الرسول محرر العبيد
انطلقت "ثويبة" جارية أبي لهب إلى
سيدها تبشره بمولد ابن أخيه "محمد" صلى الله عليه وسلم . طغت السعادة على
قلب العم بمولد اليتيم ليكون عوضا لبني هاشم عن موت أبيه عبد الله قبل ذلك
بأسابيع . و لم يجد "أبو لهب" ما يكافئ به "ثويبة" على تلك البشرى السعيدة
سوى أن يُعْتقها (1) .
وهكذا كان مجرد مولده الشريف سببا في تحرير
تلك السيدة التي أرضعته فترة قبل أن تتولى السيدة "حليمة السعدية" تلك
المهمة النبيلة .. وتلك إشارة واضحة إلى أن المولد الشريف كان إيذانا ببدء
عملية "التحرير" الكبرى للبشر – كل البشر– من العبادة والعبودية لغير الله
الواحد القهار . وقد ورث صلى الله عليه وسلم عن أبيه جارية واحدة هي
حاضنته "أم أيمن" (2) . وفور بلوغه مبلغ الرجال أعتقها عليه السلام ،
وزوّجها من مولاه زيد بن حارثة الذي أعتقه هو الآخر كما سيأتي . وكان يحسن
دوما إلى ثويبة وأم أيمن ، ويقول عن الأخيرة : "هذه بقية أهل بيتي" .
وكانت
زوجته السيدة خديجة رضي الله عنها ترسل الطعام والشراب إلى "ثويبة" مرضعة
زوجها . كما كانت أم أيمن تحتد أحيانا في حديثها معه - بما لها عليه من حق
لحضانتها اياه من قبل - فما كان عليه السلام يزيد على الابتسام .. وثبت
أنه صلى الله عليه وسلم قال : "من سرّه أن يتزوّج امرأة من أهل الجنة
فليتزوج أم أيمن" ، فتزوجها زيد بن حارثة ، وولدت له أسامة بن زيد حبيب
الرسول صلى الله عليه وسلم .
وأورد ابن سعد في الطبقات الكبرى كذلك
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول لأم أيمن : "يا أمّه" (3) .. أي
تشريف وأي مقام رفيع بلغته جارية في أمة من الأمم مثلما بلغت أم أيمن رضي
الله عنها ؟ لقد رفعها النبي عليه السلام إلى مقام أمه ، فهل هناك من هي
أرفع منزلة من أم سيد ولد آدم أجمعين ؟!! . وهناك أيضا كرامة من الله
للسيدة أم أيمن رضي الله عنها . فعندما هاجرت أصابها عطش شديد في الطريق
ولم يكن معها ماء ، وكانت صائمة ، فنزل عليها من السماء دلو أبيض ممتلئ
بالماء فشربت منه حتى رويت .. وكانت تقول : ما أصابني بعد ذلك عطش – بسبب
الماء الذي نزل عليها من السماء – ولقد كانت تصوم في الأيام الشديدة الحرّ
فما تشعر بعطش بعد تلك الشربة المباركة . والقصة أوردها ابن سعد في ترجمة
أم أيمن . وكان الرسول يداعبها ، قالت له يوما : احملني – أي أعطني ناقة
أركبها وأتنقل عليها ، فرد عليه السلام : "أحملك على ولد الناقة" قالت :
يا رسول الله إنه لا يطيقني ولا أريده . قال : "لا أحملك إلا على ولد
الناقة" . علق ابن سعد قائلا : "يعني أنه كان يمازحها ، وكان النبي عليه
السلام يمزح ولا يقول إلا حقا ، والإبل كلها ولد النوق" . انتهى .
وكان
النبي يرضيها كما شاءت ، ومن ذلك أنه بعد فتح بني قريظة والنضير ، رد
النبي عليه السلام على المسلمين ما كانوا قد تبرعوا به للدعوة وأضياف
النبي من نخيل وإبل ، فقد جاءت الغنائم ببديل كاف . وكانت لأنس بن مالك
نخلات تبرع بها ، فجاء إلى النبي ليستردها كما استرد الناس ، وكان النبي
عليه السلام قد أعطاها لأم أيمن ، فرفضت ردها ، وأمسكت بخناق أنس بن مالك
، والرسول يبتسم قائلا لها : "لك كذا" ، فترد عليه "كلا والله" ، وظل
النبي صلى الله عليه وسلم يزيدها حتى أعطاها عشرة أمثال نخلات أنس بن مالك
لتتركها له . ولو حدث مثل هذا في أية أُمَّة أخرى للقيت الجارية التي
تتجرأ هكذا على سيدها – مصرعها في التو واللحظة ، لكنه النبي الذي أرسله
ربه "رحمة للعالمين" الأنبياء:107 . وعندما لقي الرسول صلى الله عليه وسلم
ربه اشتد بكاء " أم أيمن " وسألوها عن السبب فقالت : والله لقد علمت أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم سيموت ، ولكني إنما أبكي على الوحي إذ انقطع
عنا من السماء (4) .. ولذات السبب بكت " أم أيمن " عند استشهاد الخليفة
العظيم عمر بن الخطاب رضي الله عنه قائلة : اليوم وَهَى – ضعف – الإسلام
.. يا لها من سيدة عظيمة حكيمة فقهت ما عجز عن فهمه كثير من الرجال أمثال
هؤلاء الذين يتطاولون على الإسلام بالداخل والخارج ، ولا يدركون كيف أعلى
الإسلام مكانة العبيد والجواري أمثال "أم أيمن" رضي الله عنها .
