ثلج ممزوج بالمطر، ألبس المدينة حلتها الشتوية، وأزاح عن كاهلها ثقل
الجفاف، شهور لم تمطر السماء، الأرض تشققت، والنهر الوحيد الذي يخترق
المدينة وكان مصدراً لجمالها جفّ.. وامتلأ قمامة /وبقايا الصرف الصحي/ راح
يراقب ازدحام الناس من خلف زجاج المقهى، أومأ للنادل الذي ابتسم له بلطف.
أمر أستاذ نارجيلة وفنجان قهوة.. ساده لو سمحت، أدار نظراته على الطاولات..
هناك قرب الزاوية تجلس فتاة تفرد شعرها الأشقر على كتفيها، بدت كأنها تطير
من الفرح، تفرش أوراقها فوق الطاولة تحاور بشغف أديباً دفعه تقاعده لأن
يمضي يومه في هذا المقهى، يبدو أن لديها ما تقوله له، يتركها تشرح بإسهاب،
وعيناه تسرحان.. في وجهها.. تغرقان في عينيها.. تناول بعض الأوراق منها،
ابتسامتها واسعة.. استرخت تجاعيد وجهه.. حاول أن يعبر من زمانه إليها..
هاله عدد السنين المتراكمة بينهما!! خلع نظارته العادية، وضع على عينيه
نظارة سميكة //عفواً تلك للرؤية.. وهذه للقراءة// أخرج قلماً أنيقاً..
تملّى من وجهها وراح يملأ الهوامش بعبارات كان عليها أن تستدركها، أراه،
تارة يخلع النظارة يهيم بندى صباها.. يهمس لها بكلمات تفرحها، ثم يعود
للكتابة، قدم النادل الأنيق فنجاني القهوة.. ونارجيلة الأديب.
نتف الثلج تعلق على زجاج المقهى، لفترات ما تلبس أن تذوب.. تجري كالدموع
على الرخام! رفع النظارة قدم لها الأوراق.. جاهزة للطباعة، بدا عليها
الارتباك! شكرته بلطف.. قدمت له وردة حمراء.. أخذها بانبهار، أتمنى أن
يعيدني الزمن أربعين عاماً.. ضحكت.. ثم ضحكت كانت تضحك من قلبها، أحسّ
بالخيبة، عفواً أنا لا أقصد أستاذ: لكن تصورت /شكلي بعد أربعين عاماً..
/طمأنها، لكنها تركت جرحاً بداخله لن يندمل!!.
في تلك اللحظة، فتح باب المقهى.. دخلت فتاة في مقتبل العمر، نفضت عن سواد
شعرها بياض الثلج، جالت بنظراتها على الطاولات.. لم تجد ضالتها.. اختارت
طاولة جانبية.. أخرجت بعض الصحف، والأوراق.. نظرت إلى ساعة يدها! قارنتها
بالساعة المعلقة على جدار المقهى!! اقترب النادل ابتسمت له /أنا أنتظر
ضيفاً/ قدم كأس الماء وانصرف يتمتم بمطلع أغنية لم أستطع أن أحفظ منها
شيئاً!! لم يمضِ وقت طويل.. دخل المقهى رجل أبيض الشعر.. يحني قامته
قليلاً، نفض نتف الثلج عن معطفه الأسود، تغيرت ملامح وجهها، غاب القلق
وارتسم الفرح، نهضت مرحبة به: أهلاً أستاذ عادل.. وضع يدها بين يديه..
عفواً للتأخير.. إنها المواصلات.. ضحكت والثلج أستاذ لا تنسَ، جلسا.. أشار
للنادل.. يبدو أن الأديب كان معروفاً من قبل العاملين في المقهى جيداً..
قدم النادل النارجيلة والقهوة للأديب، أمر يا آنسة: شاي لو سمحت، تهامسا
ببعض الكلمات غير المفهومة؟ أخرجت من محفظتها دفتراً أنيقاً بشريط ذهبي
ناولته إليه.. أخرج من جيب معطفه نظارته.. بحث عن قلم.. كأنها قرأت
أفكاره.. ناولته قلما أنيقاً.. ابتسمت أرجو أن يظل ذكرى.. تمعن في تقاسيم
وجهها وراح يكتب على هامش الصفحات.. ما كان يجب أن يكتبه؟!.