرق ابتسامته. تطلّ علينا كأنها وردة. تترافق مع ومضات
القذائف، وأزيز الرصاص. يغلق النافذة. يلتجئ إلى الزاوية لمتابعة مصادر
النيران.
لا خوف على مصادر نيراننا وطواقم الدبابات والهاونات، إنها محمّية حماية
جيدة في حفر وتحيطها جدران من أكياس التراب والرمل. علمتنا التجربة القاسية
كيفية حماية مواقعنا وعناصرنا، والتقليل قدر الإمكان من عدد الإصابات.
مضى اليوم الأول والثاني. . والثالث. تتابعت الأيام والقتال يشتد، وفي
أحيان يخفت صوته، فيسمح بالتنقل لفترات قصيرة والتحدث مع أبي سركيس الذي
وإن كان لم يشترك اشتراكاً مباشراً في القتال فهو يراقب التطورات على
الأرض، ويسمع الأخبار.يملك إمكانات وقدرات كبيرة على الربط بين السياسة
والحرب ويخلص إلى نتائج صحيحة. يساعدنا في مراقبة تحركات القوى المناوئة.
يبدي رأيه بثقة أمامنا، وبحضور "قا.ك" وبعض الضباط، لكنه يتشاءم أحياناً،
ممتعضاً من هول الخسائر، وأشكال التدمير المرئية وغير المرئية. ويتساءل
مقارناً بين ما يحدث في أواخر هذا القرن، وبين ما حدث في الحرب العالمية
الثانية.
بين لحظات التفاؤل، ولحظات التشاؤم تمر سريعاً أمام نافذة ذاكرته عائشة، تدّق عليها طرقات خفيفة.
يبتسم أبو سركيس يمطّ رقبته، يمدّها من النافذة. يدلّي رأسه. يحني قامته.
يتراجع بهدوء. تظل عيناه خلف الزجاج. يوزع بصره. ينثره وروداً على "الدورة"
و" برج حمود". يتفاءل أكثر حينما تصل إليه أغنيةٌ أوصرخة أو صوت. وسرعان
ما يلبي النداء، فيحمل الماء والطعام والذخائر وأدوات الإسعاف السريع.
يعتقد أن شيئاً ما يحدث. وكثيراً ما يزدحم ذهنه بالأحداث فلا يعرف ماذا
يفعل! يرتبك. تضغط انقباضات بقوة على عضلة قلبه. يتحرك لسانه بين فكّين
واهنين. تتأوه بجانبه أم سركيس وتئنّ. لا تتجاسر أو تقوى مثل زوجها على فتح
النافذة، واتخاذ القرارات السريعة.
أخذت مكانها في غرفة صغيرة تحت سلّم البيت. استقرت فيها. تتسلى مع القطط
الهاربة من أتون الحرب. تلتجئ إلى حضنها، ومثلها مثل القطط يعرفن مصادر
الأخطار والأماكن الآمنة. قطتان أليفتان، واحدة سوداء والثانية بيضاء
تنتقلان بين رجليها، وترافقانها أينما تحركت. ومنذ أن تركت عائشة " برج
حمود" غابت القطتان، ولم يعثر أبو سركيس وزوجه على أثر لهما. فتّشا كل
الأماكن والزوايا. بحثا عنهما في الأبنية المجاورة فلم يجداهما... استفسرا
تساءلا! لم يعرفا ماذا حلَّ بهما! ولا أحد يعلم حتى ذلك التاريخ ما
مصيرهما!
نترقّب انفراجاً قريباً وعاجلاً، أو حدثاً ومفاجأة، وبرقية جديدة تضع حدّاً
لآلامنا وأوجاعنا وانتظارنا. مضى عام، وعام آخر يمتد إلى اللانهاية.
عناصرنا موزعة ومشتتة في مناطق متباعدة عن بعضها. عام بشهوره الاثني عشر،
فتلت رؤوسنا. أشبعنا من الروائح النتنة. تقاذفتنا أمواج القلق والليل
والسهر. تعرّفنا أوجاعها وبقع النزف في جسدها. تجرعنا الصعاب. تمترسنا خلف
أكمات مرابض الأسلحة المختلفة. ازددنا خبرة في ترميز تقارير القتال، وفك
رموز الشيفرة والرد على البرقيات الصادرة من رتب أعلى!
