علمني ألان روب غرييه "أنت غير قادر على تثبيت صور من ماتوا، فالصور دائما في تحرك مفاجئ يزداد كلما حاولت تثبيتها.."
مابالي بالاحياء منهم ..!؟
هكذا يبدأ الكاتب في مقدمة لروايته الرائعة - ليالي ابن زوال- يقدم لنا رؤيته الفنية للحياة وكيفية التعامل معها وتحديدا مع الاحياء .!!
(كريم
كَطافه) كاتب عراقي متحدر من عائلة جنوبية سكنت الحي الشعبي الفقير الذي
تحول إلى مدينة داخل مدينة بغداد. أنها (مدينة الثورة) بفقرائها وكادحيها
ومعاناة سكانها من الإهمال المتعمد، قدمت للبلد الكثير من المثقفين
والسياسين والشعراء الشعبيين والفنانين والرياضين. لها حكايات مختلفة. إنها
مدينة شكلت فسيفساء العلم والثقافة والسياسة
والرياضة. ولاشك أن كاتباً موهوباً يخرج من ثنايا هذه المدينة التي مرت على
الناس فيها سنين صعبة من الإرهاب والقمع والمطاردات البوليسية وملاحقة كل
من لا يتماش مع خط الحزب الحاكم.. بحروبه المتعددة التي أودت بالشباب
العراقي الى أتونها.. سيسجل في كل لحظة بل في كل جزء من الثانية (لقطة
كاميرا) فنية مليئة بالألوان، لتدخل صندوق الذاكرة ومن ثم يدونها على ورق
لتتحول إلى شخصيات وحوارات تتحرك وتتقابل وتتهامس وفق مكنونات الكاتب
وتكويناته الداخلية.
مرآة كريم كَطافة
يقول كولن ولسن : "الرواية محاولة لخلق مرآة من المرايا يستطيع الروائي من خلالها رؤية وجهه"
بدأ
الكاتب وكأنه يصف لنا ليال تجمع الحلو والمر في جنباتها، ليال عاشها
بصراعها وعشقها بين البحث عن الامل الساقط على جرف خاو وبين مصير لايعرفه
إن كان مبصراً أم أعمى.. بين لغات لايفهمها ولهجات ضيقة الفهم وعليه أن
يوسع من مجاذيفها حتى يستطيع العوم فيها لفهم الآخر.. بين العبث والسأم.. جرب الدخول الى المياه الدافئة والباردة وتنفس من حرارة أنفاس (أمينة العراقية) ولياليها العامرة بـ(الجنس الذي لايشبه الجنس) تلك الحسناء التي
دوخت الآخرين الذين يدّعون أنهم يعرفونها ”عاهرة، راقصة، مجندة
للمخابرات".. كانت لياليها "موائد عامرة بالجنس الذي لايشبه الجنس، بل
النهش، كانا يتناهشان بعضهما كالحيوانات الجريحة.. العنف والقسوة سيدا تلك
اللحظات التي تمر على جسديهما السابحين بنثيث العرق الناضح. هي لا تعرف
الجنس الا عراكا حيوانيا، علمته فنون الالتهام وهي ترتشف شبقة البكر حد
الغياب".
هذه الأجواء حولها الكاتب للقاريء الى متع روائية يشعر فيها وهو يبحر معه. إن قراءة تلك الليالي ليلة تلو ليلة وهي المليئة بالدفء والحب والعشق
والالم والمأساة والغضب والمزاح والشرب حتى الثمالة.. ما هي إلا شاهد حي
على ما يفعله البشر عندما يفقد بوصلته.. لتنقلب الموائد على أصحابها من حالة هادئة الى نقاشات سياسية مثيرة.
يحلق فينا على جنبات الكلمات والحوارات والصور في كتابة فنية فيها خاصية التتبع التي تنم عن يقظة
الكاتب وبما يتمتع من الحلم والسرد تبعا للكنوز التي يحملها في ذاكرته
الإنفعالية من حكايات قديمة استلها من عمق التاريخ ليكسر قوانين وقوانين
وليسترسل بها على القاريء ليوقظه معه وليوقعه أيضا في
متاهاته المظلمة والتي كثيرا ما يحاول إن يرسم له ضوءا قادما من بعيد معلنا
إنتهاء ليلة من هذه الليالي وإنبلاج فجرا ونهارا جديدا.
في كل ليلة جديدة ثمة شيء جديد. فهو يضع طعماّ خاصا ويثير في المتابع للأحداث الدهشة والإنبهار، عبر صناعته نسيج سردي لخط درامي يمثل الصراع بين المجهول والمجهول بين الكوابيس والاحلام الضائعة والاوهام
على اليابسة أو في البحر "على ارض واقع ليس لها واقع “ كتب لياليه ببراعة
فنية.. فهو يصل في بعض الأحيإن الى الذروة في كل نهاية ليلة لينتقل الى
التالية.
الفعل الدرامي وقراءة الكاتب مع شخصياته :
في تصاعد الفعل الدرامي هناك شحن للاحداث المختلطة بشخصياته في عالم متفرد موجود بعيدا عن البشر في المجتمعات العادية ومعزول وسط البحر. ألوانه زرقاء بلون البحر حسب عمق المياه اصواته صوت المياه والنوارس الجائعة. فقط مركب يمر او لايمر ليس هناك من تحية بين فعل
وفعل.. شخصيات معقدة ومتعبة سرقها الخوف والعمل والمجهول والشك بالمستقبل
وما سيحصل لاحقا. كان يكتب عن تفاهة الحياة ومأساتها حينما يسير الزمن
سريعا.
