عن أبي بن كعب أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “جاءني جبريل فقلت له: أخبرني عن فضائل عمر وماذا له عند الله، قال لي: يا محمد لو جلست معك بقدر ما لبث نوح في قومه لم أستطع أن أخبرك بفضائل عمر وما له عند الله عز وجل، ثم قال: يا محمد، ليبكين الإسلام من بعد موتك على عمر”. (1)
وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن النبي أنه قال: “بينما أنا نائم رأيتني في الجنة، فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر، فقلت: لمن هذا القصر؟ قالوا لعمر، فذكرت غيرته فوليت مدبرا”، فبكى عمر وقال: أعليك أغار يا رسول الله؟ (2)
ذلك هو عمر بن الخطاب: أمير المؤمنين، الخليفة الثاني لرسول الله، الفاروق الذي فرق الله عز وجل به بين الحق والباطل، رجل الموافقات الذي نزلت آيات القرآن الكريم مؤيدة وموافقة لكثير من الآراء التي أشار بها على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي قال فيه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: “كان والله حليف الإسلام، ومأوى الأيتام، ومحل الإيمان، ومنتهى الإحسان، ومأوى الضعفاء، ومعقل الخلفاء، كان للحق حصنا، وللناس عوناً، بحق الله صابراً محتسباً حتى أظهر الدين وفتح الديار، وقورا لله في الرخاء والشدة، شكورا له في كل وقت، وكان نقش خاتمه “المعين لمن صبر”، والذي قال عنه حذيفة بن اليمان: “إنما مثل الإسلام أيام عمر مثل امرئ مقبل لم يزل في إقبال، فلما قتل أدبر فلم يزل في إدبار”، وقال عنه عبد الله بن مسعود: “إن عمر كان حصناً حصيناً للإسلام يدخل الناس منه ولا يخرجون منه”. (3)
وقالت عنه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: “كان رسول الله جالساً، فسمعنا لغطا وصوت صبيان، فقام رسول الله فإذا حبشية تزمن أي تغني وتضرب بالدف والصبيان حولها، فقال: تعالي فانظري، فجئت فوضعت لحيي على منكب رسول الله - تستتر به وهي تنظر للمغنية- فجعلت أنظر إليها، فقال: أما شبعت؟ فجعلت أقول لا لأنظر مكانتي عنده، إذ طلع عمر فانفضّ الناس عنها -أي تفرقوا خوفا من عمر فقال رسول الله إني لأنظر إلى شياطين الإنس والجن قد فروا من عمر: قالت: فرجعت”. (4)
من الخوف الى الشجاعة
إنه أحد العمرين اللذين دعا النبي ربه بأن يعز الإسلام بأحدهما فاستجاب الله الدعاء وأعز الإسلام بعمر بن الخطاب الذي كان إسلامه في العام السادس من البعثة النبوية الشريفة نقطة تحول في تاريخ الإسلام والمسلمين حيث خرجت الدعوة من الخفاء إلى العلن ومن الخوف إلى الشجاعة، وبعد أن كان المسلمون يؤدون شعائرهم سرا صاروا يرتادون المسجد الحرام جهراً، فبعد إسلام حمزة بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما صار المسلمون في قوة ومنعة، فلما أسلم عمر قال للنبي يا رسول الله؟ علام نخفي ديننا ونحن على الحق وهم على الباطل؟ فقال النبي إنا قليل، فقال عمر: والذي بعثك بالحق نبيا لا يبقى مجلس جلست فيه بالكفر إلا جلست فيه بالإيمان، وقد كان، لم يترك عمر مجلسا جلس فيه بالكفر إلا جلس فيه وأعلن إسلامه أمام قريش غير هياب ولا وجل، ولدى إسلامه قاد المسلمين هو وحمزة في صفين إلى المسجد الحرام ليصلوا دون أن يجرؤ أحد من مشركي قريش على أن يصيبهم بأذى.