ويذكر
الإمام ابن القيم أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعتق ريحانة بنت زيد
وتزوجها ثم طلقها تطليقة . والمهم هنا ما رواه الواقدي وشرف الدين
الدمياطي من أن الرسول عليه السلام قد أعتقها بدورها . ثم يضيف ابن القيم
أنه عليه السلام أعتق أبا رافع ، وأسلم ، وثوبان ، وأبو كبشة سليم ،
وشقران واسمه صالح ، ورباح، ويسار، ومدعم، وكركرة وهم من النوبيين . كما
أعتق سفينة بن فروخ واسمه مهران، وأنجشة الحادي ، وأعتق أنيسة وكنيته أبو
مشروح ، وأفلح ، وعبيدة ، وطهمان قيل إن اسمه كيسان ، وذكوان ، ومهران ،
ومروان ، وكذلك حنين، وسندر، وفضالة، ومأبور، وأبو واقد، وواقد، وقسام،
وأبو عسيب، وأبو مويهبة رضي الله عن الجميع . وكذلك أعتق النبي سلمى أم
رافع، وميمونة بنت سعد، وخضيرة، ورضوى، وريشة، وأم ضمير، وميمونة بنت عسيب
رضي الله عنهن . وذكر الصنعاني في " سبل السلام "- كتاب العتق- نقلا عن
صاحب كتاب " النجم الوهاج " أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعتق ثلاثة
وستين نفسا بعدد سنوات عمره الشريف . وأعتقت زوجته السيدة عائشة رضي الله
عنها وحدها سبعة وستين عبدا وجارية بعدد سنوات عمرها أيضا . و أعتقت
السيدة خديجة بنت خويلد زوج النبي عليه السلام عشرات من العبيد والجواري
قبل وبعد الإسلام رضي الله عنها . وأعتقت السيدة أم سلمة عشرات العبيد رضي
الله عنها . والثابت من حديث البخاري عن جويرية أنه عليه السلام:" لم يترك
عند وفاته درهمًا ولا دينًارا ولا عبدًا ولا جارية ". وهذا وحده كاف للرد
على أولئك الحاقدين الذين لا يفهمون – أو يتجاهلون عمدا – كل تلك المواقف
التحريرية الخالدة في السيرة العطرة .
حبيب الله ورسوله
بل
إن قصة الصحابي الجليل " زيد بن حارثة " رضي الله عنها هي وحدها دليل قاطع
على منهج التحرير الإسلامي ، والمكانة السامية التي رفع الله إليها أولئك
العبيد الذين كانوا قبل الإسلام لا يُعَدّون شيئًا مذكورًا .
لقد
تعرض زيد رضي الله عنه في صغره للخطف ، ثم باعه القراصنة في سوق "عكاظ "
بمكة قبل الإسلام . واشتراه حكيم بن حزام ثم وهبه لعمته السيدة خديجة رضي
الله عن الجميع ، ثم وهبته بدورها لزوجها محمد صلى الله عليه وسلم فأعتقه
. وشاء القدر أن يستدل والد " زيد " وعمه على مكانه بمكة ، فجاءا إلى
النبي عليه السلام ، وعرضا عليه ما يشاء من المال مقابل اعادة ولدهما
إليهما . ولكن الكريم بن الكرام عليه السلام رفض المال ، وعرض عليهما ما
هو أنبل وأكرم ، وهو أن يتم تخيير " زيد " بين البقاء عند النبي أو العودة
مع أبيه وعمه إلى موطنه الأصلي ، فإن رغب في الرحيل مع أبيه وعمه فهو لهما
بلا أي مقابل ، وإن اختار البقاء مع النبي فله ذلك .. هل يفعل هذا بشر
غيره عليه الصلاة والسلام ؟! وفوجئ الأب والعم " بزيد " يرفض العودة معهما
إلى بلده وأمواله الطائلة وقبيلته الكبيرة ، ويؤثر البقاء مع مولاه محمد
بن عبد الله لما رأى من نبله وكرمه وحنانه الذي يفوق حنان أبويه !! وهنا
ردّ النبي عليه السلام التحية بأفضل منها ، فأعلن على الملأ أن زيدا ابنه
يرث كلاهما الآخر . كان هذا قبل الإسلام وقبل تحريم التبني . وهنا رضي
والد زيد وعمه ، واطمأنا إلى حسن مقام ولدهما عند النبي الكريم فانصرفا
سعيدين . فهل عامل أحد عبدًا بأنبل وأكرم من هذا ؟ وهل فعلها أحد غير سيد
الأولين والآخرين من قبل أو من بعد ؟ ! لم يكتف الرسول صلى الله عليه وسلم
بعتق زيد وتبنيه بل زوّجه حاضنته " أم أيمن " التي كان قد أعتقها بدورها
.. ثم كانت الخطوة الأخرى الكبرى لتحطيم كل الفوارق بين البشر ، وتطبيق
المساواة بين الأسياد والعبيد على أرض الواقع . فقد خطب النبي صلى الله
عليه وسلم – بعد الإسلام – ابنة عمته الحسيبة النسيبة زينب بنت جحش لمولاه
زيد بن حارثة .. وكان القوم ما زالوا حديثى عهد بالجاهلية وفخرها بالأحساب
والأنساب ، فوجدوا في أنفسهم ضيقًا شديدًا وحرجًا بالغًا من هذه الزيجة
التي اعتبروها غير متكافئة ، بل تلحق بهم العار، طبقا لما كان عليه العرب
في الجاهلية من أعراف وتقاليد .
وهكذا رفضت " زينب " وأهلها الأسياد
بنو الأسياد مصاهرة عبد سابق ، فأنزل الله تعالى آية خالدة : " وَمَا
كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ
أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا " الأحزاب : 36 .