يستمد رموزه من قراءاته التاريخية. يستنبطها للواقع اليومي ويحركها كيفما يرى وهي خاصة جدا له. أنه يشعر الآن تماما وكأن لاجديد هناك في الافق أي لاتوجد ضفة اخرى. هذا هو (خالد ابن زوال ) او ( خالد ) فقط ، إنسان مغاير تماما للآخر وعلى خلاف دائم معه. مؤمن بكل شيء سيلتقي به في الضفة الاخرى.. إنه صراع عميق
بين شخصياته التي تؤمن والتي لاتؤمن ونرى الحرص كل الحرص على ايصال الفكرة
للقاريء لإنه يترك له الحياة كيف يعيشها او كيفما يتفق عليها عبر حوارات
منتجة ادبا و فنا راقيا.
وفي
حقيقة أخرى إن أفكار الكاتب (كريم كَطافة) ليست غامضة أبدا. ولم يكن فيها
شيئا من السأم والملل في حين هو يتحدث عن هذه الحالات. نراه متحررا من
الضغوط والأعراف حينما كان يبحث تلك المأساة التي إنطلق منها من مجتمعه..
ليقع في مأساة الغربة وفقدإن الاخلاق ومشاكل الضمير والعلاقة بين الحب
ومشاعر الوجدإن، عندما التقى بشخصياته المتعددة والتي رسم خيوطها بنفسه (رشيد الأردني) و(عبدو التونسي) و(محمد
المغربي) و(حسن المصري) و(أمينه العراقية) و(سامان) الكوردي المصاب بعقدة
التعذيب في جحور المخابرات و(علي) المتدين و(حامد) البعثي.. ومخطوطة
حكيم.... أسماء وأسماء كلٌّ له دور في هذه الرواية الفنية الرائعة.
إن الليالي هي البطل الحقيقي
في ذكرياته والشخصيات هي أهم الرموز التي بنى عليها الإنفعالات والاحداث
ولكن عبر مفاهيم القص والحكي التي اكتنزت فيها ذاكرته منذ الطفولة. هو ينظر
ويتطلع بتوق الى والده وأمه وأخوته وأخواته.. فيختزل القص والحكي من حقب
الماضي ليالي فيها قصصا راسخة .
إن حياة الكاتب التي عاشها كانت تؤشر على أنه عاش حياة صعبة وسكن في محطات أصعب موحشة فيها من العزلة ، مدمرة للنفس والروح والفكر بسبب البعد عن أرضه الحقيقية وناسها. من هذا الاغتراب جاءت شخصيات الرواية التي خلقها وتآلف معها في مجالات واسعة وكثيرة وبنى لهم فضاءات من اجل تعرية هذه الكائنات المشوه .
صوَّر
الليالي في هذه الحياة بما فيها من بؤس وعذاب وحلم وحب، مقدماً طبقا شهيا
عن الاخلاق والضمير وأيضا عن الابتزاز في واقعية رائعة.. عرى كل الأشياء التي رآها أمامه وجعلها تتساقط كاوراق الخريف .
استند
الكاتب في كتابته على عمق اجتماعي متطور زوده بما يحتاجه وكان له الينبوع
أو المصدر المهم جدا الذي اعتمد عليه في عمله حتى جاء بهذا الشكل. إن هذا
العمق هو الجوهر الحقيقي والدافع الاول في ابداع كاتب روائي من طراز خاص هو (كريم كَطافه).
الفردية والجماعة في فكر الكاتب والمعادل الموضوعي :
قدم الكاتب حياة متعددة لشخصيات مختلفة تماما. لكل واحد بصمته. ومع التتبع لهذه الشخصيات التي
تعمل على إنفراد او وسط الجماعة نجدها تعيش حالة اصطدام عنيف فيما بينها
وتضيف الى تعقيدات حياتها تعقيدا آخرا وهذا ما اجاد به الكاتب ايضا. فهو
حينما يسلط الضوء على احداث متضمنه الصراع بين هذه الشخصيات من خلال
حوارات، إنما هو يقدم شكل لمجموعة أحداث أو مواقف مختلفة. وهنا يشير الى
عمله بوجود معادل موضوعي بين الشعور بالغربة والذل والمأساة بعد التحرر من
بلده وبين التردد عن ذلك الشعور والإنتقال من ذات ألفها إلى ذات أخرى حتى،
يصبح في عالم لم يعرفه وغير منتمي إليه وهو الذي كان ينتمي إلى عالم واضح
المعالم. يتركنا هناك مع ذوات متعددة مختلفة المزاج والهوى ويؤشر لنا عن
قوة البناء والتكنيك في تجسيد فكرة كل ليلة من الليالي الاثني عشر، عبر خط ومسار واضح من تداعيات شخصياته وأحداثها، لمجموع تلك الليالي في الرواية. فالإنطلاق من الاحساس بالماضي القريب الذي مازال ملتصق به، الذي كان يعيشه وفق بوصلة، أصبح اليوم يعيش بدون بوصلة ولايعرف الى أين تسير بوصلته إن وجدها. فالصراع ضد اتجاهين وتجسيد المواجهة بينهما هو نقطة المركز وكل واحد يشده اليه .
ربما
حاول الكاتب في روايته هذه التي تعبر عن السيرة الذاتية إن يصنع نموذج من
البطل الفردي خاص به وبشخصيته والمشاكل التي حدثت شرقا وغربا وهو في كامل
قواه العقلية القادرة على رؤية ما يدور من حوله بموضوعية ووعي، قياسا مع
السلوك الذي عاشه مع الشخصيات التي تنم في بعض اللحظات عن عنفها وإنفعالاتها الشديدة وهو بذلك يخرج هذه الخصائص وهو وسط الاحداث.