ومنذ أن أسلم عمر بن الخطاب ومحبته لرسول الله تملأ قلبه وتفيض في وجدانه وتملك عليه روحه، فكان ملازماً له لا يفارقه حتى إن عليا بن أبي طالب كرم الله وجهه قال: كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “كنت وأبو بكر وعمر، وفعلت وأبو بكر، وانطلقت وأبو بكر وعمر” (5) ولذلك كان عمر من أكثر من رووا عن النبي. وبلغ من محبة عمر بن الخطاب للنبي أنه عندما قبض النبي وبلغ الخبر عمر لم يكن يصدقه وتهدد من يقولون به حتى قال أبو بكر الصديق قولته المشهورة: “من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت”، وتلا الآية الكريمة: “وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين” (6). فأدرك عمر الهول وما كادت تحمله رجلاه، وقد قال ابن إسحاق عن حسين بن عبد الله عن عكرمة عن عبد الله بن عباس قال: “والله إني لأمشي مع عمر في خلافته وهو عامد إلى حاجة له وفي يده الدرة وما معه غيري، قال وهو يحدث نفسه ويضرب وحشي قدمه بدرته قال إذ التفت إليّ: أتدري يا ابن عباس ما كان حملني على مقولتي التي قلت حين توفي رسول الله؟ قلت: لا أدري يا أمير المؤمنين، أنت أعلم، قال: فإنه والله إن كان الذي حملني على ذلك إلا أني كنت أقرأ هذه الآية: “وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا” (7) “فوالله إني كنت لأظن أن رسول الله سيبقى في أمته حتى يشهد عليها بآخر أعمالها فإنه للذي حملني على أن قلت ما قلت” (8).
هكذا أمر الله
وكان عمر قويا في الحق ولو على نفسه ومن يحب، بل خصوصاً على نفسه ومن يحب، وإن المواقف التي تؤكد ذلك أكثر من أن تحصى أو تعد، ولكننا نتوقف أمام هذا الموقف الذي يتعذر بل يستحيل أن يتكرر، فقد أقام عمر الحد على أحد أعز أبنائه لديه، ولم تشفع له توبته ولا شفاعة أمه فيه وبكاء المسلمين الحاضرين حتى مات ابنه بين يديه، ففي أحد الأيام كان عمر جالساً في المسجد والناس حوله، فأقبلت جارية فقالت: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فقال عمر: وعليك السلام ورحمة الله، ألك حاجة؟ قالت: نعم، خذ ولدك هذا مني، قال عمر: إني لا أعرفك، فبكت الجارية وقالت: يا أمير المؤمنين إن لم يكن ولدك من ظهرك فهو ولد ولدك، قال: أي أولادي؟ قالت: أبو شحمة، قال: أبحلال أم بحرام؟ قالت: من قبلي بحلال ومن جهته بحرام، قال عمر: وكيف ذاك؟ اتقي الله ولا تقولي إلا حقاً، وروت الجارية قصتها قالت: يا أمير المؤمنين، كنت مارة في أحد الأيام إذ مررت بحائط لبني النجار، إذ أتى ولدك أبو شحمة يتمايل سكراً، وكان شرب عنده نسيكة اليهودي، فراودني عن نفسي وجرني إلى الحائط ونال مني وقد أغمي عليّ، فكتمت أمري عن عمي وجيراني حتى أحسست بالولادة فخرجت إلى موضع كذا ووضعت هذا الغلام، وهممت بقتله ثم ندمت على ذلك، فاحكم بحكم الله بيني وبينه.
أمر عمر منادياً ينادي فأقبل الناس يهرعون إلى المسجد، ثم قام عمر فقال: لا تتفرقوا حتى آتيكم، ثم خرج فقال لعبد الله بن عباس رضي الله عنه: يا ابن عباس أسرع معي، فأتى منزله فقرع الباب وقال: هاهنا ابني أبو شحمة، فقيل له: إنه على الطعام، فدخل عليه وقال: كل يا بني فيوشك أن يكون آخر زادك، فسقطت اللقمة من يده من الفزع.
قال عمر لابنه: يا بني من أنا؟ قال: أنت أبي وأمير المؤمنين، قال عمر: فلي من طاعة أم لا؟ قال طاعتان مفترضتان، لأنك والدي وأمير المؤمنين، فسأله عمر عن الواقعة فأقر الغلام بها، وقال إنه ندم وتاب إلى الله، وفوض أمره إلى أبيه إن شاء أن يقتله ولا يفضحه، فاقتاده عمر إلى المسجد، وكان له مملوك يقال له أفلح، فأمره أن يجلده مائة جلدة، فنزع أفلح ثياب الغلام بينما الناس في المسجد يبكون، وتوسل الغلام لعمر قائلاً: يا أبت ارحمني، قال عمر: ربك يرحمك، إنما أفعل ذلك ليرحمني ويرحمك.