قال جمهور المفسرين – فيما يرويه ابن كثير والقرطبى والطبرى وغيرهم – أن
هذه الآية نزلت بسبب رفض زينب وقومها تزويجها من زيد بن حارثة ، فلما نزلت
الآية الكريمة قالت زينب رضي الله عنها : " إذا لا أعصي الله ورسوله قد
أنكحته نفسي " وقال أخوها عبد الله بن جحش رضي الله عنه: "يا رسول الله
مُرْنِي بما شئت" ، فتزوّج زيد زينب رضي الله عن الجميع(5).. ثم نزل بعد
ذلك تحريم التبني، فاسترد زيد اسمه الأول "زيد بن حارثة" بعد أن كان يُدعى
قبل ذلك زيد بن محمد . وكان رضي الله عنه وولده أسامة أحب الناس إلى
الرسول صلى الله عليه وسلم بعد ابنته فاطمة رضي الله عنها ، وكان يقال
لأسامة الحِبْ ابن الحِبْ – المحبوب بن المحبوب – لمنزلتهما السامية عند
رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ليس هذا فقط بل إن "زيدًا" رضي الله عنه
هو الصحابي الوحيد الذي ذكره الله تعالى في القرآن الكريم بالاسم صراحة في
آية خالدة تتلى إلى يوم القيامة "فلما قضى زيد منها وطرًا زوجناكها .."
(الأحزاب : 37) . ولم يظفر بهذا الشرف الرفيع - الذكر بالاسم الصريح فى
القراّن - ولا حتى الصدّيق أو الفاروق رضى الله عنهما ، فهل هناك تكريم
لهذا العبد السابق أكثر من ذلك ؟!! كما عيّنه النبي عليه السلام قائدًا
للجيش في غزوة "مؤتة" أميرًا على أكابر الصحابة ، ثم ولّى ابنه أسامة بن
زيد قيادة الجيش من بعده . وعندما اعترض البعض قال النبى – صلى الله عليه
وسلم : "إن يطعنوا فى إمارته فقد طعنوا فى إمارة أبيه – زيد – وأيم الله
إن كان لخليقًا للإمارة ، وأن كان من أحب الناس إلىَّ ، وإن ابنه هذا لمن
أحب الناس إلىَّ بعده" متفق عليه .
وعندما تُوفي الرسول - صلى الله
عليه وسلم - وجيش أسامة ينتظر خارج المدينة ، أصر أبو بكر الصديق خليفته
على أن يواصل أسامة مهمته تنفيذًا لأمر النبي عليه السلام ، ورفض أن
يستبدل أسامة ، أو أن يعزله عن منصب ولاه إيّاه الرسول صلى الله عليه وسلم
. وخرج "أبو بكر" يمشي مودّعًا للجيش ، وأسامة راكب على فرسه ، ورفض أبو
بكر أن يركب ، أو أن ينزل أسامة ليمشي إلى جواره .. هذا هو الإسلام العظيم
، الرجل الثاني في الإسلام يمشي ، ومولى ابن مولى راكب على فرسه إلى جواره
قائدًا لجيش فيه أكابر الصحابة وسادات العرب .
ونذكّر بأن النبي صلى
الله عليه وسلم نصح فاطمة بنت قيس رضي الله عنها أن تتزوج أسامة بن زيد ،
واختاره لها مُفَضِّلاً إياه على معاوية بن أبي سفيان السيد ابن سيد مكة
من قبل وأبو جهم رضي الله عن الجميع . فهل جاء أحد غير الإسلام بمثل هذا ؟
!
جويّرية محرّرة قومها
كان
الحارث بن ضرار زعيم بني المصطلق عدوًا شديد الضراوة للمسلمين . ولم يجد
الرسول صلى الله عليه وسلم مفرًّا من تجريد جيش لكف بأس بني المصطلق ،
وبالفعل لحقت بالحارث هزيمة ساحقة ، وقع فيها كل قومه في الأسر . وكان من
بين الأسرى ابنته جويّرية . فجاءت إلى النبي عليه السلام تطلب معونته في
فك أسرها مقابل تسع أواق تدفعها لثابت بن قيس الذي وقعت في نصيبه . فقال
لها النبي صلى الله عليه وسلم : " أو خير من ذلك " ؟ فسألت : ما هو ؟ .
أجاب صلى الله عليه وسلم : "أؤدي عنك كتابتك وأتزوجك" يعني أن يدفع عليه
السلام المتفق عليه لثابت بن قيس مقابل تحريرها ثم يتزوجها صلى الله عليه
وسلم . فقالت : نعم يا رسول الله . قال عليه السلام : "قد فعلت". وبهذه
الزيجة المباركة تحرّر كل بني المصطلق من الأسر ، إذ انتشر الخبر بين
الصحابة فقالوا جميعًا : أصهار رسول الله في الأسر ؟! أي استنكروا أن
يستبقوا بني المصطلق في الأسر بعد أن صاهرهم النبي ، وانطلقوا فحرّروهم
جميعا بلا مقابل . وكان رد فعل هذا الكرم النادر من قبل النبي وأصحابه أن
أسلم بنو المصطلق عن بكرة أبيهم . تقول السيدة عائشة رضي الله عنها "أعتق
بتزويج جويرية من النبي أهل مائة بيت ، فلا أعلم امرأة أعظم بركة على
قومها منها"(6) . وهكذا حرّر النبي قبيلة بأكملها بهذه الزيجة .. فهل فعل
هذا سواه ؟! .