الخيال والطاقة والحيوية عند الكاتب :
يتمتع الكاتب ( كريم كَطافة) بطاقة وحيوية فعالة جدا في توظيف الأحداث عبر بناء معماري فني مختص هو (فن الرواية). وهذا إنجاز حقيقي مهم
أقام عليه فلسفته ومناقشته لجميع ماكتب من ظواهر سلبية وايجابية، والسبب
في ذلك؛ أنه اعتمد على عملية الخلق الفني للعديد من الاحداث والشخصيات التي
اتسمت بالخيال الواقعي الممزوج بالحب والدراما، حتى تبدو وكأن النهايات
لهذه الاحداث واضحة وهي غير ذلك. فهو خير من يعطي الفكرة بكل مضامينها ثم يطور الاحداث ويشابك الشخصيات في صراعها ويزيد من حالة الاصطدام عبر الفكرة الاساسية المنطلقة من فلسفته الخاصة بتوسع الافكار التي تتوضح شيئا فشيئا. هكذا هو ينبش في تاريخ وحياة الاشياء حتى
يتبين للقارىء الخيط الابيض من الخيط الاسود÷، عبر السرد القصصي لهذه
الشخصيات والكائنات الحية، التي يحركها ضمن صراعاتها في فضاءات الرواية
المتعددة وبقدرة عالية كافية للوصول الى افكار ومشاعر وتفاعل كل شخصية لديه. كان صانعاً بارعاً لشخصياته
عند الحوار والمناقشة وردود الافعال والإنفعالات على حد سواء مثلما هو
يريد لامثلما هي تريد. ولذلك كانت المشاكل تحدث في عالم نستطيع أن نسميه
عالم ( أحلام اليقظة). لإنه في اية لحظة يشعر بالخطر والوصول الى النهاية
المحتومة وهو الهارب الى الامام جراء الهزائم التي رآها وعاشها وسكنت فيه.
إن
مثابرة الكاتب في تجسيد الحوادث جعله أن يكون واعيا لما يكتب ومحفزه
الاساسي هو الإحساس بالهدف الذي يصبو إليه. فحينما يقع في غرام امرأة قد
غازلها، لكنه لم يتعلق بها، حتى لا تتطور الى قصة حب. يصف (أمينه
العراقية)؛ أنها كانت جميلة وحسناء ورومانسية وتبدو على استعداد لاقامة حب معه، إلا أنه لم يكن من ذلك النوع من الرجال الذي يقع في فخ الاغواء. جعلها تدفء فراشه في تلك الليلة وهو العارف تماما إن هذه الليلة ستذهب الى طريق مسدود. لذلك يبقى متماسك وقوي وصامت .
الذكاء والجدل.. المناقشة والهدف :
أهم مايمز (الروائي كَطافة) في روايته هذه، كأنه
يشعر بالنشوة والإنتصار وهو يصف حالة من الحالات، بسبب الإنكسارات التي
عاشها سابقا تحت قيود كبلته، إذ ما زال ظلم وقساوة الأمس مرارتها على
لسانه. واليوم هو المتحرر هو العاشق للحرية والكتابة والشعر.. يكتب بحرية
وبلغة يسودها الترابط الفني الجميل الممتع . إن الرواية تعكس حقا وبصدق
العلاقة المركبة في معاناته بين المواضيع التي ذهب اليها بالاضافة على إنها
اعطت إنعكاسا طبيعيا لطبيعة تلك الليالي وما حصل فيها من خلال تناوله لها،
لكونه يمثّل شخصيتين متوازيتين بالتناقض، تسيرإن على خط درامي واحد في
الرواية.. صوتين قريبين لكنهما مختلفين ينبعثان من أفكار الروائي وفي
أجواء مثيرة محكمة تتمثل في الشكل والبنية، وفي الإصرار على الوصول الى
نقطة الشروع والإنطلاق مرة ثإنية الى الامام والتخلص من أدران الماضي.
استطاع أن يجمع في روايته بين التاريخي والواقعي الفني الجديد وتميز بها
لإنه فنا حكائيا. عندما يتحدث عن أحداث تاريخية وينطلق منها ليدخل الى عالم
الفن الروائي الواقعي الحديث فأن تلك الأحداث تمتد جذورها الى تربة الواقع ومايدور هناك .
يقول : "زمن تراكم، وهو يبحث دونما جدوى عن براهين حسية يدفع بها
وقع حوافر ذلك المشهد الصغير، الذي يتجسد مجتازا نطاق اللحظة، دافعا
بنوايا واعتراضات تنضح بها أيامه بوقائعها المتعرجة الى مساحات قصية مهجورة
من مكور راسه.. يلتّم المشهد على نفسه لاشيء قبله ولاشيء
بعده، يدخل هو فيه.. وقبل أن يغلق بوابته الاخيرة، يسمح لأطياف تهم بالدخول
متسربة إلى بوابته من حكايات لايدري أين قرأها، أو لعله كان قد سمعها خلال
ذلك الحيز الملتبس من طفولته، عن سندباد من بغداد، كان يجتاز البحار
والقفار، يلامس الجن والسمار.. عن البحار السبعة المتلاطمة خلف عالمنا
المنظور..."
إنه
يتبع اسلوب خاص في الكتابة الإبداعية التي تعتمد على الجهد العالي
والتركيز على الناحية الفنية المهمة العسيرة جدا والتي تعبر عن نفس الكاتب.
وهو بالتالي يكتب عن شيء يعرفه تماما أشبه بسيرة ذاتية واعترافات وإرهاصات
جاءت عبر مخاضات صعبة، لم يكن يفكر فيها في يوم من الايام، لكنها ارتمت
عليه وارتمى في احضانها.
اللغة واللهجة الشعبية :
ولايفوتني أن أتحدث عن كيفية وأهمية استخدامه لغة نثر عادية مشتركة بين لهجة ولغة استلّها من اعماق الحياة اليومية التي عاشها وأخضعها
الى اسلوبه الخاص في الروي بالاضافة الى ترشيق الجمل وتكوين الصور باتجاه
واقعي. لقد استفاد من استخدام اللهجات العربية المتعددة المحكية للشخصيات
التي رسمها في تجاذب الاحاديث والنقاشات بين شخصياته وحاول بكل جهد أن
يقول مالديه. كانت الأشياء تحتشد في أعماقه ولم يستطيع اخراجها الا عندما
حصل على منفذ الحرية هذه بعد خروجه من القفص (من بلده) وحلق طائرا بعيدا
كالنورس. صار لديه متسع من الوقت مع التدفق الهائل لإنبثاق الحكايا والصور.