فإذا بلغ عدد الجلدات التي تلقاها الغلام ثمانين جلدة برح به الألم فصرخ قائلاً: يا أبت السلام عليك، فقال: وعليك السلام، إن رأيت محمداً فأقرئه مني السلام وقل له خلفت عمر يقرأ القرآن ويقيم الحدود، فلما بلغت الجلدات تسعين انقطع كلامه وخارت قواه، فقال له الصحابة: يا عمر، انظر كم بقي فأخره إلى وقت آخر، فقال: كما لم يؤخر المعصية لا تؤخر العقوبة.
ووصل الصراخ إلى أم الغلام فجاءت إلى عمر باكية صارخة: يا عمر أحج بكل سوط حجة ماشية وأتصدق بكذا وكذا درهم، فقال: إن الحج والصدقة لا ينوبان عن الحد، يا غلام تمم الحد، فلما كانت آخر جلدة سقط الغلام ميتاً، فقال عمر وهو يصيح: يا بني محص الله عنك الخطايا، ثم جعل رأسه في حجره وهو يبكي، فضج الناس بالبكاء والنحيب.
حتى إذا مر أربعون يوماً قال حذيفة بن اليمان: “ إني رأيت رسول الله في المنام وإذا الفتى معه وعليه حلتان خضراوان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقرئ عمر مني السلام وقل له: هكذا أمرك الله أن تقرأ القرآن وتقيم الحدود، وقال الغلام: يا حذيفة أقرئ أبي السلام وقل له: طهرك الله كما طهرتني” (9). وهكذا ضحى عمر بابنه ليقيم شرع الله.
المراجع
1- من فضائل العشرة المبشرين بالجنة: محمود السعيد الطنطاوي، طبعة المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بالقاهرة 2002م، 1423 ه ص 98
2- المرجع نفسه ص 105
3- المرجع نفسه ص 104
4- رواه الترمذي
5- رواه البخاري
6- سورة آل عمران: آية 144
7- سورة البقرة: آية 143
8-سيرة النبي: أبو محمد عبد الملك بن هشام، سلسلة كتاب التحرير بالقاهرة، ط 1384ه الجزء الرابع ص 269
9- بتصرف عن كتاب: من فضائل العشرة المبشرين بالجنة ص ،63 56
السيد عبد الرؤوف
منقول من جريدة الخليج
الإمارات
11-11-2004
وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن النبي أنه قال: “بينما أنا نائم رأيتني في الجنة، فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر، فقلت: لمن هذا القصر؟ قالوا لعمر، فذكرت غيرته فوليت مدبرا”، فبكى عمر وقال: أعليك أغار يا رسول الله؟ (2)
ذلك هو عمر بن الخطاب: أمير المؤمنين، الخليفة الثاني لرسول الله، الفاروق الذي فرق الله عز وجل به بين الحق والباطل، رجل الموافقات الذي نزلت آيات القرآن الكريم مؤيدة وموافقة لكثير من الآراء التي أشار بها على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي قال فيه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: “كان والله حليف الإسلام، ومأوى الأيتام، ومحل الإيمان، ومنتهى الإحسان، ومأوى الضعفاء، ومعقل الخلفاء، كان للحق حصنا، وللناس عوناً، بحق الله صابراً محتسباً حتى أظهر الدين وفتح الديار، وقورا لله في الرخاء والشدة، شكورا له في كل وقت، وكان نقش خاتمه “المعين لمن صبر”، والذي قال عنه حذيفة بن اليمان: “إنما مثل الإسلام أيام عمر مثل امرئ مقبل لم يزل في إقبال، فلما قتل أدبر فلم يزل في إدبار”، وقال عنه عبد الله بن مسعود: “إن عمر كان حصناً حصيناً للإسلام يدخل الناس منه ولا يخرجون منه”. (3)
وقالت عنه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: “كان رسول الله جالساً، فسمعنا لغطا وصوت صبيان، فقام رسول الله فإذا حبشية تزمن أي تغني وتضرب بالدف والصبيان حولها، فقال: تعالي فانظري، فجئت فوضعت لحيي على منكب رسول الله - تستتر به وهي تنظر للمغنية- فجعلت أنظر إليها، فقال: أما شبعت؟ فجعلت أقول لا لأنظر مكانتي عنده، إذ طلع عمر فانفضّ الناس عنها -أي تفرقوا خوفا من عمر فقال رسول الله إني لأنظر إلى شياطين الإنس والجن قد فروا من عمر: قالت: فرجعت”. (4)
من الخوف الى الشجاعة