ونلاحظ هنا أن الرسول عليه السلام قد اتبع هذا الأسلوب
الحكيم لتحرير الأسرى بطريقة غير مباشرة أيضا مع أسرى هوازن وثقيف وكانوا
ستة آلاف نسمة . فعند ما جاءه وفد القوم مسلمين ، وناشدوه إخلاء سبيل
أسراهم قال لهم : "ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم" ، وأرشدهم إلى أن
يأتوا وقت الصلاة، ويستشفعوا بالنبي إلى المسلمين . ففعلوا ، فقام النبي
وسأل الناس أن يخلوا سبيل الأسرى ، ولكل رجل لا تطيب نفسه بالتخلي عن
أسيره ستة من الإبل من أية غنائم تأتى إلى النبى فى أقرب وقت ممكن ، تعطى
له مقابل كل نفس يطلق سراحها. فقال المهاجرون : ما كان لنا فهو لرسول الله
، وقال الأنصار : ما كان لنا فهو لرسول الله ، وهكذا حرّر النبي كل الأسرى
، ولكن بأسلوب غير مباشر كما حدث في غزوة بني المصطلق . والدعوة إلى الخير
تحتاج إلى مثل هذه الأساليب البارعة ، لأن كثيرا من الناس يمقتون الوعظ
المباشر ، والأمر أشدّ على الأنفس عندما تطالبهم بالتخلي عما يملكون بلا
مقابل.
عتق صـفيّة
بعد
فتح خيبر وقعت صفيّة بنت حيي بن أخطب زعيم اليهود في الأسر . وكان أبوها
وأخوها وزوجها قد قُتلوا جميعًا في المعركة . وطبقًا لما تعارف عليه
العالم كله آنذاك كان من الطبيعي أن تكون صفية كغيرها من السبي جارية
يستعبدها من قهر أباها في الحرب ، لأنه لو كان أبوها هو المنتصر لفتك
بسبايا المسلمين ولم يبق منهن نسمة كما يفعل اليهود المجرمون في كل مكان
وزمان .. قال دحية الكلبي رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم بعد
المعركة : "يا رسول الله أعطني جارية من سبي يهود" . فقال له عليه السلام
: "اذهب فخذ جارية" ، فذهب دحية فأخذ صفية ، فرآها الصحابة فعرفوها ،
فانطلقوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم سِراعًا هاتفين : يا رسول الله
إنها سيدة بني قريظة والنضير ، ما تصلح إلا لك . فأعطى الرسول لدحية عوضًا
عنها وضمها إليه .. ومن المهم هنا أن نسجل مَكْرَمة تخفى على كثير من
الناس ، وهي أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يتخذ صفية جارية كعادة الأمم
الأخرى ، بل بدأ عليه السلام بتكريم مثواها ، ثم خيَّرها بين العتق وإطلاق
سراحها إن أرادت البقاء على يهوديتها والرحيل معززة مكرمة إلى المكان الذي
هرب إليه بقايا قومها ، أو الإسلام والزواج منه بعد عتقها أيضًا .
ففي
جميع الحالات أعتقها عليه السلام سواء تزوجته أم رفضت الزواج منه . وهكذا
هو الإسلام يجبر المكسور، ويعزّ به الذليل ، ويزداد الشريف به شرفًا .
وافقت صفية رضي الله عنها فورًا على الزواج من النبي قائلة : "يا رسول
الله لقد هويت الإسلام ، وصدّقت بك قبل أن تدعوني ، وخيرتني بين الكفر
والإسلام ، فالله ورسوله أحب إلي من العتق ، ومن الرجوع إلى قومي" ..
فتزوجها عليه السلام وجعل عتقها صداقها .
ويعلق الإمام ابن القيّم
رضي الله عنه على ذلك بقوله : "جعل عتقها صداقها، فصار ذلك سُنَّة للأمة
إلى يوم القيامة أن يعتق الرجل أمته ويجعل عتقها صداقها ، فتصير زوجته
بذلك . فإن قال الرجل : جعلت عتق أمتى صداقها صح العتق والنكاح ، وصارت
زوجته من غير احتياج إلى تجديد عقد ولا ولي . وهو ظاهر مذهب أحمد وكثير من
أهل الحديث . انتهى .
بركات السيدة مارية
يثير
الحاقدون على الإسلام موضوع تمتع النبي صلى الله عليه وسلم بجاريته السيدة
مارية القبطية .. ويزعمون أنه لو كان نبيّا حقًا لما فَعَلَ هذا !! والرد
على هؤلاء ميسور بإذن الله .
ونقول أولا : أن التمتع بملك اليمين –
الجواري – كان في شريعة الأنبياء من قَبله عليهم جميعًا الصلاة والسلام ..
فقد عاشر أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام السيدة هاجر – المصرية أيضًا –
بملك اليمين ، وأنجبت له سيدنا إسماعيل جد العرب وجد نبينا محمد صلى الله
عليه وسلم . وكذلك كان لإسحاق ويعقوب وداود وسليمان عليهم السلام عشرات من
الجوارى ، ولم يطعن أحد من الحاقدين عليهم بسبب ذلك!! فهل تمتعه صلى الله
عليه وسلم بجارية وحيدة هي السيدة مارية – حسب الراجح من أقوال العلماء –
يعد أمرًا غير حميد ؟! ولماذا لم يتفوه أحد بكلمة ضد تمتع أخوته الأنبياء
من قبل بالجواري ملك اليمين ؟!! إنه الحقد على الإسلام وحده والكراهية
المقيتة لمحمد صلى الله عليه وسلم وحده . ثم لننظر ولنقارن حال السيدة
مارية قبل وبعد الإسلام لنعرف مدى كذب الحاقدين وإنكارهم للحقائق الثابتة .