رسمنا بيروت فوق أغشية قلوبنا. نرى صورتها كل يوم على شاشات أرواحنا وأغلفة
دواخلنا. حفظنا مواقعها وشوارعها وأسواقها. عيّنا إحداثياتها وحالات
الدفاع والهجوم. عرفناها في الحرب وفي السلم. توطدت صداقاتنا مع أبنائها
الطيبين والصادقين، ومع المدافعين عنها، وعن سعادة أهلها.
كانت الرياح تدفع أمامها أملاً مطوياً في رسالة ومحفوظاً في مغلف صغير.
الرحيل يجوب أفكارنا وأحلامنا و يخترق تصوراتنا. لا مجال إلاَّ الرحيل،
هكذا اتفقت جميع الأطراف المتنازعة!
كل هذه الأحداث والأمور والقضايا الصغيرة والكبيرة والمتاعب والقلق، تتجمع
في أحشاء عائشة، وهي لم تغب عنها لحظة واحدة. تستمر في رصدها، وتفكر في كل
الاحتمالات التي ستحدث وفي كل الجزئيات المتناثرة في حياة المدينة
الملتهبة. تفكر في تأمين الخبز للناس والحليب للأطفال. تتصور أن المستقبل
المقتول الضائع غير معروف الآن ولم تصدق أية تنبؤات عنه.
في ليلة هادئة، غيومها رقيقة بيضاء، كان القمر في مواجهتنا يمدّ ضوءه إلينا. عيناه تتسمران في وجوهنا، كأنه يأخذ صوراً للذكرى.
تنهّد حيّان! ارتفعت أنفاسه وهبطت خامدة، وتعبة.
- اتركني يا محمود، سأضع وجهي في فضاء النافذة بمواجهة البدر. إنها تقف بين
وجهين. يحاصرها وجهان وأربع عيون. تزنّرها ابتسامتان بأحزمة الشوق.
اتركيني أتمعّن وأدقق، فالذكريات حُبلى بالغثيان. روحي سائبة، حائرة، تائهة
في رمال الضياع. البعد مرض خطير موجع ومؤلم. أكاد أفقد جزءاً حميماً من
ذكرياتي. اشعر أن جمرة عاطفتي محاصرة بالدموع. تنطفئ وتتحول إلى رماد.
- أنظر في صفحة القمر وتضاريسه ألا ترى أهداب عائشة وعينيها الوامضتين. . وغمازاتاها تعصران قطرات الندى.
يضحك و يضحك. يعبّ من لفافته أنفاساً من الترقب واشتهاء الرحيل. يدير رأسه،
يحركه، يوجه بصره إلى الدفء. هناك وراء خط التماس، ويتوجّس الأمل المصرور
في زوايا أحشائه التي لم تطلها بعد وتصلها خيوط المرارة والنزيف. إنه يختزن
في أقبية جوّانية قريبة من القلب أموراً ليس الوقت يصلح للبوح بها! ربما
يتركها للرحيل، ربما يدفنها، ويلبس الثياب السوداء، علّها تغفر له، وتشفق
عليه، وتعود كما كانت قريبة من القلب.
أسئلة تطرح نفسها عليّ: هل يسبقنا إلى جسر الموت؟ هل يقتحم بوابة المتحف؟
هل يتدحرج ويسقط في نهر بيروت ويختصر المسافة والزمن؟ ماذا يخبئ؟ هذا ما
ظلّ عالقاً في ذهني ولم أجد الجواب الوافي والشافي عليه!
منذ الوداع الأخير أخذ جسمه ينوس ويذوي، غابت عن وجنتيه المتوردتين الحُمرة
والضوء. بشرته صفراء. عيناه ذابلتان. حزينتان. ازداد استهلاكه للسجائر،
وقلّ نومه. قلق وقلق. تورّم الأفكار. أحلام أجهضتها المتاعب، وتراجعت
مقهورة فوجدت أرواحها ممزقة، مشردة، بلا مأوى !
ما رأيك بالرحيل؟
ها قد مضى على خدمتك الإلزامية أكثر من ثلاث سنوات. أمر التسريح محفوظ في
الذاتية. فهمت من صمته المتواصل أنه يفضّل البقاء قرب عائشة. وأيقنت أنه
وفي أقرب فرصة، وفيما إذا صدر أمر التسريح سينتقل إلى بيروت الغربية، ويفتش
عنها.