إن ذكاء الكاتب ينم عن أنه يتمتع بموهبة بالاصل في معرفة التطرق الى
الاحاديث وكيفية سرد الحكاية على الناس، كما ويعرف كيف يصنع نسيج هذه
الحكاية حتى لو أضاف اليها شيئا من عندياته. فهناك القدرة على السيطرة عليها دون إن تفلت من يديه وافكاره و إن كإنت هناك امورا طارئه تدخل على افكاره وإن يجد لها حلا في حيز القاريءاو ربما لايكون هناك حلا عبر الرواية!!! لذلك فهو يتامل الماضي السردي لاستعادة الاشياء بتفاصيلها .
استطاع الكاتب إن يتحدى القدر عبر امكإناته واحاسيه ليرسم عبر نفس عميق صورا واحداثا صعبة لابد وأن يتاملها القارىء، كيف واجه الحياة (كريم كَطافة) الذي قدم نفسه في الرواية كمرآة لوجهه، لإنه لم يعرف كيفية
الصراع الداخلي بينه وبين نفسه بين (خالد بن زوال) وبين (خالد)، تلك
الصورة المشوهه التي تداعت كثيرا واختلفت كثيرا. استطاع أن يوصف عالم احاط
به، عالم سيء فيه من المخاطر وقد وصفه بدقة وجمالية غاية الروعة وبشكل خلاق
.
التوصيف في عقلية الكاتب :
من مميزات الكاتب الجميلة
هي طريقة التوصيف للأشياء والأحداث والشخصيات مما يساعد على تطور الحدث
وأن يقدمه في نسيج العمل الروائي وبنفس الوقت يؤدي وظيفة ويصاغ بلغة قريبة
الى لغة الشخصية نفسها الموصوفة لا بلغة الكاتب. لذلك فإن عملية التوصيف
هذه تلعب دورا اساسيا ومهما في أحداث رواية (ليالي ابن زوال). كانت هي
العامل الاساسي لرسم الشخصيات التي تعبر عن أفعالها أو تقدم سلوكياتها
وبالتالي نستشف قدرة كبيرة تصويرية للأحداث والأشياء للكاتب.
فيجسد بذلك المنعطفات والمتغيرات التي تخضع لمعالجات الكاتب، لأنه يعرف
متى يتدخل في حياة شخصياته وكيف يرويها من مياهه العذبة وكيف يسهر على نمو كل جملة أو صورة أو حواراً من خلال أفكاره ومعتقداته ومن ثم يترك لشخصياته حرية تقرير المصير عن مسؤولياتها باتخاذ القرار.
ومن
الجميل أيضا في ذلك، أن الكاتب يترك الفضاء الواسع لنمو شخصياته ويدعها
تتطور وفق الواقع وهذا التوصيف أيضا جاء من كون الكاتب عاش صراعا مريرا مع
نفسه وكانت المحصلة هي اسقاط احساسه الخاص على الشخصية الثانية التي تعبر
عن الذات. فالمعإناة التي عاشها في جميع المحطات من (أثينا) إلى (تسالونيك)
إلى ظهر الباخرة ثم إلى (تونس) وإلى (فينيسيا) وإلى (فرانكفورت) ما هي إلا
قوة إضافية زودته بروح فاعلة وايمإن بإنه لابد وأن ينتصر. لإنه يؤمن
بالإنسإن ولابد من أن ينهض من كبوته وينتصر. إذن الكاتب يعرف ماذا يريد
وهذا هو المهم جدا.
في هذه الليالي
تتكدس المآىسي في جمجمة الكاتب، لكنه لا يأبى لذلك، لأنه يمسك خطا واضحا
في الحياة يسير عليه، ولأنه يعتبر الحياة هي الجد عينه وليس العبث.. وفي
نفس الوقت يحتج ضد هذه الحياة لكثرة المآسي وتوسع وإنتشار دمارها على
البشر..!!
لذلك فهو يعيش بين الذات والهدف في مواجهة أي أزمة، مع أي مواجهة يتحرك الهدف عبر ذات الكاتب ليظهر الصراع على السطح من خلال قنواته وبنقاش ساخن مرة واخرى هادىء وهنا يمكن أن نعتبر ذلك مهمة جيدة من مهمات الابداع الفني في عملية الكتابة .
هكذا هي صنعة الابداع عند الروائي كريم كَطافة
لابد من القول في هذه الرواية، بأن هناك ذوق جمالي عام. يستطيع القاريء أن يتلذذ بمحتويات
الليالي، لإن الكاتب أبتكر ذوق خاص في طريقة الكتابة معتمداً على التجربة
الذاتية الشخصية الإنسإنية المكتنزة فيه وفي ذوقه من خلال تفعيله لمهاراته
الفنية والابداعية والعقلية بالدرجة الاساس، واضعا أمام القاريء مخطوطة
فنية جميلة يملؤها التركيز والتكثيف وباستمرارية غير محددة لطبيعة القص
البالغ الاتساع والتصريح بكل شيء لجنس الرواية دون الاشارة
الى التلميح، باختلاط المشهد المتخيل في الذهن مع مايطابق التجربة الشخصية
الفعلية عبر مستودع الذاكرة الإنفعالية التي فرضت القدحات المتتالية على
الكاتب وانتقلت به إلى الماضي ثم تعود به ليرمي باسقاطات الواقع اليومي
الجديد على أفكاره عبر بوابة الخيال والتخيل واتقإن فن الكتابة مع ما يتمتع
من ثقافة وخبرة في الحياة .
أعتقد
أن الروائي (كريم كَطافة) في روايته هذه (وهي الأولى له)، قد قدم نفسه
وأوصل غرضه للقارئ بطريقة ذكية لامس فيها الحقائق وقدمها بشكل واضح لاغبار
عليه عبر اكتشافات لعوالم الإنسان الداخلية المخفية “
وكما يقول (كولن ولسن) : "إن معظم الكتاب يتعلمون من رواياتهم الأولى أكثر مما يتعلمونه من أية رواية اخرى". نعمة السوداني
مابالي بالاحياء منهم ..!؟
هكذا يبدأ الكاتب في مقدمة لروايته الرائعة - ليالي ابن زوال- يقدم لنا رؤيته الفنية للحياة وكيفية التعامل معها وتحديدا مع الاحياء .!!