ماذا
كانت السيدة مارية قبل الإسلام ؟ مجرد جارية من جواري المقوقس – كبير
نصارى مصر في ذلك العهد – لا يعرفها أحد ولا يهتم بأمرها أحد ، وكان أقصى
ما سوف تناله أن يعاشرها سيدها بمصر من حين لآخر بلا أية حقوق لها أو
لأولادها الذين كانوا سيصبحون عبيدًا كأمهم بلا ريب . أو كانت سوف تُبَاع
لسيد آخر كما تُبَاع البهيمة أو المتاع ، وهكذا تنتقل من سيد إلى آخر ،
تعمل طوال النهار في كل الأعمال الشاقة ، وتجبر ليلاً على ممارسة الجنس مع
سيدها ، أو مع آخرين ينزلون ضيوفًا على السيد - كوسيلة من وسائل الترفيه -
فضلاً عن تعرضها للضرب والأذى- وربما القتل- بلا ضوابط أو حدود أو قيود .
ولكن الله تعالى أراد أن ينقذ المسكينة مارية من هذا الإذلال والإهدار
للآدمية ، وأن يخلّدها في العالمين ، فأهداها المقوقس إلى النبي صلى الله
عليه وسلم . وهنا انقلبت الأحوال بقدرة الله عزّ وجلّ من النقيض إلى
النقيض . فقد أنزلها النبي عليه السلام فى مسكن خاص مثل غيرها من نسائه ،
وكان يجري عليها النفقة كالمأكل والملبس مثلهن سواء بسواء . ثم كان يحنو
عليها ويقربها إليه ويعاشرها كباقي زوجاته بمنتهى العدالة والنبل . وشاء
الله عزّ وجل أن يُنْعم على السيدة مارية بما لم تحظ به حتى السيدة عائشة
أحب زوجات النبي إلى قلبه . فقد ولدت السيدة مارية للنبي أحب أولاده إلى
قلبه وهو "إبراهيم" عليه السلام . والمعروف أن عائشة وحفصة وغيرهن من
الحرائر من أزواجه لم ينجبن منه باستثناء السيدة خديجة رضي الله عنها
والتي كانت قد توفيت بمكة . وهكذا حظيت مارية رضي الله عنها بالقسط الأوفر
من المحبة والتكريم باعتبارها أم "إبراهيم" الولد المحبب إلى قلب النبي
صلى الله عليه وسلم .
و من بركتها أيضا أنها كانت سببًا في تشريع عتق
"أم الولد" وهي الجارية التي تلد لسيدها ولو "سقطًا" أي جنينًا يقذفه
الرحم ميتًا . إذ أنه فور علمه صلى الله عليه وسلم بمولد ابنه إبراهيم من
مارية قال صلى الله عليه وسلم : "أعتقها ولدها" . وعن ابن عباس رضي الله
عنه أن النبي عليه السلام قال : "أيّما أمة ولدت من سيدها فإنها حرّة إذا
مات إلا أن يعتقها قبل موته" أخرجه ابن ماجة في كتاب العتق ، والدارمي في
البيوع(7) ، وأحمد في مسنده (8) . فأي بركة تسببت فيها سيدتنا مارية ؟ وأي
خير أصاب الملايين من الجواري على مر العصور بسببها ؟ إنها لم تتحرر وحدها
بمولد إبراهيم فحسب ، بل حررت معها كذلك كل جارية تلد لسيدها ولو سقطًا
غير مكتمل .
ثم هناك نعمة هدايتها للإسلام ، وأنها آمنت بالله وحده
ربا لا شريك له ولا ولد ، وآمنت بنبيه الذي يحشرها الله معه في الجنة زوجة
له مع أخواتها الأخريات . ولم يكن هذا هو كل ما في حياة السيدة مارية من
بركات .. فقد أبى الله إلا أن تكون مارية المصرية سبب خير وبركة لأهل مصر
كلهم .. روى الإمام مسلم- في فضائل الصحابة- قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : "استوصوا بالقبط خيرًا فإن لهم ذمة ورحمًا" . قال : ورحمهم أن أم
إسماعيل بن إبراهيم عليهم السلام منهم ، وأم إبراهيم ابن النبي عليهم
السلام منهم(9) انتهى. وكفى المصريين فخرًا أن يكونوا أصهارًا لإبراهيم
ومحمد وأخوالاً لولديهما . وهكذا نالت السيدة مارية حريتها بالإسلام ،
وصارت كذلك أمًا لإبراهيم أحب ولد النبي إليه ، وأمًا لكل المؤمنين إلى أن
يرث الله الأرض ومن عليها .
و كانت لها محبة في قلب النبي غارت منها
بسببها السيدة عائشة .. تقول السيدة عائشة : "ما غرت على امرأة إلا دون ما
غرت على مارية ، وذلك أنها كانت جميلة من النساء جعدة – مكتملة الخلقة –
وأعجب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان أنزلها أول ما قدم بها في
بيت لحارثة بن النعمان فكانت جارتنا ، فكان الرسول عامة الليل والنهار
عندها حتى فرّغنا لها فجزعت-أى عائشة- فحوّلها عنا إلى العالية ، فكان
يختلف إليها هناك ، فكان ذلك أشدّ علينا ، ثم رزقه الله منها الولد وحرمنا
منه" . انتهى . وكلمات السيدة عائشة واضحة الدلالة على عظم ما أنعم الله
ورسوله به على السيدة مارية التي كانت جارية من قبل ، جبرًا لخاطرها
ورفعًا من شأنها، بما لم تحصل على مثله أية واحدة من الحرائر .