هذه الليلة، ليلة مجنونة. كتبنا فيها صفحات من التأملات، بين القمر والغيم
والجسر والرحيل وعائشة. ليلة يصعب رسم وجهها أو تخطيطه على الورق - من أجل
بقائها محفوظة في قلوبنا وخوفاً من طلقة طائشة تمزقها - أردت أن أسجّل
مذكراتي في دفتر خاص وأتركه في هذا المكان. ربما جاءت، كانت متشوقة
للقراءة، فتتذكر أوجاعنا، وإذا تذكرت ستبدأ تمسد فخذيها ونهديها وجوانب
الهشيم حول قلبها. ستترك شعرها يسبح في الفضاء وبعضه يعبث فوق وجهها
ويتطاير. آنذاك أكون قد تركت شيئاً لبيروت بعيداً عن المهووسين
والمخمورين.
بدأ وجه القمر يحترق، ووهج الحرائق يتصاعد ألسنة على سلالم الموت نحو
السماء. غابت، بل ضاعت البقع المضيئة والعدسات التي تعكس ابتسامة الليل.
يخبو الأمل المسروق من بقايا فرحنا.
وفي آخر نشرة إخبارية لإذاعة " مونتي كارلو". " نترككم مع مراسلنا في بيروت"
أغلق حيّان النافذة. بدأ المراسل يتلو التقرير. يتهدّج صوته كأنه يبكي، وبيروت تموت وتتمزق إلى أشلاء.
- المعارك حاسمة يا حيّان، وهذا يُضعف الأمل بالعودة أو حتى الحلم.
- استمع يا محمود. . تابع المذيع " بيروت تودع بيروت. هيروشيما تنتحر.
تتساقط أبنيتها. الجثث تملأ الشوارع. لم يفسح المجال أمام سيارات الإسعاف
والصليب الأحمر لنقل المصابين والجرحى إلى المشافي. الموتى والجرحى
بالمئات. ولا توجد حتى هذا الوقت إحصائيات دقيقة. جسر الموت تنتحر القذائف
فوقه وتقسمه إلى نصفين. واحد لبيروت الشرقية، وواحد لبيروت الغربية. منطقة "
الدورة" تلتهب"
تلتزم قواتنا وتحترم وقف إطلاق النار. القوى المناوئة تستنجد بتل أبيب. ستستبدل بالقوات السورية قوات عربية.
سمع حيّان الخبر فقفز إلى النافذة المفتوحة. حدّق في وجه القمر، جثّة تغادر السماء إلى أي مكان آخر!
- لقد سقط القمر قرب بيروت، أراه ينتحر فوق البحر. لا أميزّ الآن بين الأرض
والسماء، كأنهما يلتحمان في جسد واحد كعروسين. انظر الصواريخ الضاحكة
والقذائف المزعورة مشحونة بـ " الفرح" وأصوات المدفعية من عيار "155 مم"
قادمة من " الضبيّة".
- أصبحت خبيراً عسكرياً!
استمر المذيع في تلاوة التقرير عن ليلة حمقاء. استمر في تغطية الأحداث حتى
آخر ساعة، كأنه في جنازة، يُلقي كلمة أهل الفقيد. يقف على حافة القبر....
وتابع "تجري الآن مشاورات بين الأطراف المتقاتلة، لوقف إطلاق النار. تستعد
قوات فرنسية وأمريكية للتحرك إلى الشاطئ. ونقل رعاياها من العاصمة
اللبنانية. قداسة البابا يوحنا يصلّي ويتضرّع إلى الله بصلوات لإنقاذ
بيروت". ويختم المذيع تقريره قائلاً:
" يبقى الأمل عند الجميع بإيقاف الاقتتال، وأن مشاورات كثيفة ومسؤولة ستجري
في صباح الغد بين ممثلين عن الحكومة السورية والحكومة اللبنانية".
أغلق حيّان المذياع. ساد صمت متكسّر يجثو على قدميه. استمرت طلقات تائهة
تقلق أجواء المدينة الجريحة. ظلَّ جسد عائشة يتفتت. يذوب لحمها مع عظامها،
ويحترق. ولافرق في مثل هذه الحالة بين الجسد والروح. الاثنان يندمجان في
تابوت واحد. تستمر النيران وبقايا ألسنة تلتهم شعرها. لكن عينيها بقيتا
تراقبان آخر محطات الليلة الحزينة.
جففت الحرائق دموعها.ارتفعت الأبخرة مرّة نحو السماء. وحين مسحت غيمة وجه
القمر وغسلته، ظهرت بعض البقع، وبقيت آلاف الصور مهشمة. تتجمع بعض الغيوم
من جديد حول القمر تدفن عينيه تحت أجنحتها، ثم تتقطع وتحملها الرياح
وتوزعها...