(كريم
كَطافه) كاتب عراقي متحدر من عائلة جنوبية سكنت الحي الشعبي الفقير الذي
تحول إلى مدينة داخل مدينة بغداد. أنها (مدينة الثورة) بفقرائها وكادحيها
ومعاناة سكانها من الإهمال المتعمد، قدمت للبلد الكثير من المثقفين
والسياسين والشعراء الشعبيين والفنانين والرياضين. لها حكايات مختلفة. إنها
مدينة شكلت فسيفساء العلم والثقافة والسياسة
والرياضة. ولاشك أن كاتباً موهوباً يخرج من ثنايا هذه المدينة التي مرت على
الناس فيها سنين صعبة من الإرهاب والقمع والمطاردات البوليسية وملاحقة كل
من لا يتماش مع خط الحزب الحاكم.. بحروبه المتعددة التي أودت بالشباب
العراقي الى أتونها.. سيسجل في كل لحظة بل في كل جزء من الثانية (لقطة
كاميرا) فنية مليئة بالألوان، لتدخل صندوق الذاكرة ومن ثم يدونها على ورق
لتتحول إلى شخصيات وحوارات تتحرك وتتقابل وتتهامس وفق مكنونات الكاتب
وتكويناته الداخلية.
مرآة كريم كَطافة
يقول كولن ولسن : "الرواية محاولة لخلق مرآة من المرايا يستطيع الروائي من خلالها رؤية وجهه"
بدأ
الكاتب وكأنه يصف لنا ليال تجمع الحلو والمر في جنباتها، ليال عاشها
بصراعها وعشقها بين البحث عن الامل الساقط على جرف خاو وبين مصير لايعرفه
إن كان مبصراً أم أعمى.. بين لغات لايفهمها ولهجات ضيقة الفهم وعليه أن
يوسع من مجاذيفها حتى يستطيع العوم فيها لفهم الآخر.. بين العبث والسأم.. جرب الدخول الى المياه الدافئة والباردة وتنفس من حرارة أنفاس (أمينة العراقية) ولياليها العامرة بـ(الجنس الذي لايشبه الجنس) تلك الحسناء التي
دوخت الآخرين الذين يدّعون أنهم يعرفونها ”عاهرة، راقصة، مجندة
للمخابرات".. كانت لياليها "موائد عامرة بالجنس الذي لايشبه الجنس، بل
النهش، كانا يتناهشان بعضهما كالحيوانات الجريحة.. العنف والقسوة سيدا تلك
اللحظات التي تمر على جسديهما السابحين بنثيث العرق الناضح. هي لا تعرف
الجنس الا عراكا حيوانيا، علمته فنون الالتهام وهي ترتشف شبقة البكر حد
الغياب".
هذه الأجواء حولها الكاتب للقاريء الى متع روائية يشعر فيها وهو يبحر معه. إن قراءة تلك الليالي ليلة تلو ليلة وهي المليئة بالدفء والحب والعشق
والالم والمأساة والغضب والمزاح والشرب حتى الثمالة.. ما هي إلا شاهد حي
على ما يفعله البشر عندما يفقد بوصلته.. لتنقلب الموائد على أصحابها من حالة هادئة الى نقاشات سياسية مثيرة.
يحلق فينا على جنبات الكلمات والحوارات والصور في كتابة فنية فيها خاصية التتبع التي تنم عن يقظة
الكاتب وبما يتمتع من الحلم والسرد تبعا للكنوز التي يحملها في ذاكرته
الإنفعالية من حكايات قديمة استلها من عمق التاريخ ليكسر قوانين وقوانين
وليسترسل بها على القاريء ليوقظه معه وليوقعه أيضا في
متاهاته المظلمة والتي كثيرا ما يحاول إن يرسم له ضوءا قادما من بعيد معلنا
إنتهاء ليلة من هذه الليالي وإنبلاج فجرا ونهارا جديدا.
في كل ليلة جديدة ثمة شيء جديد. فهو يضع طعماّ خاصا ويثير في المتابع للأحداث الدهشة والإنبهار، عبر صناعته نسيج سردي لخط درامي يمثل الصراع بين المجهول والمجهول بين الكوابيس والاحلام الضائعة والاوهام
على اليابسة أو في البحر "على ارض واقع ليس لها واقع “ كتب لياليه ببراعة
فنية.. فهو يصل في بعض الأحيإن الى الذروة في كل نهاية ليلة لينتقل الى
التالية.
الفعل الدرامي وقراءة الكاتب مع شخصياته :
في تصاعد الفعل الدرامي هناك شحن للاحداث المختلطة بشخصياته في عالم متفرد موجود بعيدا عن البشر في المجتمعات العادية ومعزول وسط البحر. ألوانه زرقاء بلون البحر حسب عمق المياه اصواته صوت المياه والنوارس الجائعة. فقط مركب يمر او لايمر ليس هناك من تحية بين فعل
وفعل.. شخصيات معقدة ومتعبة سرقها الخوف والعمل والمجهول والشك بالمستقبل
وما سيحصل لاحقا. كان يكتب عن تفاهة الحياة ومأساتها حينما يسير الزمن
سريعا.
يستمد رموزه من قراءاته التاريخية. يستنبطها للواقع اليومي ويحركها كيفما يرى وهي خاصة جدا له. أنه يشعر الآن تماما وكأن لاجديد هناك في الافق أي لاتوجد ضفة اخرى. هذا هو (خالد ابن زوال ) او ( خالد ) فقط ، إنسان مغاير تماما للآخر وعلى خلاف دائم معه. مؤمن بكل شيء سيلتقي به في الضفة الاخرى.. إنه صراع عميق
بين شخصياته التي تؤمن والتي لاتؤمن ونرى الحرص كل الحرص على ايصال الفكرة
للقاريء لإنه يترك له الحياة كيف يعيشها او كيفما يتفق عليها عبر حوارات
منتجة ادبا و فنا راقيا.