إنه أحد العمرين اللذين دعا النبي ربه بأن يعز الإسلام بأحدهما فاستجاب الله الدعاء وأعز الإسلام بعمر بن الخطاب الذي كان إسلامه في العام السادس من البعثة النبوية الشريفة نقطة تحول في تاريخ الإسلام والمسلمين حيث خرجت الدعوة من الخفاء إلى العلن ومن الخوف إلى الشجاعة، وبعد أن كان المسلمون يؤدون شعائرهم سرا صاروا يرتادون المسجد الحرام جهراً، فبعد إسلام حمزة بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما صار المسلمون في قوة ومنعة، فلما أسلم عمر قال للنبي يا رسول الله؟ علام نخفي ديننا ونحن على الحق وهم على الباطل؟ فقال النبي إنا قليل، فقال عمر: والذي بعثك بالحق نبيا لا يبقى مجلس جلست فيه بالكفر إلا جلست فيه بالإيمان، وقد كان، لم يترك عمر مجلسا جلس فيه بالكفر إلا جلس فيه وأعلن إسلامه أمام قريش غير هياب ولا وجل، ولدى إسلامه قاد المسلمين هو وحمزة في صفين إلى المسجد الحرام ليصلوا دون أن يجرؤ أحد من مشركي قريش على أن يصيبهم بأذى.
ومنذ أن أسلم عمر بن الخطاب ومحبته لرسول الله تملأ قلبه وتفيض في وجدانه وتملك عليه روحه، فكان ملازماً له لا يفارقه حتى إن عليا بن أبي طالب كرم الله وجهه قال: كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “كنت وأبو بكر وعمر، وفعلت وأبو بكر، وانطلقت وأبو بكر وعمر” (5) ولذلك كان عمر من أكثر من رووا عن النبي. وبلغ من محبة عمر بن الخطاب للنبي أنه عندما قبض النبي وبلغ الخبر عمر لم يكن يصدقه وتهدد من يقولون به حتى قال أبو بكر الصديق قولته المشهورة: “من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت”، وتلا الآية الكريمة: “وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين” (6). فأدرك عمر الهول وما كادت تحمله رجلاه، وقد قال ابن إسحاق عن حسين بن عبد الله عن عكرمة عن عبد الله بن عباس قال: “والله إني لأمشي مع عمر في خلافته وهو عامد إلى حاجة له وفي يده الدرة وما معه غيري، قال وهو يحدث نفسه ويضرب وحشي قدمه بدرته قال إذ التفت إليّ: أتدري يا ابن عباس ما كان حملني على مقولتي التي قلت حين توفي رسول الله؟ قلت: لا أدري يا أمير المؤمنين، أنت أعلم، قال: فإنه والله إن كان الذي حملني على ذلك إلا أني كنت أقرأ هذه الآية: “وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا” (7) “فوالله إني كنت لأظن أن رسول الله سيبقى في أمته حتى يشهد عليها بآخر أعمالها فإنه للذي حملني على أن قلت ما قلت” (8).
هكذا أمر الله
وكان عمر قويا في الحق ولو على نفسه ومن يحب، بل خصوصاً على نفسه ومن يحب، وإن المواقف التي تؤكد ذلك أكثر من أن تحصى أو تعد، ولكننا نتوقف أمام هذا الموقف الذي يتعذر بل يستحيل أن يتكرر، فقد أقام عمر الحد على أحد أعز أبنائه لديه، ولم تشفع له توبته ولا شفاعة أمه فيه وبكاء المسلمين الحاضرين حتى مات ابنه بين يديه، ففي أحد الأيام كان عمر جالساً في المسجد والناس حوله، فأقبلت جارية فقالت: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فقال عمر: وعليك السلام ورحمة الله، ألك حاجة؟ قالت: نعم، خذ ولدك هذا مني، قال عمر: إني لا أعرفك، فبكت الجارية وقالت: يا أمير المؤمنين إن لم يكن ولدك من ظهرك فهو ولد ولدك، قال: أي أولادي؟ قالت: أبو شحمة، قال: أبحلال أم بحرام؟ قالت: من قبلي بحلال ومن جهته بحرام، قال عمر: وكيف ذاك؟ اتقي الله ولا تقولي إلا حقاً، وروت الجارية قصتها قالت: يا أمير المؤمنين، كنت مارة في أحد الأيام إذ مررت بحائط لبني النجار، إذ أتى ولدك أبو شحمة يتمايل سكراً، وكان شرب عنده نسيكة اليهودي، فراودني عن نفسي وجرني إلى الحائط ونال مني وقد أغمي عليّ، فكتمت أمري عن عمي وجيراني حتى أحسست بالولادة فخرجت إلى موضع كذا ووضعت هذا الغلام، وهممت بقتله ثم ندمت على ذلك، فاحكم بحكم الله بيني وبينه.