آخر غيمة ظللت وجه القمر بفيئها حملت أخباراً مصورة، توجهت إلى الناس قائلة
" تعالوا إلى بيروت. جسدها يتلظى. تعالوا أحملوا منظارها. فتشوا بأنفسكم
عن المآسي. قدموا خبز الحياة إلى أطفالنا كيلا يموتوا، وتدفن هذه البذور،
لأنها وبعد هذا التاريخ ستحبل بمواليد مشوهين. أما رحمها فقد جفّ. أصبح
العقم الأبدي عصيّاً على الطب. ولم تَعُد الأدوية تنفع. وإذا أصبحت عائشة
عقيمة فستموت بيروت ولا تزهر إلى الأبد، ويموت من بقي فيها، ولن يبقى سوى
الفقراء الذين لا يملكون ثمن قوتهم اليومي".
تساءل حيّان :- هل نفقد عائشة طوال العمر ولن نراها أبداً؟
- لا : خيالك يجنح إلى التشاؤم. ستحيا من جديد!.
- إنها تبكي منذ زمن. وليست هذه الليلة الوحيدة المخصصة للعويل.
أتعتقد هكذا، دون إيجاد المبررات الصحيحة والتصورات الواقعية!
- لا جديد في موقفي ولن أُغيره ما دامت الأحوال لم تتغير!
- منذ قدومنا كانت السماء ملبّدة بالغيوم. وهذه الليلة كبقية الأيام والليالي الماضية.
- صحيح هذا الكلام. الآلام نفسها وإن كانت الآن أشدّ قليلاً.
- القمر يحترق ومازال، والغيوم تغطي وجه البحر.
- لاتنطبق أقوالنا أو تتوافق مع مجريات الأحداث.
- دائماً نقول ونتنبأ بالموت، ولكننا نفاجأ بأنها مازالت صابرة. تغسل وجهها
كالعادة وتسرح شعرها، وتحمل المنظار علّها ترانا. فهي كالأم الحنون تفتش
عن أطفالها وناسها وبشرها دائماً وأبداً. ففي كل مرة وبعد انتهاء المعارك
كانت تحمل أوزار الموت. تحيا من جديد. يتضامن معها أناس يحبون الحياة.
قلوبهم معها على الرغم من أن الكثيرين من هؤلاء لا يعرفونها، لكنهم يسمعون
عنها. ويتناقلون قصص بطولاتها، وعندما يعرفون تهون أوجاعهم، وتخف مرارتهم.
إنهم يرونها صورة في وجه القمر وعلى صفحة مياه البحر وفوق صخور الشواطئ
وبين الجرود والوهاد والأودية وفي الفوهات السوداء وفوق جسر الموت وأمام
بوابة المتحف، ومن خلال هذه الأشلاء الموزعة على الدروب والجثث الموزعة،
الملقاة قربنا.
وعائشة تفكر أيضاً بالجميع. صاحية. فقدت أعضاءها، لكن روحها بقيت تتجسد في
أهلها ومحبيها، وتكسوهم أملاً، تطمئنهم، بأن يوم الخلاص يقترب مهما كانت
السنوات عجافاً وتعرفهم، بان أصعب المواقف هي الموازنة بين الحياة والموت
وأي خلل بين الطرفين يعدُّ هروباً وموتاً.
متاهات. . قذائف تخفت أصواتها. يسقط القمر وراء جبال الصمت البعيدة، وربما
يسقط في البحر ليزيل عن وجهه وجسمه غبار الحرائق ودخانها. ربما ستزور في
الصباح أشعة الشمس أبعد المناطق بدءاً من بيروت الشرقية حتى أقاصي الشمال
والجنوب.
ربما يخرج الناس من الملاجئ، وتعجّ بهم الشوارع والمقاهي والأسواق. ربما
تستيقظ عائشة وتنهض من فراشها تتفقد جسدها العاري. وتقفّز بصرها في الأبنية
تتابع بقايا أدخنة، ونيران.
ربما، هذا ما حصل، وتجمّع الجنود حول موائد الإفطار، يهمسون ويأكلون،
يتجاذبون الأحاديث والطرائف. ينقلون جمرة الليلة الماضية. يتدفؤون حولها
ولم يصدّقوا أن ليلة تفور وتغلي، وينصهر فيها الناس والسيارات والحجارة وكل
شيء مرَّ دون خسائر تُذكر!