وفي
حقيقة أخرى إن أفكار الكاتب (كريم كَطافة) ليست غامضة أبدا. ولم يكن فيها
شيئا من السأم والملل في حين هو يتحدث عن هذه الحالات. نراه متحررا من
الضغوط والأعراف حينما كان يبحث تلك المأساة التي إنطلق منها من مجتمعه..
ليقع في مأساة الغربة وفقدإن الاخلاق ومشاكل الضمير والعلاقة بين الحب
ومشاعر الوجدإن، عندما التقى بشخصياته المتعددة والتي رسم خيوطها بنفسه (رشيد الأردني) و(عبدو التونسي) و(محمد
المغربي) و(حسن المصري) و(أمينه العراقية) و(سامان) الكوردي المصاب بعقدة
التعذيب في جحور المخابرات و(علي) المتدين و(حامد) البعثي.. ومخطوطة
حكيم.... أسماء وأسماء كلٌّ له دور في هذه الرواية الفنية الرائعة.
إن الليالي هي البطل الحقيقي
في ذكرياته والشخصيات هي أهم الرموز التي بنى عليها الإنفعالات والاحداث
ولكن عبر مفاهيم القص والحكي التي اكتنزت فيها ذاكرته منذ الطفولة. هو ينظر
ويتطلع بتوق الى والده وأمه وأخوته وأخواته.. فيختزل القص والحكي من حقب
الماضي ليالي فيها قصصا راسخة .
إن حياة الكاتب التي عاشها كانت تؤشر على أنه عاش حياة صعبة وسكن في محطات أصعب موحشة فيها من العزلة ، مدمرة للنفس والروح والفكر بسبب البعد عن أرضه الحقيقية وناسها. من هذا الاغتراب جاءت شخصيات الرواية التي خلقها وتآلف معها في مجالات واسعة وكثيرة وبنى لهم فضاءات من اجل تعرية هذه الكائنات المشوه .
صوَّر
الليالي في هذه الحياة بما فيها من بؤس وعذاب وحلم وحب، مقدماً طبقا شهيا
عن الاخلاق والضمير وأيضا عن الابتزاز في واقعية رائعة.. عرى كل الأشياء التي رآها أمامه وجعلها تتساقط كاوراق الخريف .
استند
الكاتب في كتابته على عمق اجتماعي متطور زوده بما يحتاجه وكان له الينبوع
أو المصدر المهم جدا الذي اعتمد عليه في عمله حتى جاء بهذا الشكل. إن هذا
العمق هو الجوهر الحقيقي والدافع الاول في ابداع كاتب روائي من طراز خاص هو (كريم كَطافه).
الفردية والجماعة في فكر الكاتب والمعادل الموضوعي :
قدم الكاتب حياة متعددة لشخصيات مختلفة تماما. لكل واحد بصمته. ومع التتبع لهذه الشخصيات التي
تعمل على إنفراد او وسط الجماعة نجدها تعيش حالة اصطدام عنيف فيما بينها
وتضيف الى تعقيدات حياتها تعقيدا آخرا وهذا ما اجاد به الكاتب ايضا. فهو
حينما يسلط الضوء على احداث متضمنه الصراع بين هذه الشخصيات من خلال
حوارات، إنما هو يقدم شكل لمجموعة أحداث أو مواقف مختلفة. وهنا يشير الى
عمله بوجود معادل موضوعي بين الشعور بالغربة والذل والمأساة بعد التحرر من
بلده وبين التردد عن ذلك الشعور والإنتقال من ذات ألفها إلى ذات أخرى حتى،
يصبح في عالم لم يعرفه وغير منتمي إليه وهو الذي كان ينتمي إلى عالم واضح
المعالم. يتركنا هناك مع ذوات متعددة مختلفة المزاج والهوى ويؤشر لنا عن
قوة البناء والتكنيك في تجسيد فكرة كل ليلة من الليالي الاثني عشر، عبر خط ومسار واضح من تداعيات شخصياته وأحداثها، لمجموع تلك الليالي في الرواية. فالإنطلاق من الاحساس بالماضي القريب الذي مازال ملتصق به، الذي كان يعيشه وفق بوصلة، أصبح اليوم يعيش بدون بوصلة ولايعرف الى أين تسير بوصلته إن وجدها. فالصراع ضد اتجاهين وتجسيد المواجهة بينهما هو نقطة المركز وكل واحد يشده اليه .
ربما
حاول الكاتب في روايته هذه التي تعبر عن السيرة الذاتية إن يصنع نموذج من
البطل الفردي خاص به وبشخصيته والمشاكل التي حدثت شرقا وغربا وهو في كامل
قواه العقلية القادرة على رؤية ما يدور من حوله بموضوعية ووعي، قياسا مع
السلوك الذي عاشه مع الشخصيات التي تنم في بعض اللحظات عن عنفها وإنفعالاتها الشديدة وهو بذلك يخرج هذه الخصائص وهو وسط الاحداث.