عتاب إلهى
وقد
عاتب الله رسوله بسبب السيدة مارية . فقد جامعها الرسول صلى الله عليه
وسلم مرة في بيت زوجته حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما ، فغضبت
السيدة حفصة وحزنت أشد الحزن ، وقالت لزوجها عليه السلام : "ما صنعت بي
هذا من بين نسائك إلا من هواني عليك"، فلم يجد الزوج الحنون الرحيم ما
يُطَيِّب به خاطر زوجته إلا أن يُحَرِّم على نفسه أن يقرب أم ولده السيدة
مارية ، وحلف لحفصة ألّا يقربها . فنزل في ذلك قوله تعالى : "يا أيها
النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم"
(التحريم : 1) .
قال العلماء أن الله تعالى أعلم نبيه أن وطء جاريته
حلال له ، ولا يجوز له أن يُحَرِّم ما أحل الله له على نفسه ، وكل ما
هنالك أن الرجل إذا قال لامرأته أو أمته – جاريته – أنت حرام عليَّ فإن
عليه الكفّارة، ويحل له مجامعتها بعد ذلك . وهكذا كانت السيدة مارية رضي
الله عنها سببًا هنا أيضا في رفع الحرج عن كثير من الزوجات اللاتي يتلفظ
أزواجهن بمثل هذه الكلمة ، فيظنون أن العلاقة الزوجية قد انفسخت بذلك ،
فأعلم الله الجميع أن هذه الكلمة هي مجرد يمين يكفرها الرجل إذا لم ينو
بها طلاقًا ، وعليه كفارة الظهار المغلّظة وهي تحرير رقبة – عتق عبد – إن
نوى بها الظهار طبقا للراجح من آراء العلماء التي بلغت 18 رأيا أوردها
الإمام القرطبي رضي الله عنه في تفسيره للآية الأولى من سورة التحريم(10)
. وروى الإمام الدارقطني في سننه عن ابن عباس رضي الله عن الجميع – أن
رجلاً جاء إلى ابن عباس فقال : إني جعلت امرأتي عليّ حرامًا ، فقال له ابن
عباس : كذبت ليست عليك بحرام، وتلا الآية الأولى من سورة التحريم ، ثم قال
للرجل : عليك أغلظ الكفارات عتق رقبة . وقال جماعة من المفسرين أنه لما
نزلت هذه الآية كَفَّرَ النبي صلى الله عليه وسلم عن يمينه بعتق رقبة ،
وعاد إلى معاشرة السيدة مارية عليها السلام . قاله زيد بن أسلم وغيره طبقا
لرواية القرطبي في تفسيره .
وهكذا تسببت السيدة مارية رضي الله عنها
هنا أيضا في عتق أنفس أخرى كثيرة بعد هذه الواقعة ونزول تلك الآية . فهل
كانت تلك كل البركات لتحدث لولا اقتران السيدة مارية بسيد ولد آدم عليه
السلام ؟! وهل اجتمعت تلك المفاخر والمآثر لامرأة أخرى سواها ؟!! .
سلمان منا آل البيت
كان
سلمان رضي الله عنه رجلاً فارسيًا تعرّف في صباه على بعض النصارى فأعجبه
دينهم – قبل ظهور الإسلام – وترك عبادة النار ، ثم رحل إلى بعض الأديرة
لعبادة الله ، إلى أن انتهى به الأمر إلى راهب أخبره قبل موته أنه قد
اقترب زمان النبي الخاتم ، وأنه يبعث في مكة ويهاجر إلى أرض بها نخيل ،
وحولها صحراء ، وأعطاه مواصفات "يثرب" ، وعلامات يعرف بها النبي ، وهي أنه
يأكل الهدية ولا يقرب الصدقة ، وبين كتفيه علامة النبوة – خاتم النبوة –
وعرض سلمان على قافلة من الأعراب أن يعطيهم مالاً مقابل أن يحملوه معهم
إلى بلاد العرب . لكنهم غدروا به في الطريق ، وباعوه عبدًا لرجل من يهود
يثرب . صبر رضي الله عنه على الرق وسوء معاملة سيده اليهودي له حتى هاجر
النبي عليه السلام إلى يثرب . فانطلق إليه سلمان ، وتحقق من وجود العلامات
الثلاث به فاحتضنه وبكى ممّا عرف من الحق . وقصّ على النبي وأصحابه قصته .
فأرشده عليه السلام إلى مكاتبة سيده اليهودي ليحصل على حريته . اتفق سلمان
مع اليهودي على أن يحرّره مقابل ثلاثمائة نخلة يغرسها له وأربعين أوقية من
ذهب . وقال النبي عليه السلام لأصحابه : "أعينوا أخاكم" ، فجعل كل منهم
يأتي بالنخلات الصغار قدر استطاعته ، حتى جمعوا له الثلاثمائة المتفق
عليها. و قام النبي صلى الله عليه وسلم بغرسها جميعا بيده الشريفة فنبتت
كلها ببركته . ثم أعطى الرسول صلى الله عليه وسلم سلمان قطعة صغيرة من
الذهب قائلا له : "خذها فإن الله سيؤدي بها عنك". وبالفعل تحققت معجزة
أخرى ووزنت القطعة الصغيرة أكثر من حق اليهودي ، و تحرّر سلمان من
الاستعباد . وبهذا السلوك أرشد المصطفى صلى الله عليه وسلم الأمة كلها إلى
ضرورة اعانة المكاتب ومساعدته على التحرر بتبرعات الأفراد، ومن بيت المال
، وأن يكون الحاكم قدوة بنفسه في هذا المجال . وسلمان هو الذي أشار على
النبي بحفر الخندق حول المدينة لتأمينها ومنع الأحزاب الكافرة من دخولها
في غزوة الخندق . وبلغ من حب النبي وأصحابه لسلمان رضي الله عنه أن تنازع
المهاجرون والأنصار أمره . قال المهاجرون : سلمان منا نحن المهاجرون ،
وقال الأنصار : بل سلمان منا نحن الأنصار ، فقال لهم النبي صلى الله عليه
وسلم حسمًا للأمر وتكريمًا لسلمان : "سلمان منا آل البيت" أخرجه الحاكم
وابن سعد .
