يوم "الصيد الثمين"!
كتبتها:
إيمان عامر
أُولى
مذكّراتي "المبعثرة" عن تلك الحرب ارتبطت بأول أيام العدوان حينما تحركت
مجموعات كتائب القسام للرد على العدوان الإسرائيلي وفقاً لحجم الضربات التي
استهدفت المواقع والمقرات الأمنية، حيث اتجهت لاستهداف المستوطنات المحيطة
بالقطاع، وكان دكّ مستوطنة "نتيفوت" من نصيب منطقة الزيتون بقرار من قائد
كتيبتنا، وأوكلت تلك المهمة لبعض أبناء القسام وكنت أحدهم إلى جانب الشهيد
حاتم عياد والشهيد فهمي طافش، فقصفت هذه المستوطنة للمرة الأولى في الحرب،
وكان عدد سكانها ضعف سكان مستوطنة "اسديروت"، ومنذ ذلك اليوم الذي قصفت فيه
دخلت "نتيفوت" في نطاق صواريخ كتائب القسام.
ولعلّ ما أثار حفيظة العدو أن استهدافها لم يكن على الأطراف بل في عمقها،
بعدما أطلق الشهداء أول ثلاثة صواريخ ولم يصابوا بأذى، وبينما كانوا
يستعدوا لمعاودة الضرب استهدفت المجموعة، فاستشهد فهمي على الفور، و بقي
حاتم ينزف حتى ارتقت روحه إلى العلياء وهو يرقد في المستشفى، وكانا أول
شهداء المعركة في الميدان، بعد ذلك توالت الأخبار التي تفيد بمقتل مستوطنة
ووقوع عدد من الإصابات، وأصبح هناك عملية نزول للمستوطنين داخل في الملاجئ،
فأصدر قادة الاحتلال قراراً بوقف ضرب المقاتلات الحربية مؤقتاً حتى صدور
تعليمات جديدة، واستمرت الحرب وكان إطلاقنا للصواريخ يسير بشكل موازي
لضربات العدو حتى يعلم بأن القسام لم يستسلم وما زال يواصل عمله.
عَجلة الحرب البغيضة كانت لا تزال مستمرة، ونحن مصرّون على نيل إحدى
الحسنيين فإما نصر مظفّر يقهر العدو وإما شهادة توصلنا إلى الفردوس
الأعلى.. ومما تيقّنا منه خلال تلك الأيام الغبراء أن العناية الإلهية كانت
تلازمنا، ففي أحد الأيام جاءت إلينا إشارة بأن على أحدنا يذهب لتفقّد مدفع
وضعناه في "بيّارة" استهدف بقوة من قِبل بطائرة حربية، وتوقعنا أنه لم
يتبقَ منه شيء، إلا أن قدرة الله شاءت بألا يتضرر من هذه الضربة القوية،
فوجده الشاب كما هو إلا أنه كان داخل الأرض، وأخرجوه منها، وجرّبوه فوجدوا
أنه يعمل بشكل جيد!!.
مظاهر الهَوَس الصهيوني بدت تظهر بعد الاجتياح البري، تحديداً في اليوم
العاشر من الحرب، جاءت إشارة تفيد بضرورة ضرب موقع "ناحل عوز" لتجمع عدد من
الجنود فيه، فاستهدفهم المجاهدون بنفس المدفع الذي أصيب، وضربوا الموقع
مما أدى إلى مقتل قائده، وكان وراء هذه المهمة الشهيد "أيمن شلدان" وهو
قائد الكتيبة والرجل الثاني في وحدة المدفعية على مستوى لواء الزيتون، ومع
ذلك فكان يعمل كبقية الجنود، رغم أن المتعارف عليه أن القائد لا يجدر به أن
ينزل إلى الميدان، إلا أن شجاعته وإقدامه دفعاه لأن يكون على رأس العمل
ويضرب ما يقارب من 7 – 10 قذائف، وما أن خرج من "البيارة" حتى استهدف
واستشهد في المكان الذي أطلق القذائف منه فكان "الصيد الثمين" كما أعلنت
قوات العدو التي ارتقبت تلك اللحظة بشغف..نعم لقد تأثرنا جميعاً باستشهاده
ولا أخفي عليكِ فالروح المعنوية لدى بقية المجاهدين تراجعت للوراء مؤقتاً،
بعد أن كان الحماس والاندفاع حليفهم كون الذي ارتقى ليس عنصراً عادياً بل
كان قائد الكتيبة.
الحزن على فراقه سيطر علينا كثيراً وأضعَفَ من عزيمتنا للحظات معدودة،
تجاوزناها بالترحّم عليه والثبات، واستحضار الآيات القرآنية والأدعية التي
تعين على الثبات، ومع تأكيد خبر استشهاده ظنّ العدو أنه قضى على وحدة
المدفعية في الزيتون انتهت، ولكننا أثبتنا له عكس ذلك حينما واصلنا إطلاق
الصواريخ والقذائف في يوم الثاني من استشهاده حيث ضرب الإخوة العديد من
الصواريخ التي استمر إطلاقها حتى بعد انتهاء الحرب وأردنا من خلال مواصلة
الضرب إيصال رسالة فحواها أن استشهاد أيمن لم يؤثر على عمل سلاح وحدة
المدفعية ولا في تقدمه.
وبعد انقضاء أيام الحرب الاثنين والعشرين عُدت إلى منزلي حيث زوجتي
وأولادي، وحينها شعرت كما لو أنني كنت في حلمٍ طويل لم أفق منه إلا وأنا
أقلّب وأدقق في صور الشهداء الذين كانوا بجانبي طوال تلك المدة لأدرك بأن
ما حدث هو حقيقة لم تكن في الحسبان ولكنها علمتنا الكثير الكثير .