الخيال والطاقة والحيوية عند الكاتب :
يتمتع الكاتب ( كريم كَطافة) بطاقة وحيوية فعالة جدا في توظيف الأحداث عبر بناء معماري فني مختص هو (فن الرواية). وهذا إنجاز حقيقي مهم
أقام عليه فلسفته ومناقشته لجميع ماكتب من ظواهر سلبية وايجابية، والسبب
في ذلك؛ أنه اعتمد على عملية الخلق الفني للعديد من الاحداث والشخصيات التي
اتسمت بالخيال الواقعي الممزوج بالحب والدراما، حتى تبدو وكأن النهايات
لهذه الاحداث واضحة وهي غير ذلك. فهو خير من يعطي الفكرة بكل مضامينها ثم يطور الاحداث ويشابك الشخصيات في صراعها ويزيد من حالة الاصطدام عبر الفكرة الاساسية المنطلقة من فلسفته الخاصة بتوسع الافكار التي تتوضح شيئا فشيئا. هكذا هو ينبش في تاريخ وحياة الاشياء حتى
يتبين للقارىء الخيط الابيض من الخيط الاسود÷، عبر السرد القصصي لهذه
الشخصيات والكائنات الحية، التي يحركها ضمن صراعاتها في فضاءات الرواية
المتعددة وبقدرة عالية كافية للوصول الى افكار ومشاعر وتفاعل كل شخصية لديه. كان صانعاً بارعاً لشخصياته
عند الحوار والمناقشة وردود الافعال والإنفعالات على حد سواء مثلما هو
يريد لامثلما هي تريد. ولذلك كانت المشاكل تحدث في عالم نستطيع أن نسميه
عالم ( أحلام اليقظة). لإنه في اية لحظة يشعر بالخطر والوصول الى النهاية
المحتومة وهو الهارب الى الامام جراء الهزائم التي رآها وعاشها وسكنت فيه.
إن
مثابرة الكاتب في تجسيد الحوادث جعله أن يكون واعيا لما يكتب ومحفزه
الاساسي هو الإحساس بالهدف الذي يصبو إليه. فحينما يقع في غرام امرأة قد
غازلها، لكنه لم يتعلق بها، حتى لا تتطور الى قصة حب. يصف (أمينه
العراقية)؛ أنها كانت جميلة وحسناء ورومانسية وتبدو على استعداد لاقامة حب معه، إلا أنه لم يكن من ذلك النوع من الرجال الذي يقع في فخ الاغواء. جعلها تدفء فراشه في تلك الليلة وهو العارف تماما إن هذه الليلة ستذهب الى طريق مسدود. لذلك يبقى متماسك وقوي وصامت .
الذكاء والجدل.. المناقشة والهدف :
أهم مايمز (الروائي كَطافة) في روايته هذه، كأنه
يشعر بالنشوة والإنتصار وهو يصف حالة من الحالات، بسبب الإنكسارات التي
عاشها سابقا تحت قيود كبلته، إذ ما زال ظلم وقساوة الأمس مرارتها على
لسانه. واليوم هو المتحرر هو العاشق للحرية والكتابة والشعر.. يكتب بحرية
وبلغة يسودها الترابط الفني الجميل الممتع . إن الرواية تعكس حقا وبصدق
العلاقة المركبة في معاناته بين المواضيع التي ذهب اليها بالاضافة على إنها
اعطت إنعكاسا طبيعيا لطبيعة تلك الليالي وما حصل فيها من خلال تناوله لها،
لكونه يمثّل شخصيتين متوازيتين بالتناقض، تسيرإن على خط درامي واحد في
الرواية.. صوتين قريبين لكنهما مختلفين ينبعثان من أفكار الروائي وفي
أجواء مثيرة محكمة تتمثل في الشكل والبنية، وفي الإصرار على الوصول الى
نقطة الشروع والإنطلاق مرة ثإنية الى الامام والتخلص من أدران الماضي.
استطاع أن يجمع في روايته بين التاريخي والواقعي الفني الجديد وتميز بها
لإنه فنا حكائيا. عندما يتحدث عن أحداث تاريخية وينطلق منها ليدخل الى عالم
الفن الروائي الواقعي الحديث فأن تلك الأحداث تمتد جذورها الى تربة الواقع ومايدور هناك .
يقول : "زمن تراكم، وهو يبحث دونما جدوى عن براهين حسية يدفع بها
وقع حوافر ذلك المشهد الصغير، الذي يتجسد مجتازا نطاق اللحظة، دافعا
بنوايا واعتراضات تنضح بها أيامه بوقائعها المتعرجة الى مساحات قصية مهجورة
من مكور راسه.. يلتّم المشهد على نفسه لاشيء قبله ولاشيء
بعده، يدخل هو فيه.. وقبل أن يغلق بوابته الاخيرة، يسمح لأطياف تهم بالدخول
متسربة إلى بوابته من حكايات لايدري أين قرأها، أو لعله كان قد سمعها خلال
ذلك الحيز الملتبس من طفولته، عن سندباد من بغداد، كان يجتاز البحار
والقفار، يلامس الجن والسمار.. عن البحار السبعة المتلاطمة خلف عالمنا
المنظور..."
إنه
يتبع اسلوب خاص في الكتابة الإبداعية التي تعتمد على الجهد العالي
والتركيز على الناحية الفنية المهمة العسيرة جدا والتي تعبر عن نفس الكاتب.
وهو بالتالي يكتب عن شيء يعرفه تماما أشبه بسيرة ذاتية واعترافات وإرهاصات
جاءت عبر مخاضات صعبة، لم يكن يفكر فيها في يوم من الايام، لكنها ارتمت
عليه وارتمى في احضانها.
اللغة واللهجة الشعبية :
ولايفوتني أن أتحدث عن كيفية وأهمية استخدامه لغة نثر عادية مشتركة بين لهجة ولغة استلّها من اعماق الحياة اليومية التي عاشها وأخضعها
الى اسلوبه الخاص في الروي بالاضافة الى ترشيق الجمل وتكوين الصور باتجاه
واقعي. لقد استفاد من استخدام اللهجات العربية المتعددة المحكية للشخصيات
التي رسمها في تجاذب الاحاديث والنقاشات بين شخصياته وحاول بكل جهد أن
يقول مالديه. كانت الأشياء تحتشد في أعماقه ولم يستطيع اخراجها الا عندما
حصل على منفذ الحرية هذه بعد خروجه من القفص (من بلده) وحلق طائرا بعيدا
كالنورس. صار لديه متسع من الوقت مع التدفق الهائل لإنبثاق الحكايا والصور.