أمر عمر منادياً ينادي فأقبل الناس يهرعون إلى المسجد، ثم قام عمر فقال: لا تتفرقوا حتى آتيكم، ثم خرج فقال لعبد الله بن عباس رضي الله عنه: يا ابن عباس أسرع معي، فأتى منزله فقرع الباب وقال: هاهنا ابني أبو شحمة، فقيل له: إنه على الطعام، فدخل عليه وقال: كل يا بني فيوشك أن يكون آخر زادك، فسقطت اللقمة من يده من الفزع.
قال عمر لابنه: يا بني من أنا؟ قال: أنت أبي وأمير المؤمنين، قال عمر: فلي من طاعة أم لا؟ قال طاعتان مفترضتان، لأنك والدي وأمير المؤمنين، فسأله عمر عن الواقعة فأقر الغلام بها، وقال إنه ندم وتاب إلى الله، وفوض أمره إلى أبيه إن شاء أن يقتله ولا يفضحه، فاقتاده عمر إلى المسجد، وكان له مملوك يقال له أفلح، فأمره أن يجلده مائة جلدة، فنزع أفلح ثياب الغلام بينما الناس في المسجد يبكون، وتوسل الغلام لعمر قائلاً: يا أبت ارحمني، قال عمر: ربك يرحمك، إنما أفعل ذلك ليرحمني ويرحمك.
فإذا بلغ عدد الجلدات التي تلقاها الغلام ثمانين جلدة برح به الألم فصرخ قائلاً: يا أبت السلام عليك، فقال: وعليك السلام، إن رأيت محمداً فأقرئه مني السلام وقل له خلفت عمر يقرأ القرآن ويقيم الحدود، فلما بلغت الجلدات تسعين انقطع كلامه وخارت قواه، فقال له الصحابة: يا عمر، انظر كم بقي فأخره إلى وقت آخر، فقال: كما لم يؤخر المعصية لا تؤخر العقوبة.
ووصل الصراخ إلى أم الغلام فجاءت إلى عمر باكية صارخة: يا عمر أحج بكل سوط حجة ماشية وأتصدق بكذا وكذا درهم، فقال: إن الحج والصدقة لا ينوبان عن الحد، يا غلام تمم الحد، فلما كانت آخر جلدة سقط الغلام ميتاً، فقال عمر وهو يصيح: يا بني محص الله عنك الخطايا، ثم جعل رأسه في حجره وهو يبكي، فضج الناس بالبكاء والنحيب.
حتى إذا مر أربعون يوماً قال حذيفة بن اليمان: “ إني رأيت رسول الله في المنام وإذا الفتى معه وعليه حلتان خضراوان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقرئ عمر مني السلام وقل له: هكذا أمرك الله أن تقرأ القرآن وتقيم الحدود، وقال الغلام: يا حذيفة أقرئ أبي السلام وقل له: طهرك الله كما طهرتني” (9). وهكذا ضحى عمر بابنه ليقيم شرع الله.
المراجع
1- من فضائل العشرة المبشرين بالجنة: محمود السعيد الطنطاوي، طبعة المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بالقاهرة 2002م، 1423 ه ص 98
2- المرجع نفسه ص 105
3- المرجع نفسه ص 104
4- رواه الترمذي
5- رواه البخاري
6- سورة آل عمران: آية 144
7- سورة البقرة: آية 143
8-سيرة النبي: أبو محمد عبد الملك بن هشام، سلسلة كتاب التحرير بالقاهرة، ط 1384ه الجزء الرابع ص 269
9- بتصرف عن كتاب: من فضائل العشرة المبشرين بالجنة ص ،63 56
السيد عبد الرؤوف
منقول من جريدة الخليج
الإمارات
11-11-2004