وهكذا رفع الله منزلة العبد السابق بالإسلام بجعله ليس فقط صاحبا لرسوله ، بل منسوبًا إلى أهل بيته عليهم السلام أجمعين .
وما
نعرف لهذا نظيرا في أيّة أمّة أخرى من الأولين و الآخرين . وقال عنه
الرسول عليه السلام : "سلمان سابق الفرس" . أخرجه أبو نعيم والحاكم ، وقال
الذهبي معناه صحيح . وشاء قدر الله أن يمتد بسلمان العمر حتى تولى إمارة
المدائن – بلاد فارس – في عهد الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه . وبذلك
تولى العبد السابق حكم بلاده الأصلية بعد زوال حكم كسرى بالفتح الإسلامي .
ولم يمنعه من تولي السلطة كونه عاش سنوات طوال عبدًا مملوكًا لبعض يهود
يثرب .. فالله تعالى يُؤتي الملك من يشاء ، بلا فرق بين حرّ وعبد ، أو غني
وفقير .
سيدنا أعتق سيدنا
كان
بلال بن رباح رضي الله عنه من العبيد السابقين إلى الإسلام ، وهو ممن
تعرّضوا للتعذيب المروّع بمكة لإجبارهم على ترك الدين الحق . وكان الرسول
صلى الله عليه وسلم يتألم من أجلهم ، وقال عليه السلام : "لو كان عندنا
شيء ابتعنا بلالا" ( أخرجه ابن عبد البر في الاستيعاب وهو في أسد الغابة
1/243) ، وسمع بذلك أبو بكر فاشتراه بسبع أواق وأعتقه ، وعلم النبي صلى
الله عليه وسلم فقال لأبي بكر: "الشركة يا أبا بكر" فقال أبو بكر : قد
أعتقته ( ابن سعد 3/1/165) . ولو لم يكن أجر العتق عظيمًا لما سأل النبي
أبا بكر أن يشركه معه فيه .
وأخرج مسلم في فضائل الصحابة أن قوله
تعالى "ولا تطرد الذين يدعون ربهم..." -الآيتان 52 – 53 من سورة الأنعام -
نزل في بلال وآخرين من الضعفاء، قال المشركون للنبي : اطرد هؤلاء عنك حين
نجلس معك حتى لا يتجرأون علينا !! ولكن الله تعالى أنزل أمرًا سماويًا
للنبي بألا يطرد أولئك المؤمنين من أجل المتكبرين من المشركين .. لأنه لا
فضل لأحد على أحد في الإسلام إلا بالتقوى ، ولا قيمة لأموال المشركين ولا
أحسابهم في ميزان الله رب الجميع . وثبت عن النبي عليه السلام أنه قال :
"بلال سابق الحبشة" (رواه أبو نعيم في "الحلية" والحاكم 3/285 وأقره
الذهبي) . وكان بلال رضي الله عنه مع الرسول في كل الغزوات ، وتولى الآذان
طوال حياته لعذوبة صوته . وشهد له النبي بالجنّة في حديث رواه البخاري
ومسلم وأحمد والترمذي وغيرهم . وعندما أذن أبو بكر لبلال في السفر والمقام
بالشام ذهب هو وصاحبه "أبو رويحة" إلى قوم من أكابر العرب في الشام
ليخطبوا اثنتين من بناتهم . قال بلال لهم : إنا قد أتيناكم خاطبين ، وقد
كنا كافرين فهدانا الله ، ومملوكين فأعتقنا الله ، وفقيرين فأغنانا الله ،
فإن تزوجونا فالحمد لله ، وإن تردّونا فلا حول ولا قوة إلا بالله . فوافق
القوم على الفور مرحبين بصاحبي الرسول وزَوَّجُوهما من اختارا ، رغم أن
تلك القبيلة "خولان" هي واحدة من أعرق القبائل بالشام كله . وهكذا يتساوى
الجميع في الإسلام، ولا تفضيل لحرّ على عبد إلا بمعيار الإيمان والعمل
الصالح . ويكفي لبيان ما وصل إليه بلال من مكانة سامية بالإسلام أن عمر بن
الخطاب الرجل الثالث في الإسلام قال عن أبي بكر وهو يصف مناقبه : "وهذا
سيدنا بلال حسنة من حسناته"، وفي رواية أخرى للبخاري وغيره قال عمر بن
الخطاب : "أبو بكر سيدنا أعتق بلالا سيدنا " .
أرأيت كيف وصف أمير المؤمنين الفاروق عمر بلالاً بأنه "سيدنا" ، وهو الذي كان عبدًا مغمورًا ضائعًا في شعاب مكة قبل الإسلام ؟!