إن ذكاء الكاتب ينم عن أنه يتمتع بموهبة بالاصل في معرفة التطرق الى
الاحاديث وكيفية سرد الحكاية على الناس، كما ويعرف كيف يصنع نسيج هذه
الحكاية حتى لو أضاف اليها شيئا من عندياته. فهناك القدرة على السيطرة عليها دون إن تفلت من يديه وافكاره و إن كإنت هناك امورا طارئه تدخل على افكاره وإن يجد لها حلا في حيز القاريءاو ربما لايكون هناك حلا عبر الرواية!!! لذلك فهو يتامل الماضي السردي لاستعادة الاشياء بتفاصيلها .
استطاع الكاتب إن يتحدى القدر عبر امكإناته واحاسيه ليرسم عبر نفس عميق صورا واحداثا صعبة لابد وأن يتاملها القارىء، كيف واجه الحياة (كريم كَطافة) الذي قدم نفسه في الرواية كمرآة لوجهه، لإنه لم يعرف كيفية
الصراع الداخلي بينه وبين نفسه بين (خالد بن زوال) وبين (خالد)، تلك
الصورة المشوهه التي تداعت كثيرا واختلفت كثيرا. استطاع أن يوصف عالم احاط
به، عالم سيء فيه من المخاطر وقد وصفه بدقة وجمالية غاية الروعة وبشكل خلاق
.
التوصيف في عقلية الكاتب :
من مميزات الكاتب الجميلة
هي طريقة التوصيف للأشياء والأحداث والشخصيات مما يساعد على تطور الحدث
وأن يقدمه في نسيج العمل الروائي وبنفس الوقت يؤدي وظيفة ويصاغ بلغة قريبة
الى لغة الشخصية نفسها الموصوفة لا بلغة الكاتب. لذلك فإن عملية التوصيف
هذه تلعب دورا اساسيا ومهما في أحداث رواية (ليالي ابن زوال). كانت هي
العامل الاساسي لرسم الشخصيات التي تعبر عن أفعالها أو تقدم سلوكياتها
وبالتالي نستشف قدرة كبيرة تصويرية للأحداث والأشياء للكاتب.
فيجسد بذلك المنعطفات والمتغيرات التي تخضع لمعالجات الكاتب، لأنه يعرف
متى يتدخل في حياة شخصياته وكيف يرويها من مياهه العذبة وكيف يسهر على نمو كل جملة أو صورة أو حواراً من خلال أفكاره ومعتقداته ومن ثم يترك لشخصياته حرية تقرير المصير عن مسؤولياتها باتخاذ القرار.
ومن
الجميل أيضا في ذلك، أن الكاتب يترك الفضاء الواسع لنمو شخصياته ويدعها
تتطور وفق الواقع وهذا التوصيف أيضا جاء من كون الكاتب عاش صراعا مريرا مع
نفسه وكانت المحصلة هي اسقاط احساسه الخاص على الشخصية الثانية التي تعبر
عن الذات. فالمعإناة التي عاشها في جميع المحطات من (أثينا) إلى (تسالونيك)
إلى ظهر الباخرة ثم إلى (تونس) وإلى (فينيسيا) وإلى (فرانكفورت) ما هي إلا
قوة إضافية زودته بروح فاعلة وايمإن بإنه لابد وأن ينتصر. لإنه يؤمن
بالإنسإن ولابد من أن ينهض من كبوته وينتصر. إذن الكاتب يعرف ماذا يريد
وهذا هو المهم جدا.
في هذه الليالي
تتكدس المآىسي في جمجمة الكاتب، لكنه لا يأبى لذلك، لأنه يمسك خطا واضحا
في الحياة يسير عليه، ولأنه يعتبر الحياة هي الجد عينه وليس العبث.. وفي
نفس الوقت يحتج ضد هذه الحياة لكثرة المآسي وتوسع وإنتشار دمارها على
البشر..!!
لذلك فهو يعيش بين الذات والهدف في مواجهة أي أزمة، مع أي مواجهة يتحرك الهدف عبر ذات الكاتب ليظهر الصراع على السطح من خلال قنواته وبنقاش ساخن مرة واخرى هادىء وهنا يمكن أن نعتبر ذلك مهمة جيدة من مهمات الابداع الفني في عملية الكتابة .
هكذا هي صنعة الابداع عند الروائي كريم كَطافة
لابد من القول في هذه الرواية، بأن هناك ذوق جمالي عام. يستطيع القاريء أن يتلذذ بمحتويات
الليالي، لإن الكاتب أبتكر ذوق خاص في طريقة الكتابة معتمداً على التجربة
الذاتية الشخصية الإنسإنية المكتنزة فيه وفي ذوقه من خلال تفعيله لمهاراته
الفنية والابداعية والعقلية بالدرجة الاساس، واضعا أمام القاريء مخطوطة
فنية جميلة يملؤها التركيز والتكثيف وباستمرارية غير محددة لطبيعة القص
البالغ الاتساع والتصريح بكل شيء لجنس الرواية دون الاشارة
الى التلميح، باختلاط المشهد المتخيل في الذهن مع مايطابق التجربة الشخصية
الفعلية عبر مستودع الذاكرة الإنفعالية التي فرضت القدحات المتتالية على
الكاتب وانتقلت به إلى الماضي ثم تعود به ليرمي باسقاطات الواقع اليومي
الجديد على أفكاره عبر بوابة الخيال والتخيل واتقإن فن الكتابة مع ما يتمتع
من ثقافة وخبرة في الحياة .
أعتقد
أن الروائي (كريم كَطافة) في روايته هذه (وهي الأولى له)، قد قدم نفسه
وأوصل غرضه للقارئ بطريقة ذكية لامس فيها الحقائق وقدمها بشكل واضح لاغبار
عليه عبر اكتشافات لعوالم الإنسان الداخلية المخفية “
وكما يقول (كولن ولسن) : "إن معظم الكتاب يتعلمون من رواياتهم الأولى أكثر مما يتعلمونه من أية رواية اخرى". نعمة السوداني