صبرًا آل ياسر
كان
صلى الله عليه وسلم يمر بالضعفاء من أصحابه وهم يعانون أشد ألوان التعذيب
تحت لهيب شمس مكة الحارقة ، ومنهم ياسر وزوجته سميّة مولاة بني مخزوم
وابنه الصحابي الجليل عمّار بن ياسر مولى بني مخزوم أيضا . وروى الطبراني
والهيثمي والحاكم – وصححه الذهبي – أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لهم
" صبرا آل ياسر ، فإن موعدكم الجنة ". وهي شهادة نبوية ثابتة لهم بالجنة
إن شاء الله . ونزلت في عمّار الآية الكريمة "إلا من أُكره وقلبه مطمئن
بالإيمان" ، فقد عَذّبَه الكفار حتى سبّ النبي تحت الإكراه خشية القتل ،
وذهب بعدها يبكي فسأله النبي : "فكيف تجد قلبك ؟" ، أجاب عمّار : مطمئن
بالإيمان ، فقال له النبي عليه السلام : "فإن عادوا فعد" ، يعني أنه لا
إثم عليه فقد فعل هذا مضطرًا مكرهًا . أخرجه الطبري وأبو نعيم وابن سعد
والحاكم .
وروى الترمذي في المناقب - وصححه الحاكم والذهبي- وروى أبو
نعيم والهيثمي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : "اشتاقت الجنة إلى
ثلاثة علي وعَمَّار وبلال". وكانت سميّة أم عمّار أول شهيدة في الإسلام ،
إذ طعنها أبو جهل اللعين بحربة في قُبُلها ففاضت روحها في الحال .. ألا
يكفي الرقيق شرفًا أن أول من نال الشهادة وهي درجة عليا يتمناها حتى النبي
كانت واحدة من الجواري هي السيدة سميّة ؟!!.
والأحاديث في فضائل عمّار
بن ياسر كثيرة نختار منها أنه عليه السلام قال فيما يرويه أحمد في مسنده
وابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي : "اقتدوا بالذين من بعدي أبو بكر وعمر ،
واهتدوا بهدي عمّار ، وتمسكوا بعهد ابن أم عبد" .
وروى الحاكم أن
الرسول صلى الله عليه وسلم قال : "إذا اختلف الناس كان ابن سميّة مع الحق"
. وأخرج أحمد والحاكم والذهبي : "ما خُيِّر ابن سميّة بين أمرين إلا اختار
أيسرهما" . وأخرج مسلم وأحمد وابن سعد : أن عمّارًا كان يحمل لبنات من
الطوب لبناء المسجد النبوي أكثر مما يحمل أصحابه ، فجعل النبي صلى الله
عليه وسلم ينفض رأسه ويقول : "ويحك يا ابن سميّة تقتلك الفئة الباغية" .
وبالفعل استشهد عمّار يوم صفين ، قتله جيش الشام بقيادة معاوية بن أبي
سفيان ، وكان عمّارُ في جيش الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.
وكانت
بين خالد بن الوليد وعَمَّار بن ياسر رضي الله عنهما مشادة، فأغلظ له خالد
القول ، فشكاه عمار إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عليه السلام : "من
عادى عمّارًا عاداه الله ، ومن أبغض عمّارًا أبغضه الله" أورده الذهبى فى
سير أعلام النبلاء ، فخرج خالد مسرعًا حتى لقي عمّاراً واعتذر له واسترضاه
حتى رضي . هل رأيتم ؟ الله عز وجل يعادي من عادى عمّارًا العبد السابق
والرب يمقت من يمقته ؟!. هل يطمع أحد من الأحرار في منزلة أعلى من تلك
التي بلغها عمَّار ؟!! .
سابق الروم
وهناك
حفاوته عليه السلام وتكريمه لصهيب بن سنان الصحابي الجليل الذي وصفه النبي
بأنه "سابق الروم" (أخرجه أبو نعيم في "حلية الأولياء" والحاكم 3/15/2 ) و
قد تقدم مثله عن سلمان و بلال.(11). ومعنى سابق الروم أنه سبقهم جميعًا
إلى الإسلام ثم إلى الجنّة بإذن الله . وصهيب رضي الله عنه كان من الموالي
في مكة ، ولم يفلته المشركون أثناء الهجرة إلا بعد أن دَلَّهم على كل
أمواله فتركوه ليهاجر إلى "يثرب" فقيرًا مريضًا لا يملك قوت يومه .. ولكن
حبيبه المصطفى تلقّاه في يثرب مبشّرا له بالفوز العظيم ورضوان الله عن
صفقته المباركة . ونزلت فيه آية كريمة خالدة تثني عليه وتبشره بالرضوان
والفوز الكبير . قال تعالى : " وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ
ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ " (البقرة :
207) . قال ابن عباس وأنس وسعيد بن المسيب وأبو عثمان النهدي وعكرمة
وغيرهم : نزلت هذه الآية في صهيب بن سنان الرومي ، عندما اضطره المشركون
إلى التخلي عن كل ما يملك ليسمحوا له بالهجرة إلى حيث النبي في يثرب ،
فأعطاهم كل ماله ليهاجر ويفر بدينه (12) ، وروى ابن مردويه – فيما ينقله
ابن كثير – أن الرسول صلى الله عليه وسلم بشره قائلا له مرتين "ربح صهيب
ربح صهيب" .
لكل هذه المواقف المضيئة في السيرة العطرة وغيرها ، لم
يملك المنصفون من غير المسلمين سوى الاعتراف لسيد الخلق عليه السلام بأنه
رسول من عند الله حقًا ، والإقرار بما كان عليه من خلق عظيم لم يؤت مثله
أحد من قبل أو من بعد . وقد وصفه أحد هؤلاء
وهو الدكتور راما كريشنا راو – بصفات عظيمة كثيرة منها أنه هو بحق: "محرر العبيد" صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم(13).
اللهم كما أعتقت رقاب البلايين من الكفر والرق ، أعتق رقابنا وإياهم من النار . آمين . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .